المرأة في حياة الإمام علي (ع)
الشيخ حسين الخشن
المرأة في حياة علي(ع)
إنّ مَنْ يروم التعرّف على رأي الإمام علي(ع) في المرأة، أو رأي غيره من الشخصيات القياديّة التي لها حضور بارز في المجال العام، لا يمكنه -كما أسلفنا في المحور الأول- أن يقتصر على ملاحظة ما يستفاد من نصوصه وكلماته فحسب، بل لا بدّ له من ملاحظة سيرته العمليّة مع المرأة، وكيف كان يتعامل معها؟ فهل كان يحتقرها ويهينها أم كان يجلّها ويقدرها؟ وما هو دورها في حياته؟
ومع أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، فإنّ الحقيقة التي سوف يكتشفها الباحث المنصف، هي أنّ احترام علي(ع) للمرأة واعترافه بإنسانيتها وإيمانه بدورها وتقديره لشخصها ومكانتها هو أمر لا شك فيه، وهذه الحقيقة تؤكّدها سيرته العمليّة وحضور المرأة اللافت في حياته الخاصة والعامة، وسوف نحاول فيما يأتي تسجيل بعض مواقفه(ع) التي نقلها لنا التاريخ الإسلامي مما يعكس هذه الحقيقة بجلاء.
أولاً: علاقة علي(ع) بالمرأة في ضوء التحليل النفسي التربوي
ولكن وقبل استعراض تلك المواقف، قد يكون من المفيد في مستهل هذا الفصل مقاربة هذه المسألة، وهي نظرة الإمام علي(ع) للمرأة، بطريقة مختلفة بعيداً عن الاعتماد على مبدأ العصمة، حيث إنّ الإجابة المبنيّة على ذلك قد لا تكون مقنعة لبعض الناس ممن يريد جواباً معتمداً على تحليلٍ عقلائي يُبعد القضية عن التعبّد والغيبيّة. وفي هذا المجال يمكننا أن نقدّم تحليلاً يعتمد على قواعد علم الاجتماع وأسس علم النفس التربوي، ليجيبا على التساؤل التالي: إذا كان صحيحاً ما يقال من أنّ لعلي(ع) رؤيةً سلبيّة تجاه المرأة، فمن أين يا ترى جاءته هذه الرؤية وحَمَلَ هذه الأفكار؟ وكيف استولت عليه هذه النظرة القاتمة إزاء المرأة؟
وهذا التحليل ينطلق من قاعدة أساسيّة، وهي أنّ الإنسان ابن بيئته، ويتأثر في أفكاره وعواطفه وسلوكه بهذه البيئة، وهناك عدّة مصادر أو عناصر تكوّن شخصيته ويستمد منها أفكاره ويستلهم منها سلوكياته، وهي:
بيئته ومحيطه العام، فالإنسان مهما سما ونبغ، فإنّه لا يتخلّص من التأثر ببيئته العامة، وهي المجتمع الذي يعيش فيه، فهذا يؤثر فيه فكرياً وثقافياً وسلوكياً، ولا بدّ أن تظلّ بعض رواسب تلك البيئة عالقة في ذهنه.
البيئة الخاصة، أعني أسرته الصغيرة، ويأتي الأبوان في الدرجة الأولى من التأثير على شخصية الإنسان، ومن ثم يأتي إخوته وأعمامه وأخواله، وغيرهم ممن لهم دور في تربيته وتنشئته.
معلموه وأساتذته وملهموه، وهؤلاء لهم دور واضح في تشكيل قناعاته وأفكاره وتحديد سلوكياته.
والرجوع إلى حياة الإمام علي(ع) يعطينا جواباً حاسماً بأنّ هذه المصادر الثلاثة لبناء الشخصيّة البشريّة ما كان لها أن تجعلَه يقفُ موقفاً سلبياً من المرأة، فعلي(ع) هو ابن الإسلام وربيب القرآن، وقد اشتدّ عوده في رحاب الدين الجديد وفتح عينيه على تعاليمه التي كرّمت المرأة واحترمت إنسانيتها، ولم يعرف الإمام(ع) شيئاً من التلوث الفكري الذي أصاب الكثيرين، ولم تدنسه الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها. فقد عاش في حضن رسول الله(ص) وتربّى على يديه ونهل من معينه الروحي والأخلاقي منذ سني طفولته الأولى، وكما قال(ع) عن علاقته برسول الله(ص): «ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ اللَّه(ص) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ»[1].
وفي ضوء ذلك، فلا يبقى أمامنا بعد استبعاد هذه المناشئ سوى احتمال رابع تفترضه قواعد علم النفس التربوي في مثل هذه الحالات، وهذا الاحتمال هو أنّ ثمة عقدة خاصة لدى علي(ع) من المرأة دفعته ليقول فيها ما قال، وقد حصلت له هذه العقدة نتيجة تجربة مريرة على المستوى الشخصي. إذ من المعلوم لدى علماء النفس أنّ الإنسان إذا مرّ في حياته ولا سيّما في سنيّ عمره الأولى - مثلاً - بتجربة مريرة وصادمة مع شخص معين، فسوف يترك ذلك أثراً نفسياً سلبياً عليه، وقد يحفر ذلك في ذاكرته جرحاً بليغاً، ما يدفعه إلى اتخاذ موقف عدائي تجاه الشخص المذكور وكل مَنْ يمتُّ إليه بصلة. وهذا الأمر يحصل مع الإناث والذكور، فالمرأة التي تتعرض للاغتصاب - مثلاً -، قد يخلق ذلك عندها عقدة من جنس الرجال، وهكذا قد يحصل لبعض الرجال عقدة من النساء لتجربة مريرة، كما لو فرض - مثلاً - أنّ بعض النساء اللاتي أَحَطْنَ به كنّ في مستوى من الانحطاط الروحي أو الفكري أو الأخلاقي، أو فُرِضَ أنّ إحداهن قد ارتكبت عملاً مشيناً، فهذا الأمر قد يخلق لديه عقدة نفسية من جنس المرأة ويدفعه لردة فعل سلبيّة تجاهها. والسؤال: هل يمكن أن نفسر ما يُعزى إلى علي(ع) من موقف سلبي تجاه المرأة على ضوء هذا الاحتمال؟
والجواب على ذلك أنّنا لو تأملنا سيرة علي(ع) جيداً، فسوف نكتشف أنّ مثل هذا الاحتمال - أيضاً - غير وارد في سجل حياته، بل القضيّة على العكس تماماً، فكلُّ النسوة اللاتي أحطن به(ع) كنّ القمة في الطهارة والعفة والفضيلة، فأمّه فاطمة بنت أسد كانت المرأة الفاضلة المؤمنة التي يُضرب المثل بها وبنبلها وإيمانها وأخلاقها، وأخواتُه وعماتُه كنّ من النساء الفاضلات، وأمّا زوجته السيدة فاطمة فهي سيدة نساء العالمين وأحبّ الناس إلى قلبه وروحه. وهكذا فإنّ حياة الإمام علي(ع) الشخصيّة مع المرأة كانت حياة مستقرة، فقد تزوّج أكثر من امرأة وعاش معهنّ حياةً هانئة، وأنجب منهنّ البنين والبنات، وعمل على تربيتهم كأحسن ما تكون التربية، وسيأتي حديثٌ مفصَّلٌ عن المرأة في حياة الإمام(ع)، ونذكر بعض هؤلاء النسوة.
فلا يبقى في تفسير ما يحكى عن وجود عقدة عند علي(ع) تجاه المرأة إلّا تجربته الخاصة مع السيدة عائشة، وهي تجربة صعبة دون شك، ولكنها متأخرة نسبياً، فقد حصلت بعد أن اكتملت مداركه ورؤيته للحياة، بحيث لا يمكن أن تشكّل عقدة نفسيّة لديه تجاه المرأة.
على أنّ علياً(ع) لمن قرأه وعرفه هو أعظم قدراً وأسمى مقاماً، وأجلّ مكاناً وأرفع شأناً من أن يستفزه موقفٌ من امرأة معينة، فيشكّل لديه عقدة نقص من عامة النساء. إنّ علياً(ع) الذي لازم الروح الكليّة كما وصفه جبران خليل جبران[2]، وكان لسان الحق الذي لا ينطق إلا بالحكمة، كيف له أن يحتقر المرأة وهي ليست سوى أمّه وأخته وابنته وزوجته؟! وعلي(ع) الذي يمتلك تلك البصيرة الصافية والتي جعلته من أهم «عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان» كما يقول ميخائيل نعيمة[3]، كيف يمتهن المرأة وينال من كرامتها؟!
ولهذا كله، لا يبقى أمامنا سوى رفض ما يُدَّعى من وجود موقف سلبي للإمام علي(ع) من المرأة، وهذا سيدفع أيضاً إلى التشكيك في أن تكون بعض النصوص المنسوبة إليه والذامة للمرأة صادرةً عنه بالفعل.
