حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> اجتماعية
ما روي عن الإمام علي(ع) في ذم المرأة (2)
الشيخ حسين الخشن



حديث: "النساء نواقص.."

الحديث الثالث الذي يفترض بنا إخضاعه للدراسة النقدية هو ما روي عنه(ع) من خطبة قالها بعد حرب الجمل، وقد وصفها الشريف الرضي بأنّها في «ذمِّ النساء»، وقد قال فيها: «معاشر الناس.. إنّ النساء نواقص الإيمان، نواقص العقول، نواقص الحظوظ، فأمّا نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأمّا نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال، وأمّا نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد، فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر»[1].

وهذه الخطبة قد اتّخَذَ منها البعضُ سنداً أو دليلاً على إدانة علي(ع) للمرأة، وذمِّها كما عبّر الشريف الرضي، و«أنّ الإسلام لا يهتمُ بآراء النساء»[2].   

وفي المقابل، قد يقال: إنّ من الصعب التصديق بصدور هذه المضامين التي اشتملت عليها عن أمير المؤمنين(ع)، وتحقيقاً للحال وبياناً للموقف من هذه الرواية فإنّنا نتوقف عندها وقفتين أساسيتين:

الوقفة الأولى: مع سند الرواية

إنّ الرواية غير تامة السند، ومن المعلوم (كما ذكرنا في المحور الأول) أنّه لا يمكننا بناءُ تصوّرٍ إسلامي عام إزاء جنس النساء، اعتماداً على خبر واحد لو كان صحيحَ السند ومقبول المضمون، فكيف إذا كان خبراً مستغربَ المضمون وضعيفَ السند، فقد رواه الشريف الرضي مرسلاً، ورواه الطبري الإمامي في المسترشد بسند لا يصح للإرسال وغيره.

 ومِمَّا يبعثُ على مزيد من التشكيك في صدور الحديث عن أمير المؤمنين(ع)، أنّ الذي صرّح به الشريف الرضي هو أنّه(ع) قال ذلك في خطبة له بعد حرب الجمل، بينما يظهر من الطبري أن هذا المقطع هو جزء من كتاب له(ع) كتبه بعد سقوط مصر في يد عمرو ابن العاص ومقتل محمد بن أبي بكر!

اللهم إلا أن يقال: إنّ ذلك لا يعدُّ في نفسه شاهداً على عدم صدوره عنه(ع)، إذ لربّما قال(ع) هذا الكلام مرتين[3].

الوقفة الثانية: مع مضمون الرواية

ثمّ إنّه وبصرف النظر عن ضعف السند، فإنّ المضامين التي اشتملت عليها الرواية هي موضع تأمل وإشكال كبيرين مما يجعل من الصعب حصول الوثوق بصدورها عن أمير المؤمنين(ع).

ولكن وقبل تفصيل ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ الرواية - لو سلم بصدورها عنه - فلا يحتمل فيها النظر إلى خصوص امرأة بعينها، كما قيل ذلك في رواية «المرأة شر كلها»، فالكلام هنا هو عن «النساء» عامة، ولا يقبل الحمل على امرأة بعينها[4]، والتعليلات المذكورة في الرواية تؤكد التعميم. أجل، إنّ مناسبة هذا الكلام حيث قاله بعد انصرافه من حرب الجمل عدّها البعض إيماءة إلى أنه(ع) ناظر فيه إلى السيدة عائشة، قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه: «وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة»[5].

بالعودة إلى دراسة المضمون، فإنّنا نتوقف عند فقرات الرواية واحدةً تلو الأخرى:

أولاً: نقصان الإيمان

والفقرة الأولى في الحديث هي قوله: «النساء نواقص الإيمان»، وقد وجَّه الحديثُ نقصانَ إيمانهن بـ «قعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن».

ولكنّ هذا التوجيه تعترضه ملاحظة أساسية وهي أنّه إذا كان ترك المرأة للصلاة والصوم أثناء العادة الشهرية قد جاءها من قبل التشريع نفسه، وبأمر الله تعالى الذي فرض عليها ذلك وألزمها به، فكيف يعدّ ذلك نقصاً في إيمانها ودينها! مع أنّه لو أمرها بالصلاة والصوم لأتت بهما وكانت عبادتها تامة ومساوية لعبادة الرجل، إنّه وبسبب نهي الله تعالى للحائض عن الصلاة والصيام غدا قيامها بذلك معصية تبعدُها عنه سبحانه.