ثانياً: علي والزهراء(ع)
بالعودة إلى حياة الإمام علي(ع) وسيرته وتحديداً فيما يتصل بعلاقته مع المرأة، فإني لا أعتقد أنّ أحداً يخالفني الرأي في أنّ حياة الرجل - أيَّ رجل كان - مع زوجته هي أهم مرآة تعكس - إلى حدٍّ كبير - نظرته للمرأة عموماً، فإنّ الحياة الزوجيّة تمثّل احتكاكاً يومياً ومباشراً للرجل بالمرأة، وبالتالي فهي تكشف مصداقيّة الرجل وتفضح زيفه وتختبر نواياه، فالواقع والممارسة هما مختبر الشعارات والكلمات، ولا ريب أنّ سيرة علي(ع) مع زوجته السيدة الزهراء(ع) كانت سيرة عطرة ونموذجاً رائداً يحتذى، فقد كان يجلّها ويحترمها ويقدّرها أفضل تقدير ويكرمها أفضل تكريم، ويقاسمها العمل في البيت، ولم تبدر منه تجاهها كلمةٌ واحدةٌ تؤذي مشاعرها، أو تحطّ من كرامتها.
صحيح أنّ الزهراء(ع) هي امرأة استثنائية ومميّزة في أخلاقها ومتسامية في روحانيتها، لكنّ ذلك لا يلغي دلالة سيرة علي(ع) معها على رؤيته للمرأة عموماً، لأنّه لو كان لديه نظرةٌ سلبيّة تجاه المرأة فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك على فلتات لسانه أو صفحات وجهه تجاه المرأة التي هي في مواجهته صبحاً ومساءً، لكننا لا نجد شيئاً من ذلك، بل الأمر على العكس تماماً، فقد كانت الزهراء(ع) مصدر الأنس والراحة لعلي(ع)، وقد عبّر(ع) عن هذا المعنى خير تعبير عندما قال فيما روي عنه: «فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عز وجل إليه، ولا أغضبتني ولا عَصَتْ لي أمراً، ولقد كُنْتُ أنظرُ إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان»[4]. فلاحظ المقطع الأخير من كلامه(ع) لتعلم مكانة الزهراء(ع) عند علي(ع).
ولو دخلنا إلى تفاصيل حياته المنزليّة، لوجدناه يتقاسم مع زوجته مسؤولية البيت، فلم يكن يرى أنّ العمل في البيت كالكنس والاستسقاء (طلب الماء) أو غير ذلك من الأعمال منافياً لرجوليته، كما لا يزال مركوزاً في أذهان بعض الرجال في الكثير من البلدان والمجتمعات، وقد ورد في الحديث عن أبي عبدالله الصادق(ع) بيان هذا الأمر، قال: «كان عليٌ(ع) أَشْبَهَ النَّاس طُعْمَةً وسِيْرَةً برسول الله(ص)، وكان يأكلُ الخبز والزيت ويُطْعِمُ الناسَ الخبزَ واللحم، قال: وكان علي(ع) يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة(ع) تطحن وتعجن وتخبز وترقع..»[5].
ومن أبلغ وأجمل كلمات علي(ع) التي تدلل على مكانة الزهراء(ع) السامية لديه، قوله(ع) بعد دفنها مخاطباً رسول الله(ص): «السلام عليك يَا رَسُولَ اللَّه عَنِّي، والسَّلَامُ عَلَيْكَ عَنِ ابْنَتِكَ وزَائِرَتِكَ والْبَائِتَةِ فِي الثَّرَى بِبُقْعَتِكَ والْمُخْتَارِ اللَّه لَهَا سُرْعَةَ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّه عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّي بِسُنَّتِكَ فِي فُرْقَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ.. قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ وأُخْلِسَتِ الزَّهْرَاءُ فَمَا أَقْبَحَ الْخَضْرَاءَ والْغَبْرَاءَ، يَا رَسُولَ اللَّه أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ وهَمٌّ لَا يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي أَوْ يَخْتَارَ اللَّه لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مُقِيمٌ..»[6].
ولو غضضنا الطرف وصرفنا النظر عن علاقة علي(ع) بزوجته السيدة الزهراء(ع)، ولو بلحاظ ما ألمحنا إليه قبل قليل من أنّ لها خصوصيةً لا تدانيها ولا تساميها فيها امرأة أخرى ما قد يستدعي نوعاً خاصاً من التعاطي معها، فإنّ من الممكن أن نستجلي موقفه من المرأة من تعامله مع سائر زوجاته. فإنّ علياً(ع) قد تزوج بعد وفاة الزهراء(ع) بنساء أخريات، ولم يَكُنَّ في مكانة الزهراء(ع)، ولم يرقيْن إلى مقامها السامي، ومع ذلك لم ينقلْ عنه أنّه أساء إليهن أو أهانهن. بل كان - بحسب ظاهر الحال - يحترمهن جميعاً من موقع احترامه لإنسانية المرأة، ولم يتصرّفْ معهن بما يوحي بدونيّة المرأة أو احتقارها.
ثالثاً: زينب بنت علي(ع)
ومن أبرز المؤشرات - أيضاً - التي يمكن من خلالها استجلاء موقف الإنسان ورأيه في المرأة: كيفية تعامله مع بناته، وعنايته بهن وإعداده لهنّ، واهتمامه بأمورهن، وهنا يواجه الباحث والدارس لسيرة علي(ع) ويبرز أمامه اسم واحدةٍ من بناته، وهي السيّدة زينب(ع). وزينب ليست امرأة عادية، إنّها - بحق - شخصيّة استثنائية متميزة، علماً وعملاً، إيماناً وورعاً، جهاداً وإخلاصاً، شجاعةً وأدباً، وخُلُقَاً ومنطقاً، وقد استمدّت ذلك وورثته من أبيها أمير المؤمنين(ع) وأمّها فاطمة(ع)، ما مكّنها من أن تقوم بدور ريادي في تلك المرحلة من تاريخ الأمة، وهو إكمال رسالة أخيها الحسين(ع) في نهضته المباركة. فهي التي حَكَتْ للأجيال مشاهد الملحمة الحسينية، وهي التي وقفت بكل شجاعة في وجه الطاغية عبيد الله بن زياد شامخة الرأس، فقد سألها عندما أدخلت عليه: «كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت زينب رضي الله عنها: ما رأيت إلا جميلاً هؤلاء القوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم يا بن زياد، فتحاجون وتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذ! ثكلتك أمُّك يا بن مرجانة!»[7]، وما كان لزينب(ع) أن تصل إلى هذه المكانة المميزة والمرموقة لولا رعاية أمير المؤمنين(ع) وتربيته لها، بالإضافة إلى رعاية أمها السيدة الزهراء(ع).
ولا نبالغ بالقول: إنّنا نرى علياً(ع) في كل مواقف زينب البطولية، وفي شجاعتها ووقوفها بكل عنفوان في وجه يزيد بن معاوية في الشام، مع أنّها كانت أسيرة بين يديه. ونراه(ع) أيضاً في نبض كلماتها مما تعكسه خطبتها العصماء الشهيرة التي ألقتها في مجلس يزيد بن معاوية، وكذلك في خطبتها في أهل الكوفة والتي وصفها بعض المؤرخين بالقول: «ورأيت زينب بنت علي(ع) فلم أر خَفِرَةً[8] أنطقَ منها، كأنّما تفرغه عن لسان أبيها، فأومأت إلى الناس أن اسكتوا، فسكنت الأنفاس وهدأت الأجراس»[9].
رابعاً: نساء في مدرسة علي(ع)
إلى ما تقدّم، فإنّ المحطة الأكثر دلالة[10]على حضور المرأة في حياة أمير المؤمنين(ع)، وإيمانه بدورها، تتمثّل في تربيته وإعداده لجيلٍ رسالي من النساء اللواتي جلسْن تحت منبره يستمعن إليه ويستقيْن من معينه، وقد قُمْنَ بأدوارٍ هامة في فترة حكمه. فقد كانت المرأة تخرج مع علي(ع) في معاركه وحروبه، وتشارك في الأعمال التمريضية ومداواة الجرحى، كما كانت تخرج مع رسول الله(ص) من قبل للغرض نفسه، وكانت تقوم - أيضاً - بدور آخر، وهو دور التعبئة الروحيّة والنفسيّة للجيش، وذلك من خلال الأشعار والخطب الحماسية التي كانت تنشدها وتلقيها على مسامع المجاهدين، فتثير حماستهم وشجاعتهم، وتلهب مشاعرهم، وترفع من معنوياتهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المهمة قد قامت بها المرأة في الجاهلية أيضاً، واستمرّ قيامها بذلك إلى ما بعد بعثة النبي(ص)، فقد خرجت نساء المشركين إلى معركة أُحد وكُنَّ يضربن الدفوف خلف الرجال ويحرضونهم على القتال، وقد روي أنّ هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان قالت يومذاك:
نمشي على النمارق
|
|
نحن بنات طارق
|
أو تدبروا نفارق
|
|
إن تقبلوا نعانق
|
فراق غير وامق(1)
|
[11]
ومع مجيء الإسلام استمرّت المرأة بالقيام بهذا الدور، وقد وجدنا ذلك واضحاً في بعض معارك الإمام علي(ع) كمعركة صفين، كما سنذكر عمّا قليل، وفعلُ علي(ع) هو دليلُ شرعيّة هذا العمل، الأمر الذي ينبغي أن يدفع الجيوش الإسلامية وحركات المقاومة في زماننا المعاصر إلى دراسة هذا الأمر والتفكير في كيفيّة الاستفادة من عنصر النساء على هذا الصعيد (صعيد التعبئة النفسيّة)، ولا سيّما أنّ ذلك قد غدا أكثر سهولة ويسراً في هذا الزمن، بسبب توفر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي يمكن الإفادة منها في هذا المجال.
وخلاصة القول: إنّ المرأة كانت حاضرة تحت منبر علي(ع) وفي حروبه وسائر نشاطاته، وقد سجّل لنا التاريخ مواقفَ مشرّفةً ومشهودة لبعض النساء اللاتي تربيْن في مدرسة علي(ع)، وسنذكر عمّا قليل بعض هؤلاء النسوة وننوّه - على نحو الإجمال - بأدوارهنّ الرساليّة الرائدة.
وفي ضوء ذلك، يكون من المنطقي الاستنتاج بأنّ أمير المؤمنين(ع) - حتى بصرف النظر عمّا نعتقده فيه - لا يمكن أن يصدر عنه أي كلام أو موقف فيه تحقير للمرأة أو إهانة لكرامتها أو إساءة لإنسانيتها، فإنّ هذا مخالفٌ لسيرته العمليّة مع المرأة، كما هو مخالف لخُلقه الرفيع وتربيته الخاصة، فهو(ع) - كما أسلفنا سابقاً - ربيب القرآن الكريم وأكثر الناس - بعد رسول الله(ص) - فهماً لحقائقه ووعياً لمضامينه ومفاهيمه وعملاً بأحكامه وتعاليمه، فأنّى له أن يتخذ مواقف أو يتكلّم بكلمات تحطّ من قدر المرأة، مخالفاً بذلك تعاليم القرآن ونصوصه التي تقدّمت الإشارة إليها.
وتعال معي أيها القارئ الكريم لنتابع ونطالع - معاً - جانباً من سيرة بعض النساء اللاتي تربين في مدرسة علي(ع)، ونَهَلْنَ من معينه، وأَخَذْنَ عنه الفصاحة والشجاعة والحكمة، وسنكتشف في ربوع هذه المدرسة عدداً وافراً من ذوات الفضل والدين والأدب والشجاعة والجرأة في قول الحق ومواجهة الظالمين، ولئن كان التاريخ قد نقل لنا بعض قصصهن ومواقفهن على هامش حديثه عن السلطان، فمن المؤكد أنّ الكثيرات منهن لم يلقيْن الاهتمام الكافي ولم يُثِرْن حفيظة المؤرّخين. فالمرأة ولا سيما المجاهدة والرسالية هي خارج هموم السلطة التي كُتب التاريخ باسم ملوكها وأمرائها، ولهذا فلا غرو أن يخفى علينا الكثير من حقائق هذا التاريخ ودروسه ومحطاته المشرقة. ومن ذلك التاريخ المهمل، الدورُ الذي قامت به العديد من الشخصيات النسوية الرائدة.
أجل، لقد تناول التاريخ - بشكل عابر - قصص بعض النسوة اللاتي كان لهن موقف بارز في حضور بعض الخلفاء، كما سنلاحظ في النماذج الآتية اللواتي يجمعهنَّ أمر واحد، وهو أنهنَّ دخلْن على معاوية، نتيجة بعض الظروف التي فرضت عليهنّ ذلك، وهدفُ المؤرخ من نقل قصصهنَّ هو أن يسجِّل منقبة معينة لمعاوية تتصل بذكائه وحلمه وكرمه وسعة صدره! ولولا ذلك لربما بقيْن طيَّ النسيان والكتمان، ولم نعرف عنهنّ وعن مواقفهن شيئاً! وإليك بعض تلك النسوة:
سودة الهمدانية
من أبرز النساء التي يمكن ذكرها في هذا المجال هي سودة الهمدانية، وهي امرأة جليلة القدر وعظيمة الشأن، تمتلك شجاعة وجرأة خاصة، ولا تأخذها في قول الحق لائمة، وهي تنتسب إلى قبيلة همدان اليمانية التي عُرفت بولائها للإمام علي(ع)[12]. وسودة هذه من أبرز النسوة اللاتي تربين في مدرسة الإمام(ع) وخالط حبُّه لحمها ودمها، وكانت من الوافدات الشهيرات على معاوية بن أبي سفيان، وقد قدّمت مرافعة رائعة في مجلسه بيّنت فيها مكانة عليj وعدالته، وأشارت إلى السرّ الذي جعله يتربع على عرش القلوب.
يروي ابن طيفور في «بلاغات النساء» عن محمد بن عبيد الله: استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك[13] الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها، فلما دخلت عليه قال: هيه يا بنت الأسك! ألست القائلة يوم صفين:
يوم الطعان وملتقى الأقران
|
|
شمّرْ كفعل أبيك يا بن عمارة
|
واقصدْ لهندٍ وابنها بهوان
|
|
وانصر علياً والحسينَ ورهطَه
|
عَلَمُ الهدى ومنارةُ الإيمان
|
|
إنّ الإمام أخو النبي محمد
|
قِدَمَاً بأبيضَ صارمٍ وسنان
|
|
فَقِهِ الحتوفَ وسِرْ أمام لوائه
|
قالت : إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب.
قال لها: فما حملك على ذلك؟
قالت: حبّ علي(ع) واتباع الحق.
قال: فوالله ما أرى عليك من أثر عليٍّ شيئاً.
قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى وتذكار ما قد نسي!
قال: هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى، وما لقيتُ من أحدٍ ما لقيتُ من قومِك وأخيك[14]. قالت: صدق فوك، لم يكن أخي ذميم المقام، ولا خفيّ المكان، كان والله كقول الخنساء:
كأنّه علمٌ في رأسه نار
|
|
وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به
|
قال: صدقت، لقد كان كذلك.
فقالت: مات الرأس وبتر الذنب، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه.
قال: قد فعلت، فما حاجتك؟
قالت: إنّك أصبحت للناس سيداً، ولأمرهم مُتَقَلِّداً، والله سائلُك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يَقْدِمُ علينا من ينوء بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حَصْدَ السُّنبل، ويدوسنا دَوْسَ البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي: فوهي بما أستعصمُ الله منه وأَلْجَأُ إليه فيه[15]، ولولا الطاعة لكان فينا عِزٌّ ومنعة، فإمّا عزلته عنا فشكرناك، وإمّا لا فعرفناك.
فقال معاوية: أتهدديني بقومك؟! لقد هممت أن أَحْمِلَك على قتبٍ أشرس، فأَرُدُّك إليه، يُنَفِّذُ فيك حكمه.
فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول:
قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفونا
|
|
صلّى الإلهُ على جِسْمٍ تَضَمَّنَه
|
فصار بالحقِّ والإيمانِ مقرونا
|
|
قد حَالَفَ الحقَّ لا يبغي به بدلاً
|
قال لها: ومن ذلك؟
قالت: علي بن أبي طالب(ع).
قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟
قالت: قدمت عليه في رجل ولّاه صدقتنا[16] قدم علينا من قبله، فكان بيني وبينه ما بين الغثِّ والسمين، فأتيت علياً(ع) لأشكو إليه ما صنع، فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إلي انفتل من صلاته[17]، ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟
فأخبرته الخبر، فبكى!
ثم قال: اللهم إنّك أنت الشاهد عليَّ وعليهم، إنّي لم آمرْهم بظلمِ خلقِك ولا بِتَرْكِ حقِّك، ثم أَخْرَجَ من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجواب فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [18] بالقسط، {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [19]، إذا قرأت كتابي فاحتفظْ بما في يديك من عَمَلِنا حتى يَقْدِمَ عليك من يقبضُه منك، والسلام.
(تقول المرأة) فأخذته منه، والله ما خَتَمَه بطينٍ ولا خزمه بخزام، فقرأته!
فقال لها معاوية: لقد لمّظكم[20] ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئاً ما تفطمون. ثم قال: اكتبوا لها بردِّ مالِها والعدلِ عليها.
قالت: إليّ خاص أم لقومي عام؟
قال: ما أنت وقومك؟!
قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم، إنْ لم يكن عدلاً شاملاً وإلا فأنا كسائر قومي. قال: اكتبوا لها ولقومها»[21].
أم الخير البارقية
والمرأة الثانية التي يمكن التنويه باسمها باعتبارها إحدى النساء المتخرجات من مدرسة علي(ع) هي أم الخير البارقية، وكان لها - أيضاً - موقف مشهود في مجلس مع معاوية. فقد روى المؤرخون أنّه: «كتب معاوية إلى واليه بالكوفة: أن أَوْفِدْ عليّ أمَّ الخير بنت الحريش بن سراقة البارقيّة رحلةً محمودة الصحبة غير مذمومة العاقبة.
فلما قَدِمَتْ على معاوية أَنْزَلَها مع الحرم ثلاثاً، ثم أَذِنَ لها في اليوم الرابع وجَمَعَ لها الناس، فدخلت عليه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين!
فقال: وعليك السلام وبالرغم - والله - منك دعوتني بهذا الاسم.
فقالت: مه يا هذا! فإنّ بديهة السلطان مدحضة[22] لما يُحِبُّ عمله.
قال: صدقت يا خالة، وكيف رأيتِ مسيرك؟
قالت: لم أزل في عافية وسلامة حتى أُوفِدتُ إلى مَلكٍ جزل وعطاء بذل، فأنا في عيش أنيق عند ملك رفيق.
فقال معاوية: بحسن نيتي ظفرتُ بكم وأعنتُ عليكم!
قالت: مه يا هذا! لك - والله - من دَحْضِ المقال ما تُردي عاقبته.
قال: ليس لهذا أردناك.
قالت: إنّما أَجْرِي في ميدانِك، إذا أَجْرَيْتَ شيئاً أجريتُه، فاسأل عما بدا لك.