ولكن في مقابل هذا الاعتراض، قد تطرح عدة دفاعات عن التوجيه المذكور في كلامه(ع) بشأن نقص إيمان المرأة:

الدفاع الأول: الحائض في حالة مستقذرة لا تؤهلها للعبادة

 الدفاع الأول: إنّ المرأة في حال العادة الشهريّة تكون بحالة مستقذرة لا تؤهلها للعبادة والوقوف بين يدي الله تعالى، قال ابن ميثم البحراني: «ولمّا كان الصوم والصلاة من كمال الإيمان ومتمّمات الرياضة كان قعودهنّ عن الارتياض بالصوم والصلاة في تلك الأيّام نقصاناً لإيمانهنّ، وإنّما رفعت الشريعة التكليف عنهنّ بالعبادتين المذكورتين لكونهنّ في حال مستقذرة لا يتأهّل صاحبها للوقوف بين يدي الملك الجبّار»[6].

ولكنَّ هذا الدفاع لا يمكننا الموافقة عليه، لا لعدم الدليل عليه فحسب، بل لأنّه غير دقيق، فإنّ العادة الشهرية لا توجب قذارة المرأة نفسها عند الله تعالى، لأنّها - أي العادة الشهريّة - تمثّل حالة اعتياديّة تمرّ بها المرأة السليمة والسويّة فيخرج منها دمٌ معيّن في دورتها الشهرية كإفرازات طبيعية لحركة الرحم، وحالة كهذه هي من صنع الله تعالى وتقديره، فلا معنى لتسببها بقذارة المرأة عند الله تعالى، أو طردها عن بابه أو منعها عن محاولة التقرّب المعنوي منه، وإلا لشكّل ذلك اعتراضاً على عدل الله تعالى، إذ كيف تكون المرأة الحائض أو النفساء مكروهة ومنبوذة عنده تعالى، مع أنّ أمر الحيض ليس بيدها، وإنّما هو عزّ وجل مَنْ خلقها على هذه الحالة، فكأنّها تُعاقب أو تلام أو تنبذ وتذم على أمرٍ ليس بيدها، والحال أنّ الإنسان إنّما تصحّ - عقلاً - مؤاخذته على ما يقع تحت اختياره.

 والدم نفسه وإن كان شيئاً مستقذراً لكنه استقذار عرفي مردّه إلى اعتبارات بشرية تتصل بمزاج الإنسان، وهو لا يمنع من كون صاحبه في حالة من القرب المعنوي من الله تعالى، ألا ترى أنّ الشهيد قد يغطيه الدم وربّما تتمزق أوصال جسده، أو تتحلل جثته، لكنّ ذلك لا يمنع من كونه أقربَ الناس إلى الله تعالى، ثمّ ألسنا نرى أنّ البعض قد يشمئز من الأشخاص المشوهين جسدياً لا من موقع احتقار، مع أنّ الواحد من هؤلاء المشوهين قد يكون من خاصة أولياء الله الصالحين، وهذا نبي الله أيوب(ع) قد ابتلاه الله بأمراضٍ في جسده حتى اشمأز منه أقرب الناس إليه واستقذروه على ما روي[7]، فتُرِك وحيداً فريداً، ولكنّه رغم ذلك كان في مستوى من القرب المعنوي إلى الله لا يدانيه فيه أحد.

ولكن قد يقال: إنّ قذارة المرأة في حالة الحيض هي مما نصّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [8]، وعليه فلا مجال للتشكيك في المسألة.

وتعليقنا على ذلك: إنّه لا دلالة في الآية المباركة على قذارة المرأة الحائض روحياً ومعنوياً؛ وذلك لأنّ مفادها هو الدعوة إلى اجتناب مقاربة النساء في حالة الحيض، وواضح أنّ تحريم المعاشرة الجنسية مع الحائض له حكمة واضحة وجليّة نصّت الآية نفسها عليها، وهي أنّ «المحيض أذى»، والأذى سواء كان بلحاظ المرأة الحائض نفسها أو بلحاظ الذي يقاربها في تلك الحال فإنّه لا يعني القذارة، كما سنشير بعد قليل.