قال: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟
قالت: لم أكن والله رويته قبل، ولا زوّرتُه[23] بعد، وإنّما كانت كلمات نَفَثَهنَّ لساني حين الصَّدْمَة، فإن شِئْتَ أَنْ أُحْدِثَ لك مقالاً غير ذلك فَعَلْت.
قال: لا أشاء ذلك.
ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم حَفِظَ كلام أمّ الخير؟
قال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد.
قال: هاته.
قال: نعم، كأنّي بها يا أمير المؤمنين وعليها بُرْدٌ زبيدي[24] كثيف الحاشية، وهي على جمل أرمك[25] وقد أحيط حولها حواء[26]، وبيدها سوط منتشر الضفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقته[27]، تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [28]، إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمّة، فإلى أين تريدون رحمكم الله ؟ أفراراً عن أمير المؤمنين، أم فراراً من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتداداً عن الحق؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[29].
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عِيل الصبر، وضَعُفَ اليقين، وانتشر الرعب، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب، فاجمع إليه الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله، هلّموا - رحمكم الله! - إلى الإمام العادل، والوصيّ الوفيّ، والصديق الأكبر، إنها إحنٌ بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أُحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك بها ثارات بني عبدشمس. ثم قالت: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[30]، صبراً، معشر الأنصار والمهاجرين، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، وكأنّي بكم غداً لقد لقيتم أهل الشام كحُمُرٍ مستنفرة، لا تدري أين يُسْلَكُ بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، عما قليل لَيُصْبِحنَّ نادمين، حتى تحلّ بهم الندامة، فيطلبوا الإقالة. إنّه والله مَنْ ضل عن الحق وَقَعَ في الباطل، ومَنْ لم يسكن الجنة نزل النار.
أيها الناس! إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس! لولا أن تبطل الحقوق، وتُعَطَّلَ الحدود، ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض[31] العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته، وأبي ابنيْه؟ خُلِقَ من طينته، وتفرّع من نبعته، وخصَّه بسرِّه، وجعله باب مدينته وعَلَمَ المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزلْ كذلك يؤيّده الله عز وجل بمعونته، ويمضي على سنن استقامته، لا يعرج لراحة اللذات. ها هو مفلّق الهام ومكسّر الأصنام، إذ صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أُحد، وفرّق جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردّة وشقاقاً! قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال معاوية: والله يا أم الخير، ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، والله لو قَتَلْتُكِ ما حَرِجْتُ في ذلك.
قالت: «والله ما يسوؤني يا بن هند! أن يجري الله ذلك على يديْ مَنْ يُسعدني الله بشقائه..»[32].
أم سنان المذحجيّة[33]
والنموذج الثالث للمرأة التي تربّـت في مدرسة علي(ع) هي أم سنان المذحجية، وهي - أيضاً - من الوافدات على معاوية، والسبب في ذلك أنّ مروان بن الحكم حبس غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة، فأتته أم سنان وهي جدّة الغلام، «فكلّمته في الغلام، فأغلظ لها مروان، فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسبت له، فقال: مرحباً بك يا بنت خيثمة، ما أَقْدَمَكِ أرضي وقد عهدتُكِ تشنئين قربي وتحضّين عليّ عدويّ؟!
قالت: يا أمير المؤمنين إنّ لبني عبدمناف أخلاقاً طاهرة وأعلاماً ظاهرة لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، فأولى الناس باتباع سنن آبائه لأنت.
قال: صدقت نحن كذلك فكيف قولك:
والليل يصدر بالهموم ويوردُ
|
|
عَزُبَ الرقاد فمقلتي ما ترقد
|
إنّ العدو لآل أحمد يقصدُ
|
|
يا آل مذحج لا مقام فشمّروا
|
وسطَ السماء من الكواكب أسعدُ
|
|
هذا عليٌّ كالهلال يحفّه
|
وكفى بذاك لمن شناه تهددُ
|
|
خير الخلائق وابن عم محمد
|
والنصر فوق لوائه ما يفقد
|
|
ما زال مذ عرف الحروب مظفراً
|
قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين وإنّا لنطمع بك خلفاً.
فقال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة أيضاً:
بالحق تُعرف هادياً مهديا
|
|
إمّا هلكت أبا الحسين فلم تزل
|
فوق الغصون حمامةٌ قمريا
|
|
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت
|
أوصى إليك بنا فكنت وفيا
|
|
قد كنت بعد محمد خلفاً لنا
|
هيهات نمدح بعده إنسيا
|
|
فاليوم لا خلف نأمل بعده
|
قالت: يا أمير المؤمنين لسانٌ نطق، وقولٌ صَدَقَ، ولئن تحقّق فيك ظنّنا فحظُّك أوفر، والله ما أورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فادحض مقالتهم وأبعدْ منزلتهم، فإنك إن فعلت ازددت بذلك من الله تبارك وتعالى قرباً ومن المؤمنين حباً.
قال: وإنّك لتقولين ذلك؟
قالت: يا سبحان الله، والله ما مِثْلُكَ من مُدِحَ بباطل ولا اعْتُذِرَ إليك بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله علي(ع) أحبَّ إلينا من غيره إذ كان حياً، وأنت أحبُّ إلينا من غيرك إذ كنت باقياً.
قال: ممن؟
قالت: من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص.
قال: وبم استحققت ذلك عليهما؟
قالت: بحسن حلمك وكريم عفوك.
قال: وإنّهما ليطمعان في ذلك.
قالت: هما والله لك من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان رحمه الله.
قال: والله لقد قَارَبْتِ فما حاجتك؟
قالت: إنّ مروان بن الحكم تبنّكَ [34]بالمدينة تبنُكَ من لا يريد البراح منها، لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنّة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني فأتيته، فقال: كيت وكيت، فألقمتُه أخشنَ من الحجر وألعقتُه أمرّ من الصبر، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، فأتيتك يا أمير المؤمنين، لتكون من أمري ناظراً وعليه معدياً[35].
قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإخراجه[36].
قالت: يا أمير المؤمنين وأنّى لي بالرجعة وقد نفد زادي وكلّت راحلتي، فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم»[37].
انظر أيها القارئ إلى مواقف هذه المرأة الجليلة وشجاعتها في النطق بكلمة الحق، حيث لم تكتف ببيان رأيها الصريح في علي(ع) بل أعطت معاوية درساً في اختيار البطانة المناسبة من أهل النصح والخير.
الدارمية الحجونية
والنموذج الرابع من تلميذات علي(ع) وخريجات مدرسته اللاتي وفدن على معاوية، وكان لهنّ في مجلسه موقف مشهود نطقن فيه بالحق، تلك المرأة الجليلة المسماة الدارمية الحجونيّة. فقد روى المؤرخون أنّه: «حجّ معاوية سنة من سنيه، فسأل عن امرأة يقال لها الدارمية الحجونية، كانت امرأة سوداء كثيرة اللحم، فَأُخْبِرَ بسلامتها، فبَعَثَ إليها فجيء بها.
فقال لها: كيف حالك يا ابنة حام؟
قالت: بخيرٍ، ولست لحامٍ، إنما أنا امرأة من قريش من بني كنانة ثمت من بني أبيك.
قال: صدقت هل تعلمين لم بعثت إليك؟
قالت: لا، يا سبحان الله وأنّى لي بعلم ما لم أعلم!
قال: بعثت إليك أن أسألك علام أحببتِ علياً(ع) وأبغضتِني، وعلام واليتِه وعاديتِني؟!
قالت: أو تعفيني من ذلك؟
قال: لا أعفيك، ولذلك دعوتك.
قالت: فأمّا إذ أَبَيْتَ فإنّي أحببت علياً(ع) على عدله في الرعية وقسمه بالسوية، وأَبْغَضْتُكَ على قتالك مَنْ هو أولى بالأمر منك، وطَلَبِك ما ليس لك، وواليتُ علياً(ع) على ما عقد له رسول الله (ص) من الولاية وحبّه المساكين وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكِك الدماء وشقِّك العصا.
قال: صدقت، فلذلك انتفخَ بَطْنُك وكَبرَ ثديك وعَظُمَتْ عجيزتُك.
قالت: يا هذا بهند (أم معاوية) والله يُضرب المثل لا أنا.
قال معاوية: يا هذه لا تغضبي فإنّا لم نقل إلا خيراً، إنه إن انتفخ بطنُ المرأةِ تَمَّ خلق ولدها، وإذا كَبُرَ ثديها حَسُنَ غذاءُ وَلَدِها، وإذا عَظُمَتْ عجيزتُها رَزُنَ مجلسها، فرجعت المرأة.
فقال لها: هل رأيت علياً؟
قالت: إي والله لقد رأيتُه.
قال: كيف رَأَيْتِه؟
قالت: لم ينفخه الملك ولم تصقْله النعمة.
قال: فهل سمعتِ كلامه؟
قالت: نعم.
قال: فكيف سَمِعْتِه؟
قالت: كان والله كلامه يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صداء الطست.
قال: صدقت، هل لك من حاجة؟
قالت: وتفعل إذا سألت؟
قال: نعم.
قالت: تعطيني مئة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.
قال: ماذا تصنعين بها؟
قالت: أغذو بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار وأكتسبُ بها المكارم وأُصْلِحُ بها بين عشائر العرب.
قال: فإن أنا أعطيتك هذا أَحُلُّ منك محلَّ علي(ع)؟
قالت: يا سبحان الله أو دونه أو دونه!
فقال معاوية:
فمن ذا الذي بعدي يؤمّلُ للحلم
|
|
إذا لم أَجُدْ بالحلم مني عليكم
|
حباك على حرب العداوة بالسلم
|
|
خذيها هنيئاً واذكري فِعْلَ ماجدٍ
|
أما والله لو كان عليا ما أعطاك شيئاً.
قالت: إي والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين يعطني. ثم أمر لها بما سألت»[38].
الزرقاء بنت عدي بن مرّة الهمدانية
وثمة امرأة همدانية أخرى (وهي المرأة الخامسة التي نذكرها في هذا المقام)، كان لها موقف مشهود في مجلس معاوية، وهي الزرقاء بنت عديّ بن مرّة الهمدانية، وكانت من النساء الجليلات اللاتي تربين في مدرسة علي(ع) ورافقته في بعض حروبه، وكانت ممن أَمَرَ معاويةُ - بعد استشهاد أمير المؤمنين(ع) - باستدعائها إلى الشام. فقد قال بعض المؤرخين: «سَمُرَ معاويةُ ليلةً فذكر الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس، امرأة كانت من أهل الكوفة وكانت ممن يعين علياً(ع) يوم صفين.
فقال لأصحابه: أيّكم يحفظ كلام الزرقاء؟
فقال القوم: كلنا نحفظه يا أمير المؤمنين.
قال: فما تشيرون عليّ فيها؟
قالوا: نشير عليك بقتلها.
قال. بئس ما أشرتم عليّ به، أَيَحْسُنُ بمثلي أن يتحدَّثَ الناس أنّي قتلت امرأة بعدما مَلَكْتُ وصار الأمر لي!
ثم دعا كاتبه في الليل، فكتب إلى عامله في الكوفة أن أوفْد إليّ الزرقاء ابنة عدي مع ثقة من محرمها وعدّة من فرسان قومها، ومَهِّدْها وطاءً ليناً واسترْها بستر حصيف. فلما ورد عليه الكتاب (أي إلى عامله) ركب إليها فأقرأها الكتاب.
فقالت: أمّا أنا فغير زائغة عن طاعة، وإن كان أمير المؤمنين جعل المشيئة إليّ لم أرمْ بلدي[39] هذا وإن كان حكم الأمر فالطاعة له أولى بي[40].
فحملها في هودج وجعل غشاءه حبراً[41] مبطناً بعصب اليمن[42]، ثم أحسن صحبتها.
وفي حديث المقدمي، فحملها في عماريّة جعل غشاءها خزاً أدكن مبطناً بقوهي[43]، فلما قَدِمَتْ على معاوية قال لها: مرحباً وأهلاً، خير مقدم قَدِمَه وافد، كيف حالكِ يا خالة وكيف رأيتِ مسيرك؟
قالت: خير مسير، كأني كنت ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً.
قال: بذلك أمرتُهم، فهل تعلمين لِمَ بعثت إليك؟
قالت: سبحان الله أنّى لي بعلم ما لم أُعَلَّم؟ وهل يعلم ما في القلوب إلا الله!
قال: بعثت إليك أن أسألك: ألست راكبةَ الجمل الأحمر يوم صفين بين الصَّفين، توقدين الحرب وتحضّين على القتال، فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين إنّه قد مات الرأس وبُتِرَ الذنب والدهر ذو غير، ومَنْ تفكَّر أبصر، والأمر يَحْدُثُ بعدَه الأمرُ.
قال لها: صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟
قالت: ما أحفظه.
قال: ولكني والله أحفظه، لله أبوكِ لقد سمعتكِ تقولين: أيها الناس إنّكم في فتنة غَشَتْكُمْ[44] جلابيب الظُلَم وجارت [وحادت] بكم عن قصد المحجّة، فيا لها من فتنة عمياء صماء يُسمع لقائلها ولا يُنظر لسائقها[45]. أيّها الناس إنّ المصباح لا يضيء في الشمس وإنّ الكوكب لا يبصر في القمر، وإنّ البغل لا يسبق الفرس، وإنّ الزفّ لا يوازن الحجر، ولا يقطعُ الحديدَ إلا الحديدُ. ألا من استرشدنا أرشدناه ومن استخبرنا أخبرناه، إنّ الحق كان يطلبُ ضالَته فأصابها، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأنْ قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة العدل وغلب الحقُ باطلَه، فلا يَعْجَلَنَّ أحد، فيقول: كيف وأنّى، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ألا إنّ خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور عواقب، إيهاً... إلى الحرب قِدَماً غير ناكصين فهذا يوم له ما بعده.
ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شَرَكْتِ علياً(ع) في كل دم سفكه.
فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك، مثلك مَنْ بشَّر بخير وَسرَّ جليسه!
قال لها: وقد سَرّك ذلك؟!
قالت: نعم والله، لقد سَرّني قولك فأنّى بتصديق الفعل!
فقال معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أحبُّ [أعجبُ] من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك.
قالت: يا أمير المؤمنين إني قد آليت على نفسي أن لا أسال أميراً أَعَنْتُ عليه شيئاً أبداً، ومِثْلُك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلب.
قال: صدقت، فأقطعها ضيعة أغلّتها في أول سنة عشرة آلاف درهم، وأَحْسَنَ صفدها[46] وردّها والذين معها مكرمين»[47].
بكارة الهلالية
ويبرز أمامنا اسم امرأة أخرى من الوافدات على معاوية (المرأة السادسة)، وهي بكارة الهلالية، وهي من أعلام النساء المعروفات بقوّة منطقها وبشدة تفانيها في الولاء لعلي(ع)، وقد اشتركَتْ معه في معركة صفين بخطبها البليغة التي ألهبت حماسة المقاتلين[48]، وقد كان لها موقف مشهود في محضر معاوية. فقد روى ابن طيفور في بلاغات النساء: «دخلت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان بعد أن كَبُرَت سِنُّها ودقّ عظمها، ومعها خادمان لها وهي متكئة عليهما، وبيدها عكاز، فسلمت على معاوية بالخلافة، فأحسن عليها الردَّ وأذن لها في الجلوس، وكان عنده مروان بن الحكم وعمرو بن العاص، فابتدأ مروان فقال: أتعرف هذه يا أمير المؤمنين؟
قال: ومن هي؟
قال: هي التي تُعِينُ علينا يوم صفين، وهي القائلة:
سيفاً حساماً في التراب دفينا
|
|
يا زيد دونك فاستثر من دارنا
|
فاليوم أَبْرزَهُ الزمان مصونا
|
|
قد كان مذخوراً لكلِّ عظيمةٍ
|
فقال عمرو بن العاص وهي القائلة يا أمير المؤمنين:
هيهات ذاك وما أراد بعيدُ
|
|
أترى ابن هند للخلافة مالكاً
|
أغراك عمرو للشقاء وسعيدُ
|
|
مَنَّتَكَ نَفسُك في الخلاء ضلالةً
|
لاقت علياً أَسْعُدٌ وسعود
|
|
فارجع يا نكد طائر بنحوسِها
|
فقال سعيد: يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
فوق المنابر أميّة خاطبا
|
|
قد كنت آمل أن أموت ولا أرى
|
حتى رأيت من الزمان عجائبا
|
|
فالله أخّرَ مُدَّتي فتطاولت
|
وسط الجموع لآل أحمد عائبا
|
|
في كل يوم لا يزال خطيبهم
|
ثم سكت القوم.
فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين، واعتورتني، فقصر محجني[49] وكثر عجبي وعشي بصري، وأنا والله قائلة ما قالوا، لا أدفع ذلك بتكذيب، فامض لشأنك، فلا خير في العيش بعدَ أمير المؤمنين.
فقال معاوية: إنه لا يضعك شيء، فاذكري حاجتك تُقضى، فقضى حوائجها وردّها إلى بلدها»[50].
أم البراء
وأم البراء بنت صفوان بن هلال (المرأة السابعة)، هي امرأة أخرى من أعلام النساء الخريجات من مدرسة علي(ع) ومن الوافدات على معاوية أيضاً، وربما ظُنَّ أنّها هي بكارة الهلالية المتقدمة، ولكنه غير واضح، بل إنّ الاسم مختلف، والقُصَّةُ كذلك. وقد ذكر ابن طيفور صاحب «بلاغات النساء» أنّها استأذنت على معاوية فأذن لها، فدخلت في ثلاثة دروع تسحبها قد كارت على رأسها كَوْرَاً كهيئة المنسف[51]، فسلّمت ثم جلست، فقال: كيف أنت يا بنت صفوان؟
قالت: بخير يا أمير المؤمنين.
قال: فكيف حالك؟
قالت: ضَعُفْتُ بعد جَلَد، وكسلت بعد نشاط.
قال: سيان بينك اليوم وحين تقولين:
[52][53][54]
عضب المهزة ليس بالخوار(3)
|
|
يا عمرو دونك صار ما ذا رونق
|
للحرب غير معرد(4) لفرار
|
|
أَسْرِجْ جوادك مسرعاً ومشمراً
|
وافْرِ(5) العدو بصارمٍ بتار
|
|
أجب الإمام ودُبّ تحت لوائه
|
فأذبُّ عنه عساكر الفجار
|
|
يا ليتني أصبحتُ ليس بعورة
|
قالت: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ومثلك عفا، والله تعالى يقول: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [55].