ومما يشهد لعدم استقذار المرأة نفسها في حال الحيض، أنّه لا يحرم على الرجل سوى خصوص المعاشرة الجنسيّة معها دون سائر أنحاء الاستمتاع، فضلاً عما عداها من أشكال الاختلاط بها والتواصل معها. ومما يعزِّز ما نقوله ويزيده وضوحاً هو ملاحظة أسباب النزول، فإنّها تؤكّد على أنّ الآية المباركة نزلت لإبطال سُنَّةٍ جاهليةٍ، حيث كان المشركون «لا يساكنون حائضاً في بيت، ولا يؤاكلونهنّ في إناء، ولا يشاربونهن، فَعَرَّفَهم الله بهذه الآية أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم أن يجتنبوا جُمَاعَهُنَّ فقط دون ما عدا ذلك، من مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن»[9]، ويبدو أنّ هذه التصرفات التي تمثّل نبْذاً للمرأة الحائض وتعبِّر عن استقذارها قد ورثها بعض العرب من مجاورة اليهود، ونزلت الآية الكريمة ردّاً عليهم، فقد روي عن أنس: «أنّ اليهود كانوا يُخْرِجُون الحائض من البيت ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت، فسئل النبي (ص)، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}»[10][11]، وسيأتينا لاحقاً[12] بعض نصوص التوراة التي تنصّ على نجاسة الحائض ونجاسة كل ما تجلس عليه أو تلامسه.

وما نقوله في الحائض يجري بعينه في الجنب، فإنّ الجنابة لا توجب قذارة الإنسان الجنب في روحه ونفسه، كما يشهد بذلك ما ورد في الحديث من أنّ أبا هريرة كان جنباً فلقي النبي(ص) في بعض طرق المدينة فذهب إلى بيته مستخفياً، فاغتسل ثمّ جاء إلى النبي(ص)، فسأله النبي(ص) أين كنت؟ قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة! فقال(ص): «سبحان الله إن المؤمن لا ينجس»[13]. وقوله(ص): «المؤمن لا ينجس» مطلق، فيشمل الحائض وإن كان مورده الجنب.

الأذى والقذر

ولكن قد يقال: إنّ في الآية المباركة تعبيرين يدلان على قذارة المرأة في حال الحيض، والتعبيران هما:

 التعبير الأول: هو قوله تعالى في وصف المحيض: {هُوَ أَذًى} وقد فُسّر الأذى بالقذر، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {أَوْبِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} [14]، فقد فُسِّر الأذى في هذه الآية بالقُمَّل[15]، قال الجصاص: «ويدلّ على أنّ الأذى اسم يقع على النجاسات، قول النبي (ص): «إذا أصاب نعل أحدكم أذى فليمسحها بالأرض وليُصَلِّ فيها، فإنّه لها طهور»[16]، فسمّى النجاسة أذى»[17].

 ولكن يلاحظ عليه:

أولاً: إنّ الأذى بحسب المفهوم اللغوي والمتبادر العرفي هو غير القذر. أجل، إنّ القذر قد يكون منشأً للأذى، فرائحة النفايات - مثلاً - مؤذيةٌ بسبب تقذّر النفس منها، ولكن لا موجب لحصر الأذى بما يبعث على التقذر. ويشهد لذلك أنّ الآية المباركة التي وصفت المحيض بالأذى نكّرت لفظ الأذى، والتنكير يفيد الإطلاق، فالحيض هو كل ما يُتأذى منه، سواء تأذّت منه المرأة، بسبب مزاجها الخاص في فترة العادة، أو بسبب أنّ العلاقة معها في هذه الأثناء توجب لها بعض الضرر، كما ثبت ذلك من خلال العلم الحديث، أو تأذى منه الرجل إيذاءً مادياً في حال مقاربة المرأة في هذه الحالة، أو معنوياً بسبب نفوره النفسي من المقاربة في تلك الحال.

وأما تسمية القمّل بالأذى، فهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه ويتسبّب به، حيث إنّ القمَّل يتسبب بالأذى، وكذلك تسمية القذارة التي تَعْلَقُ بالرِجْلِ بالأذى إنّما هو من جهة أنّها تبعث على الأذى.