قال: هيهات، أما إنّه لو عاد لَعُدْتِ، ولكنه اخترم[56] دونك، فكيف قولُكِ حين قُتِل؟
قالت: نسيته يا أمير المؤمنين.
فقال بعض جلسائه: هو والله حين تقول يا أمير المؤمنين:
[57][58]
فدحت(2) فليس مصابها بالهازل
|
|
يا للرجال لعِظَمِ هول مصيبة
|
خير الخلائق والإمام العادل
|
|
الشمس كاسفة لفقد إمامنا
|
فوق التراب لمُحْتَفٍ أو ناعل(3)
|
|
يا خير مَنْ ركب المطي ومَنْ مشى
|
فالحق أصبح خاضعاً للباطل
|
|
حاشا النبي لقد هددت قواءنا
|
فقال معاوية: قاتلك الله يا بنت صفوان ما تركت لقائل فقال مقالاً، اذكري حاجتك.
قالت: هيهات، بعد هذا والله لا سألتك شيئاً، ثم قامت فعثرت فقالت تَعُسَ شانئ[59] علي..»[60].
أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب
ومن النساء الجليلات اللاتي نهلنا من معين علي(ع)، أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب، وهي المرأة الثامنة في المقام. روى ابن طيفور بسنده عن أنس بن مالك قال: دخلت أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم[61]، وهي عجوز كبيرة، فلمّا رآها قال: مرحباً بك يا عمّة.
قالت: كيف أنت يا بن أخي لقد كَفَرْتَ بالنعمة وأسأتَ لابن عمك الصحبة، وتسمّيتَ بغير اسمك، وأخذت غير حقك بغير بلاء منك ولا من آبائك في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد(ص) فأتعس الله منكم الجدود، وأصعر منكم الخدود حتى ردّ الله الحق إلى أهله وكانت كلمة الله هي العليا»[62].
عكرشة بنت الأطش
والمرأة التاسعة من النسوة اللاتي صَحِبْن علياً(ع) وتربيْن في مدرسته، عكرشة بنت الأطش بن رواحة، فقد ذكر المؤرخون أنّها دخلت «على معاوية وبيدها عكاز في أسفله زج[63] مسقى، فسلّمت عليه بالخلافة وجلست.
فقال لها معاوية: يا عكرشة الآن صرت أمير المؤمنين؟!
قالت: نعم، إذ لا عليٌّ حي.
قال: ألست صاحبة الكور المسدول والوسيط المشدود والمتقلِّدة بحمائل السيف، وأنت واقفة بين الصفين يوم صفين تقولين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[64]، إنّ الجنة دار لا يرحل عنها مَنْ قَطَنَها ولا يَحْزُنُ مَنْ سكنها، فابتاعوها[65] بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، كونوا قوماً مستبصرين. إنّ معاوية دَلَفَ[66] إليكم بعجم العرب غُلْفِ القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه. فالله الله عباد الله في دين الله، وإياكم والتواكل، فإنّ في ذلك نقضَ عروة الإسلام وإطفاءَ نور الإيمان وذهابَ السُّنة وإظهارَ الباطل. هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى، قاتلوا يا معشر الأنصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم واصبروا على عزيمتكم..».
وأضاف معاوية: «كأنّي بكِ على عكّازكِ هذه قد انكفأ عليكِ العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطش بن رواحة، فإنْ كِدْتِ لتلفتين عني أهل الشام لولا ما أحبّ الله أن يجعل لنا هذا الأمر، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [67]. إنّ اللبيب إذا كَرِه أمراً لم يحبّ إعادته[68].
قال: صدقتِ اذكري حاجتك.
قالت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد جعل صدقاتنا على فقرائنا ومساكيننا، وردَّ أموالَنا فينا إلا بحقِّها. وإنّا قد فقدنا ذلك، فما يُنْعَشُ لنا فقير، وما يُجْبَرُ لنا كسير، فإنْ كان ذلك عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان ذلك عن غير رأيك فما مثلك من استعان الخونة ولا استعان بالظالمين.
قال معاوية: يا هذه إنّه تنوبنا أمور هي أولى بنا منكم، من بحورٍ تنبثق وثغور تنفتق.
قالت: يا سبحان الله، ما فرض الله لنا حقاً جعل لنا فيه ضرراً على غيرنا، ما جعله لنا، وهو علام الغيوب.
قال معاوية: هيهات يا أهل العراق فَقَّهَكُم ابن أبي طالب فلن تُطاقوا، ثم أَمَرَ لها بردّ صدقتها وإنصافها، وردَّها مكرَّمة»[69].
أم الهيثم النخعيّة
ويجدر بنا هنا أن نذكر امرأة جليلة (المرأة العاشرة)، عرفناها من خلال رثائها لأمير المؤمنين(ع) بعد وفاته، فقد رثته بأبياتٍ رائعة من الشعر تدلّ ليس على فضلها الأدبي فحسب، بل وعلى فهمها ووعيها بمنزلة علي(ع) ومكانته الساميّة، قال أبو فرج الأصفهاني:
وقالت أم الهيثم بنت الأسود النخعية ترثي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع):
[70]
ألا تبكي أمير المؤمنينا
|
|
ألا يا عين ويحك فاسعدينا
|
وحبّسها ومن ركب السفينا
|
|
رزئنا خير من ركب المطايا
|
ومن قرأ المثاني والمئينا
|
|
ومن لبس النعال ومن حذاها
|
نرى مولى رسول الله فينا
|
|
وكُنَّا قبل مقتله بخير
|
ويقضي بالفرائض مستبينا
|
|
يقيم الدين لا يرتاب فيه
|
وينهك(2) قطع أيدي السارقينا
|
|
ويدعو للجماعة من عصاه
|
ولم يُخلق من المتجبرينا
|
|
وليس بكاتمٍ عِلْمِاً لديه
|
على طول الصحابة أوجعونا
|
|
لَعَمْرُ أبي لقد أصحابُ مصر
|
وليس كذاك فعل العاكفينا
|
|
وغرّونا بأنّهم عكوف
|
بخير الناس طراً أجمعينا
|
|
أفي شهر الصيام فجعتمونا
|
أبو حسن وخير الصالحينا
|
|
ومن بعد النبي فخير نفس
|
نعام جال في بلد سنينا
|
|
كأنّ الناس إذ فقدوا علياً
|
بَذَلْنَا المالَ فيه والبنينا
|
|
ولو أنا سُئِلْنا المالَ فيه
|
أَمَامَة(1) حين فارقت القرينا
|
|
أَشَابَ ذؤابتي وأَطَالَ حزني
|
فلما استيأست رفعت رنينا
|
|
تطوف بها لحاجتها إليه
|
تجاوبها وقد رأت اليقينا(2)
|
|
وعَبْرَةُ أمَّ كلثوم إليها
|
فإنّ بقية الخلفاء فينا
|
|
فلا تَشْمَتْ معاويةُ بن صخر
|
إلى ابن نبينا وإلى أخينا
|
|
وأجمعنا الإمارة عن تراض
|
سواه الدهر آخر ما بقينا
|
|
ولا نعطي زمام الأمر فينا
|
تواصوا أن نجيب إذا دعينا
|
|
وإنّ سُرَاتنا(3) وذوي حجانا
|
عليهن الكماة مسومينا(5)
|
|
بكل مُهَنَّدٍ عضب(4) وجَرَّدَ
|
[71][72][73][74]
[75]
خامساً: الإمام علي(ع) والسيدة عائشة
ولا يمكن للباحث الساعي إلى التعرّف على حقيقة موقف الإمام علي(ع) من المرأة أن يمرّ مرور الكرام على علاقته بإحدى نساء عصره، وهي شخصيّة لها حضورها البارز في أحداث تلك المرحلة عنيت بها السيدة عائشة، زوجة رسول الله(ص) وابنة الخليفة أبي بكر. فإنّ هذه العلاقة اتّخذت طابعاً متوتراً في مرحلة زمنية معينة، وشابها الكثير من الفتور، الأمر الذي كان له تداعيات خطيرة على واقع الأمة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، وهذا ما حدا بالبعض إلى تفسير ما أَسْمَوْه بالموقف السلبي المتشدد للإمام(ع) من المرأة بأنّه كان ردّة فعل إزاء ما فعلته السيدة عائشة معه، من خروجها عليه وقيادتها لحربٍ ضروسٍ ضدّه، وهو ما أربك مشروعه وتسبّب بسقوط آلاف الضحايا من المسلمين.
وقبل أن نسجّل أسباب رفضنا لهذا الكلام، يجدر بنا أن نلقي نظرة عابرة على ما حدث بين الإمام(ع) والسيدة عائشة. فقد سجّل المؤرخون أنّه وبعد مبايعة المسلمين وعلى رأسهم صحابة رسول الله(ص) من المهاجرين والأنصار للإمام علي(ع) وتسلّمه لزمام أمور المسلمين، فإنّ هذا الأمر أثار حفيظة عائشة وثارت ثائرتها، فهي لم تكن محبّة لعلي(ع)، لأسباب شتى، الأمر الذي استغلّه المناوئون لعلي(ع)، وعلى رأسهم طلحة والزبير اللذيْن بايعا علياً(ع) في بادئ الأمر ثم انقلبا عليه ونكثا البيعة، وعَمِلا على إقناع عائشة لتذهب معهم إلى البصرة في حركة احتجاجية انشقاقية على الحاكم الشرعي، بحجَّة المطالبة بدم عثمان! مع أنّهما وكذا السيدة عائشة[76] كانوا من أشدّ الناقمين على سياسة عثمان، والمحرضين عليه. والواقع أنّ المؤشرات المختلفة تبيّن بشكل واضح أنّه لم يكن الغرض الأساس للمطالبين بدم عثمان هو الثأر من قتلته، فعلي(ع) ليس مسؤولاً عن ذلك، لأنّه كان رافضاً لمحاصرة عثمان من الأساس، ودافع عنه بما يستطيع، فالقضية ليست هنا بل في محل آخر، وهو الطمع بالسلطة ومنافعها، والخشية من حزم علي(ع) وشدّته في ذات الله، فقد كان الجماعة الذين ناهضوا علياً(ع) على معرفة تامة بأنّه صاحب مشروع إصلاحي وأنّه لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو(ع) قد توعّد بإعادة الأموال العظيمة التي حصل عليها البعض منهم بغير وجه حقٍّ إلى بيت المال، وهذا ما يهدد مصالح القوم، فلأجل هذا كانت عملية الانشقاق وكانت الحرب، وكان لا بدّ لعملية الانقلاب على الإمام من غطاء معين «يبرر» الخروج على الحاكم الشرعي، وهو حاكم يمتلك صدقيّة وأهليّة وأسبقية لا يشاركه أحد فيها، ومَنْ أفضلُ من عائشة لتضفي على هذه الحرب نوعاً من «المشروعية» الشكليّة لإقناع بعض الناس بالانخراط فيها! فعائشة زوجة رسول الله(ص)، وبنت الخليفة الأول أبي بكر، وعلاوة على ذلك، فهي امرأة ذكيّة وخطيبة مفوّهة وتتحلى بمهارات أخرى تسمح لها بالتأثير على الجماهير. وبالرغم من قيام الحجّة ووضوح الأمر في أنّ هذا الخروج لحرب الإمام(ع) ليس محقاً ولا يملك حداً أدنى من الشرعيّة ولا المبررات الموضوعية، ووجود العديد من الشواهد والدلائل على ذلك، والتي كان من المفترض أن تدفع بعائشة نفسها لرفض كل محاولات زجّها في هذه الحرب، أو خروجها طائعةً إليها، بيد أنّها - مع ذلك - خرجت، ووقعت فيما وقعت فيه، وجرت الحرب التي حصدت آلاف الأرواح من المسلمين! وكل هذه الأحداث المريرة كانت مبعث حزنٍ وألم لأمير المؤمنين(ع)، وقد أدمت قلبه وجرحت مشاعره، فما أصعب أن يرى علي(ع) نفسه مضطراً لقتال أصدقاء الأمس، وينظر من جهة أخرى فيرى آلاف المسلمين يتهاوون صرعى في حربٍ لم يكن لها مبرر على الإطلاق من قبل الذين أشعلوا فتيلها.
لكن بالرغم من فداحة الخطب، تعال معي لنرى كيف كان موقف علي(ع) بعد انتهاء الحرب؟ وكيف تصرّف مع السيدة عائشة تحديداً؟
أعتقد لو أنّ ما جرى معه(ع) من تنكّرٍ لحقه وتمرّدٍ عليه جرى مع غيره من الناس لربما تصرّف بطريقة أخرى لا تخلو من قسوة أو انتقام، ولا سيّما مع الذين قادوا هذه الحرب، لكنّ نبلَ علي(ع) يأبى له إلا أن يتسامى ويتعالى على الجراح، وخُلقَه الكريم لا يسمح له إلا أن يكون عظيماً كما عرفناه وعرفته البشرية في كل حياته ومواقفه، ولهذا لم يسمح لكل آلامه وجراحه ولا لغضبه أن تنسيه أنّ السيدة عائشة هي عرض رسول الله(ص) وزوجه، فاحترمها وصانها، وحرص كامل الحرص على أن لا يتعرض لها متعرض من جيشه بكلمة تخدش مشاعرها، أو بكلمة نابية تنال منها، وعمل(ع) على إعادتها إلى بيتها الذي أمرها الله تعالى أن تقرّ فيه[77] في المدينة المنورة معززة مكرّمة، بالرغم من فداحة المصيبة، وعميق الجرح الذي أصيب به علي(ع) وأصيبت به الأمة. وقد تناولنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتابنا «بحوث حول السيدة عائشة - رؤية شيعية معاصرة»، فليراجع.
علي(ع) أجلّ من أن يخضع لردات الفعل!
وفي ضوء هذا السلوك النبيل لأمير المؤمنين(ع)، علينا أن نسجل رفضنا لما قاله البعض أو حاول الإيحاء به من أنّ موقف علي(ع) من المرأة عموماً والذي تعكسه بعض النصوص المروية عنه والتي تنتقص من المرأة عقلاً وإيماناً وأهليّة، إنّما هو موقف ناتج عن تجربته المريرة مع السيدة عائشة[78]، «حيث عارضت حكمه وخلافته، وألَّبت عليه الجموع وجيّشت الجيوش، ولولا موقفها هذا لم ينظر إلى المرأة هذه النظرة التي تحطُّ من شأنها وقدرها»[79].
إننا نرفض هذا المنطق ولا يمكننا أن نصدّقه، وذلك:
أولاً: لما تقدّم من أنّ سيرة علي(ع) مع عائشة عقيب انتهاء معركة الجمل وما أورثته في نفسه من كَمَدٍ وحُزن، تكذِّبُ هذا الزعم، فقد رأينا أنّه لم يأخذه غرور المنتصرين فيلجأ إلى الانتقام، بل كان الحلم هو رائده والعفو هو قائده، فسامح وتجاوز وصفح، وتَرَكَ الحساب إلى الله تعالى، كما قال في بعض كلماته[80].
ثانياً: إنّ علياً(ع) هو أجلُّ وأسمى من أن يحدد موقفه من المرأة بشكل عام على ضوء تجربة مريرة له مع امرأة معينة، وحاشا له(ع) أن يُقَدِّمَ رأياً سلبياً في المرأة من موقع الارتجال وردّات الفعل، وهل كان علي(ع) بهذا المستوى من الهشاشة والانفعال بحيث تترك لديه تجربةٌ مريرة مع إحدى النساء انطباعاً متشائماً وموقفاً سلبياً وعقدة خاصة من جنس النساء؟! إنّ تقديم علي(ع) بهذه الطريقة فيه إهانة له(ع) قبل أن يكون فيه إهانة للمرأة، لأنّ علياً(ع) لا ينطلق في مواقفه من ردة فعل معينة ولا يعطي رأياً عاماً سلبياً بالمرأة بسبب تجربة قاسية مع امرأة معينة، إنّه أرفع شأناً وأجل مقاماً من ذلك، وإلّا لأعطى رأياً سلبياً بالرجل أيضاً، نتيجة تجربته المرّة مع عدد من الرجال، سواءً على خلفيّة إقصائه عن حقه في خلافة رسول الله(ص)، أو على خلفية تمرّد بعضهم عليه، أو عدم تجاوبهم مع دعوته المستمرة لهم -عقيب معركة صفين- للنهوض في مواجهة البغاة والمعتدين.
وقد فنّدَ الشيخ مغنية هذا الرأي الذي يحاول الإيحاء بأنّ ثمّة عقدة خاصة للإمام(ع) من المرأة على خلفيّة ما فعلته عائشة معه، وأجاب عليه بعدة إجابات:
«إنّ موقف عائشة من الإمام(ع) ليس بأعظم من موقف طلحة والزبير اللذين بايعا ثم نكثا وحرّضا عائشة على الخروج، ولا بأعظم من موقف معاوية وابن العاص، ولا بأعظم من موقف الخوارج. ولو صح تفسير رأي الإمام في المرأة بكراهية عائشة لوجب أن يكون رأيه في الرجل تماماً كرأيه في المرأة، لأن طلحة والزبير ومعاوية وابن العاص ومن لفّ لفهم فعلوا ما فعلت عائشة وزيادة.
هل بلغ الذهول بعلي - وهو باب مدينة العلم - أن يحكم على النساء، كل النساء، من خلال امرأة واحدة تلقب بصاحبة الجمل، ويقيس النوع على الفرد؟! إنّ هذا منطق أهل الجهل والغباء لا منطق المعصومين والعلماء.
متى كان لعلي - الذي يدور الحق معه كيفما دار - شهوات وميول حتى يستمد منها آراءه وينطق بوحيها. أحين أكرم عائشة وأطلقها من الأسر، أو حين تمكن سيفه من رقبة ابن العاص وبسر بن أرطأة فعفا عنهما، أو حين سقى الماء لمعاوية بعد أن منعه منه»[81].
هذا المقال من كتاب "المرأة في النص الديني"
[1] نهج البلاغة، ج 2 ص 157.
[2] الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج2 ص952.
[3] المصدر نفسه، ج2 ص954.
[4] انظر: كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج1 ص373.
[6] المصدر نفسه، ج1 ص459.
[7] الفتوح لابن الأعثم، ج5 ص122.
[8] الخفرة: هي المرأة الحييّة، انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج2 ص203.
[9] مثير الأحزان، ص 66، وبلاغات النساء، ص23.