ثانياً: لو سلّمنا أنّ المقصود بالأذى هو القذر حصراً، فهذا لا يدلّ على قذارة المرأة نفسها، فالوصف هو للدم لا لصاحبته، قال العلامة البلاغي: «ولا بدّ في قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} [18] من نحو من الاستخدام، فإنّ الحيض بمعناه المصدري ليس قذراً يجتنبه الرجال، وإنّما القذر والأذى هو الدم. ويحسن هذا الاستخدام بشدّة الملابسة والاستغناء به عن التصريح باسم دم الحيض المستقذر»[19].

التعبير الثاني: استخدام الآية للفظ التطهّر والطهارة أكثر من مرة، وهي: «حتى يطهرن»، و«فإذا تطهّرن»، و«يُحِبُّ المتطهرين»، ما يعني أنّ الحائض هي كائن نجس وقذر ويحتاج إلى الطهارة، فنجاسة وقذارة الدم تتسببان بقذارة ونجاسة صاحبة الدم، ولهذا أُمرت الحائض بالطهارة. والقذارة المعنوية المتأتية عن حالة الحيض هي أشدّ من القذارة المادية المنحصرة في خصوص الدم.

ويلاحظ عليه: إنّ النجاسة الماديّة للدم مسلّمة، وهي نجاسة لا تنحصر بدم الحيض، بل تعمّ كل دم، وهي توجب تطهير ما لامس هذا الدم من أجزاء البدن أو الثياب، ومن المرجح أنّ للأمر اعتبارات صحيّة، تتصل باحتمال اشتمال الدم ولا سيما دم الحيض على بعض الجراثيم، هذا ناهيك عن أنّه سبب للاستقذار العرفي، وربّما انبعاث الروائح الكريهة، ولذا فتطهير الجسد من دم الحيض وكذا الثياب هو أمر مفهوم جداً، بل هو مدعاة لتقدير هذا الموقف الشرعي، لأنّه يؤكد حرص الإسلام على نظافة الإنسان والعناية بصحته. وأمّا الأمر بتطهير الجسد بأجمعه وهو ما يُعرف بالغُسْل والذي هو واجب شرعي ولا مفر منه حتى بعد غَسْل الحائض للأماكن الخاصة التي لامسها دم الحيض، فهو - أي الغُسْل - كما أنّه لا يكشف عن نجاسة البدن - في الأماكن التي لم يلامسها الدم - نجاسة ماديّة، فإنّه لا يدلُّ أيضاً على أنّ المرأة الحائض هي في حالة نجاسة واستقذار معنوي يجعلها منبوذة عند الله أو غير مؤهلة للاتصال الروحي به، وإنّما الأمر بالتطهّر والغسل هو تكليف شرعي، وقد تكون الحكمة فيه أنّه وبعد هذه الدورة الشهرية وما يرافقها من تعب وإرهاق وتقلبات مزاجيّة ونفسيّة لدى المرأة، فإنّ الغُسْل سوف يساعد على راحتها، ويهيئها للخروج من حالة إلى أخرى جسدياً ونفسياً. وربّما يرمز الغسل - أيضاً - إلى أدب شرعي خاص، مفاده أنّ على الإنسان أن يكون أثناء لقاء الله على حالة خاصة من الطهارة الروحيّة التي يوفرها الغسل ويريد الله لعباده أن يكونوا عليها أثناء تواصلهم معه، وهذا لا يختص بالحائض بل يجري في الجنب وكل محدث بالحدث الأكبر، بل إنّ ذلك يشمل المحدث بالحدث الأصغر، فإنّه مأمور أيضاً بالوضوء مقدمة للصلاة، أو من أجل مسّ آيات القرآن الكريم. فالمحدث بالأصغر ليس في حالة قذارة مادية، وهذا واضح، ولا في حالة قذارة معنوية تمنعه وتحجبه عن التواصل مع الله تعالى، ولذا جاز له الدعاء وتلاوة القرآن والاستغفار وهو في حالته تلك. أجل، إنّ الطهارة الوضوئية قد تجعله أكثر لياقة للاتصال بالله تعالى، وقد ألزمه الله تعالى أن يكون على هذه الحالة من اللياقة أثناء الصلاة والطواف دون غيرهما من العبادات.

 وقصارى القول: إنّ العبد إنّما يمتثل حكماً شرعياً عندما يغتسل أو يتوضأ استعداداً للعبادة، وهذا الحكم الشرعي ليس مرده إلى قذارة العبد الروحيّة أو المعنوية بما يحجبه عن لقاء الله تعالى ويجعله ممنوعاً من التواصل معه، وغير مؤهل لدخول ساحة القرب المعنوي، بل ربّما كان السر في ذلك كامناً في أنّ العبد سيغدو أكثر لياقة واستعداداً للقاء الله والاتصال به. والله العالم.