[10] والوجه في كونها أكثر دلالة هو أنّ الرجل قد يميل إلى بناته بحكم العاطفة فيهتم بهنّ ويَغْلِبْن على قلبه، الأمر الذي قد لا يمكن اتخاذه مقياساً لمعرفة حقيقة موقفه من المرأة، بينما موقفه من النساء الأخريات حيث تنتفي عاطفة الأبوة والقرابة يكون أكثر دلالة على رأيه في المرأة، وهذا الكلام إنّما نقوله في الإمام(ع) بغضّ الطرف عن قناعتنا وعقيدتنا بعصمته.
[11] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد، ج2 ص40.
[12] قبيلة همدان اليمانية عرفت بولائها للإمام علي(ع) وقد عرف من أبطالها: مالك الأشتر والحارث الهمداني وغيرهما، وروي عن أمير المؤمنين(ع) قوله:
لقلت همدان ادخلوا بسلام»
|
|
«ولو كنت بوّاباً على باب جنة
|
= انظر: أنساب الأشراف، ج2 ص322، والبلدان للهمذاني، ص209، وصبح الأعشى ج13 ص237، وينسب إلى علي(ع) أنّه قال للحارث الهمداني:
من مؤمن أو منافق قبلا
|
|
«يا حار همدان من يمت يرني
|
بعينه واسمه وما فعلا»
|
|
يعرفني طرفه وأعرفه
|
انظر: أوائل المقالات للمفيد، ص74، ولكن سيأتي عدم صحة نسبة هذين البيتين إليه.
[13] هكذا في أكثر المصادر، ولكن في العقد الفريد: «الأشتر»، انظر: العقد الفريد، ج1 ص334 وما بعدها، وبناءً على نسخة العقد الفريد فتكون سودة هي بنت عمارة بن الأشتر، ويكون مالك الأشتر جدها، وهذا مستبعد، وإنّ قولها: «شمِّر كفعل أبيك يا ابن عمارة»، هو قول تخاطب به أخاها، فهل كان أخوها شاباً يوم صفين ويقاتل إلى جانب جدّه مالك الأشتر؟! وربما يقال: إنّه لا استغراب في ذلك، وكيف كان، فإن أخاها قد كان بطلاً شجاعاً كما يظهر من قول معاوية الآتي: «ما مثلُ مقام أخيكِ ينسى»، وتظهر أهميّة أخيها أيضاً من قولها: كان والله كقول الخنساء..
[14] يشير بذلك إلى بسالتهم وقوة بأسهم في مواجهة جيشه.
[15] لعل مقصودها أن بسر بن أرطاة يأمرها بالتفوه بكلمات الشتم لعلي(ع) وهي تستعيذ بالله وتعتصم به من هذا الطلب.
[16] تقصد جباية الصدقات، وهي الزكاة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة 60].
[17] إما أنّه(ع) كان في صلاة مندوبة فقطعها، أو أنّه كان متهيئاً للصلاة، وانفتل إليها لقضاء حاجتها، لأنّ ذلك يعدّ صلاة وعبادة عند علي(ع).
[18] سورة الأعراف، الآية 85.
[19] سورة هود، الآيات 85-86.
[20] التلمظ: التذوّق، ولمظ الماء: ذاقه بلسانه، لسان العرب، ج7 ص461. وفي الحديث عن أمير المؤمنين(ع): «ألا حُرٌّ يَدَعُ هذه اللماظة لأهلها»، نهج البلاغة، ج4 ص105، واللماظة: بقيّة الطعام في الفم، يريد بذلك الدنيا، أي ألا يوجد حُرٌّ يترك هذه الدنيا التي هي كاللماظة.
[21] بلاغات النساء، ص31، وتاريخ مدينة دمشق ج69 ص225، والفتوح لابن الأعثم، ج3 ص60، والتذكرة الحمدونية لابن حمدون، ج2 ص20.
[22] لعلها تقصد أن مواجهة السلطان تفاجئ المرء فيتكلم بمثل هذا الخطاب الذي يكون على خلاف ما يراه.
[23] التَّزوير: إصلاح الكلام وتهيئته انظر: لسان العرب، ج4 ص337.
[24] قيل: زبيدي نسبة إلى زبيد، بلد باليمن، والكثيف: الغليظ، والحاشية: الجانب..
[25] جمل أرمك أي لونه يميل إلى السواد لسان العرب، ج10 ص434.
[27] الشقشقة هي جلدة حمراء يخرجها البعير من فيه في حالة الهياج، وإذا قالوا للخطيب: «ذو شقشقة» فإنّما يُشَبَّهُ بالفحل، ولأمير المؤمنينj خطبة عرفت بالخطبة الشقشقية، وسبب التسمية أنّه(ع) قال في آخرها: «تلك شقشقة هدرت ثم قرّت».
[29] سورة محمد، الآية 31.
[30] سورة التوبة، الآية 12.
[31] خفض العيش: الظاهر أنّها بمعنى هناءته ودعته.
[32] بلاغات النساء، ص 37، وتاريخ مدينة دمشق، ج70 ص236، وصبح الأعشى، ج 1 ص 269
[33] هي بنت خيثمة بن خرشة المذحجية.
[34] تبنك فلان بالمكان وفي المكان: أقام به وتمكن فيه. والبراح - بفتح الباء -: التحول والانتقال.
[35] معدياً: شاكياً ومستنصراً.
[36] أي إخراج حفيدها من الحبس.
[37] بلاغات النساء، ص 63، وتاريخ مدينة دمشق، ج 70 ص 247.والفتوح، ج 3 ص 67.
[38] بلاغات النساء، ص 72، صبح الأعشى، ج 1 ص 306، ربيع الأبرار، ج 3 ص 152.
[39] أي لم أبرح ولم أفارق بلدي، وهي الكوفة.
[40] في الفتوح: «إن كان أمير المؤمنين قد جعل الخيار إلي، فأنا لا أحبّ المصير إليه، وإن كان أمراً حتماً فالطاعة أولى».
[41] الحبر: ثوب من قطن أو كتان وهو مخطط وكان يصنع في اليمن.
[42] العصب: صنف من برود اليمن.
[43] القوهي: نوع من الثياب البيض.
[45] في تاريخ مدينة دمشق: «لا يسمع لقائلها ولا يُنقاد لسائقها».
[47] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، ج 69 ص 166، وبلاغات النساء، ص 33، والفتوح لابن الأعثم، ج3 ص 88.
[48] انظر: الانتفاضات الشيعية للسيد هاشم معروف الحسني، ص 338.
[49] المحجن: عصا في رأسها اعوجاج.
[51] كارت: لُفَّت، والمنسف هو الغربال.
[52] العضب: القاطع، والخوار: الضعيف.
[53] معرّد: هارب، وفي تاريخ دمشق: «ليس مولياً لفرار».
[54] فعل أمر من فرى، يفري وهو بمعنى فاقتلْ.
[55] سورة المائدة، الآية 95.
[56] بمعنى مات، ويقال: اخترمته المنيّة بمعنى أخذته.
[58] المحتفي: من يمشي حافياً، والناعل لابس النعل.
[60] بلاغات النساء، ص 75، وذكر قصتها في تاريخ مدينة دمشق، ج 70 ص 203.
[63] الزج: حديدة توضع في أسفل العصا.
[64] سورة المائدة، الآية 105.
[66] دَلَفَ إليكم: زحف إليكم.
[67] سورة المائدة، الآية 101.
[68] تقصد معاوية، فكأنّها تقول: أنت تكره هذا الموقف لي فلماذا تعيد ذكره؟!
[69] انظر: بلاغات النساء، ص72، وتاريخ مدينة دمشق، ج69 ص291.والنص مأخوذ من المصدرين.
[70] النهك: المبالغة في الشيء، والمراد هنا: المبالغة في العقوبة.
[71] أمامة هي زوجة الإمام علي(ع)، وهي بنت أبي العاص، وأمها زينب بنت رسول الله(ص).
[72] أم كلثوم هي ابنة علي(ع)، واليقين: الموت الذي حلّ بأبيها.
[74] العضب هو القاطع، كما تقدم.
[75] مقاتل الطالبيين، ص 28.
[76] أمّا موقف السيدة عائشة من عثمان فمعروف، وقد كانت تقول: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»، انظر: تاريخ الطبري، ج3 ص477 والكامل في التاريخ، ج3 ص206.ويروي ابن أبي الحديد أنّ عائشة: «خرجت بقميص رسول الله (ص) فقالت للناس: هذا قميص رسول الله لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته»، ثم تقول: «اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً»، ثم لم ترض بذلك حتى قالت: «أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً»، انظر: شرح نهج البلاغة، ج20 ص22، والعبارة الأخيرة منقولة عن الزبير، فقد روي أنّ «الزبير كان يقول: اقتلوه فقد بدّل دينكم، فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب، فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني، إنّ عثمان لجيفة على الصراط غداً»، انظر: المصدر نفسه ج9 ص39.وأمّا طلحة فلم يكن موقفه أقل سلبيّة من موقف عائشة، فقد ذكر البلاذري أنّه: «ولم يزل عثمان مكرماً لطلحة حتى حُصِر، فكان طلحة أشدّ الناس عليه»، انظر: أنساب الأشراف، ج5 ص506.
[77] قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب 33].
[78] نقل الشيخ محمد جواد مغنية عن بعضهم أنّه قال: «إنّ رأي عليٍّ في المرأة جاء من خلال بغضه لعائشة، لأنها حاربته»، انظر: في ظلال نهج البلاغة، ج4 ص359.
[79] المصدر نفسه، ج4 ص357.
[80] نهج البلاغة، ج2 ص48.
[81] في ظلال نهج البلاغة، ج 4 ص 375.