الدفاع الثاني: نقص الإيمان مرجعه إلى نقص ذاتي

قال المجلسي: «وقعودهن وإن كان بأمر الله تعالى إلا أنّ سقوط التكليف لنوعٍ من النقص فيهنّ، وكذا الحال في الشهادة والميراث»[20]. فالمجلسي في كلامه هذا لا يريد القول: إنّ الحائض هي في حالة قذارة تمنعها من القرب المعنوي من الله تعالى، ولا يزعم أيضاً أنّ نقص الإيمان يتحقق بمجرد تركها للصلاة والصيام، فإنّ تركها للعبادة هو بأمر الله تعالى، فلا يصلح مجرد الترك - مع كونها مأمورة شرعاً به - لتفسير وتوجيه نقص الإيمان، وإنّما يريد القول: إنّ نقص إيمانها المتمثل بتركها للعبادة كاشف أو بالأحرى منطلق من شيء أعمق وهو ضعفها أو نقصها الذاتي المتأصل فيها «بحيث يكون القعود عن الصلاة أثراً من آثاره وكاشفاً عن كواشفه كشف المعلول عن علته»، كما ذكر بعض العلماء رحمه الله[21]

ويلاحظ عليه:

       إنّ هذا التفسير خلاف ظاهر النص، ومعلوم أنّ الظاهر هو الميزان في التفهيم والتفاهم وعلى ضوئه تتمُّ محاكمة النصوص، والظاهر من كلامه(ع) أنّ نقص الإيمان مُسبَّبٌ عن ترك الصلاة والصيام، وليس مسبباً عن علة أخرى وراء ذلك، بحيث يكون ترك الصلاة والصيام مجرد عنوان مشير إليها.

 لو سلمنا بما قيل، فإنّ إرجاع النقص إلى صفة تكوينيّة لا يمكن جعله تفسيراً مقبولاً لنقصان إيمان المرأة؛ لأنّ النقص الناشئ عن صفة تكوينية لا تُلام المرأة عليه ولا تُذم، مع أنّ الحديث - في رميها بالنقص - وارد مورد الذم، وبكلمة ثانية: إنّ رمي أحد بالنقص ولومه عليه إنّما يجوز أو يستساغ إذا كان قادراً على تخطي هذا النقص نحو الكمال، وأمّا مع كون نقصه ذاتياً وتكوينياً فلا مبرر عندئذٍ لرميه بالنقص ولا لومه عليه!

على أنّه يمكن القول: إنّ نقص إيمانها إذا كان ناشئاً من صفة تكوينية متأصلة فيها، فمن المفترض بهذا السبب التكويني أن لا يتخلّف عن التأثير، أي لا بدّ أن يكون مانعاً من عروج المرأة واتصالها الروحي بالله أثناء العادة مطلقاً، وبكل أشكال التواصل، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فقد ورد في الشريعة ما يدلّ على أنّه ليس ثمّة ما يمنع المرأة من العروج والتواصل الروحي المذكور، بغير واسطة الصلاة والصوم، وقد ذكروا أنّه يستحب لها الذكر والتسبيح والدعاء[22]، فلو لم تكن مؤهلةً للتواصل الروحي مع الخالق فلا معنى لدعوتها لفعل ذلك على نحو الاستحباب..

إن سألت: إذا كانت الحائض مؤهلة للعروج الروحي وليست ممنوعة منه، فكيف تفسِّرون سقوط الصلاة والصيام عنها وعن النفساء؟

قلت: ربما يكون مردّ سقوط الصلاة والصوم عن المرأة الحائض إلى نوع من التخفيف الشرعي عنها رأفة بها ومراعاة لحالها؛ لأنّ الحيض يترافق مع تغيرات في الحالة المزاجية لدى المرأة وتصاحبه بعض الآلام والأوجاع، وقد عبّر عنه القرآن الكريم تعبيراً مختصراً ودالاً فقال: {هُوَ أَذًى}، وعليه يكون من الطبيعي أن يُخفِف الله تعالى عن الحائض، وهو تخفيفٌ أُريد لها الالتزام به، لأنّه هديّة من الله تعالى، وهدية الله لا تردّ، نظير هديته في التخفيف على المسافر، بترك الصيام وقصر الصلاة، فهو تخفيفُ عزيمةٍ لا رخصة.

الدفاع الثالث: نقص الإيمان مرده إلى قوّة العاطفة

ويُرْجِعُ بعضُ الفقهاءِ نقصَ الإيمان لدى المرأة إلى قوّةِ عاطفتها ونقصِ عقلها، قال رحمه الله: «إذا كانت الروح هي بيت العقل، والنفس هي بيت العواطف استطعنا أن نقول: إنّ نوع المرأة - وليس جميع الأفراد على الإطلاق - أقلّ روحياً من نوع الرجل -بالمعنى نفسه- وأعلى نفسياً، أي أقوى عاطفياً، وإذا فهمنا أنّ معنى قوة العاطفة هو زيادة الاهتمام بالدنيا ومالها وجمالها وحمل هموم عوارضها وبلائها، إذن نجد من المنطقي أنّه يجب أن تكون المرأة أقلَّ إيماناً من الرجل، لوضوح أنه كلما ازداد اهتمام الفرد بالدنيا كان ذلك علامة على نقصان إيمانه، حتى ما إذا كانت الدنيا أقصى همه ومبلغ علمه، كان لا إيمان له تقريباً أو تحقيقاً، وهذا أمر لا يختلف فيه الجنسان»[23].

بيد أنّ هذا الكلام - مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر من قول الإمام(ع) - غير تام في نفسه؛ لأنّ قوّة العاطفة ليس من الواضح أنّها تنعكس ضعفاً في الإيمان وتقلل من إقبال العبد على الله تعالى، وتزيد في إقباله على الدنيا، بل ربما كان الأمر بالعكس، فإنّ قوّة العواطف تجعل الإنسان أشدّ ميلاً للقضايا الروحيّة، وأكثر تجاوباً معها، بخلاف الأشخاص الذين تتحكّم بهم الأفكار العقلية، فإنّ ذلك - في بعض مستوياته - قد يؤثر سلباً على روحيتهم.

ثانياً: نقصان الحظوظ

الفقرة الثانية: «نقصان الحظوظ»، وبرّره الحديث بأنّ مواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال، وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [24]، وتعليقنا على هذه الفقرة أنّها لو كانت ترمي إلى ذمّ المرأة بسبب ذلك كما يوحي به سياق الحديث فهو غير مفهوم؛ لأنّ نقصان حظوظهن جاء من قبل التشريع الإسلامي، فيرجع الإشكال في المآل إلى حكمة المشرِّع نفسه، وهذا ما سوف يشكّل سبباً إضافياً للتشكيك في صدور الحديث عن أمير المؤمنين(ع). وأمّا لو كانت الفقرة المذكورة لا ترمي سوى إلى توصيف واقع الحال وأنّ نصيب المرأة في الميراث على النصف من نصيب الرجل دون أن تذمَّها على ذلك، فعندها تخرج هذه الفقرة عن دائرة التشكيك في صدورها عن الإمام(ع)، لأنّ المضمون الذي تحمله هو مضمون قرآني ولا شكّ في انتسابه إلى التشريع الإسلامي. أجل، يبقى أنّه كيف نفهم هذا التشريع نفسه والذي يعطي الرجل ضعف الأنثى في الميراث؟ أليس في ذلك ظُلمٌ للمرأة؟

والجواب على ذلك كما أشرنا سابقاً، هو أنّ شبهة ظلم المرأة إنّما نشأت من النظرة التجزيئية إلى مسألة الميراث، وأمّا لو نظرنا إلى الأمور نظرة شموليّة ووضعنا مسألة ميراث المرأة في سياق المنظومة الماليّة العامة توزيعاً وإنفاقاً ومسؤوليات، فإنّ الإشكال المذكور سوف يندفع؛ لأنّ المرأة وإن أُعطيت في الميراث نصف ما يُعطى الرجل، بيد أنّها لم تكلّف مسؤولية الإنفاق بالقدر الذي يتحمله الرجل، فالرجل مسؤول عن الإنفاق على زوجته وتأمين احتياجاتها في المسكن والمأكل والمشرب والملبس.. حتى لو كانت الزوجة غنيّة ومكتفية، أمّا هي فلا تلزم شرعاً بالإنفاق عليه حتى لو كان فقيراً، كما أنّ الرجل مسؤول عن الإنفاق على أولاده ذكوراً وإناثاً في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومسكنهم وكل ما ينوبهم، ولا تكلَّف هي بشيء من ذلك، وكذلك فإنّ الرجل مكلّفٌ بدفع المهر لزوجته بينما لا يُرتِّب الزواج أي أعباء مالية على المرأة. وفي ضوء ما تقدم يتضح أنّ التشريع لم يظلم المرأة إطلاقاً، بل إنّها في المآل قد تكون أفضل حالاً من الرجل في مجال توزيع التركة.

 ثالثاً: نقصان العقل

الفقرة الثالثة: «نقصان العقول» وقد برره الحديث المذكور بالقول: «وأمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد».

وتحقيق الكلام في هذه الفقرة يفرض علينا الحديث في نقطتين:

الأولى: التوقف عند فكرة نقصان عقل المرأة، فهل أنّ المعطيات والوقائع تساعد على صحة ذلك؟

الثانية: هل يصحُ الاستشهاد على ضعف عقل المرأة بأنّ شهادتها تساوي نصف شهادة الرجل؟

النقطة الأولى: كيف نفهم ضعف عقل المرأة؟

وتواجهنا عدّة أسئلة على هذا الصعيد، ومن أهمها:

ما هو المؤشر الذي يثبت ضعف عقل المرأة؟

ما المعيار الذي يمكن في ضوئه معرفة ضعف عقلها؟ هل المسألة هي من القضايا الغيبيّة التي تُتلقى من الوحي أم إنّ المعطيات الواقعية لها دورها الأساس في معرفة ذلك؟

كيف نفهم ضعف عقلها؟ فهل هو ضعفٌ في عقلها الفطري أم في عقلها المكتسب؟

هل إنّ حديث الإمام - لو صحّ - عن ضعف عقلها صادر عنه على سبيل القاعدة العامة العابرة للزمان والمكان، أم إنّه ناظر إلى واقع المرأة التاريخي والظروف التي أحاطت بها وأبقتها في مستنقع الجهل والأميّة ولم تمكّنها من تنمية عقلها؟

ونبدأ بالإجابة على هذه الأسئلة تباعاً:

أمّا السؤال الأول، فقد أحال الكثيرون في الإجابة عليه على الواقع، باعتبار أنّ الملحوظ خارجاً أنّ عقل النساء لا يرقى إلى عقل الرجال، وقد أوضح السيد المرتضى (رحمه الله) هذا الأمر قائلاً: «وأما نقصان العقل، فمعلومٌ أنّ النساء أندرُ عقولاً من الرجال، وأنّ النجابة والليانة (اللياقة) إنما يوجدان فيهنّ في النادر الشاذ، وعقلاء النساء وذوات الحزم والفطنة منهن معدودات، ومَنْ بهذه الصفة مِنَ الرجال لا يحصى كثرة. ويمكن - أيضاً - أن يقال في نقصان الدين مثل هذا الوجه، فإنّه لما كان الأغلب عليهن ضعف الدين وقلة البصيرة فيه، نسب إليهن ذلك على الأكثر الأغلب. ولا يطعن على هذا الوجه مَنْ علمناه على غاية العقل في الدين والكمال فيما يعود إليه، مثل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وعليها، وخديجة بنت خويلد، ومريم بنت عمران. لأنّ كلامنا على الأغلب الأكثر، ومَنْ عرفناه بالفضل في الدين من النساء قليل العدد عَسِرُ الوجود»[25].

ولكنّ هذا المؤشر الذي يحيلنا على الواقع الخارجي لا يصلح شاهداً حاسماً في المسألة، بل قد يكون يكون شاهداً معاكساً، على اعتبار أنّ ندرة النساء ذوات العقل والحكمة يمكن إرجاعها إلى حالة التهميش التي عاشتها المرأة على مرّ التاريخ، ما جعلها بعيدة كل البعد عن مصادر المعرفة، ومستغرقة بالصغائر وهوامش الأمور، وتخطِّط للوصول إلى مرادها بالكيد والمكر، وربما كان منشأ ذلك التهميش هو أنّ الإنسان القديم كان يعتمد القوّة لقهر الآخرين والسيطرة عليهم، ومعلوم أنّ ضعف المرأة أمام قوة الرجل الجسديّة جعلها تابعة له ومقهورة لإرادته، ثمّ أكّد سيطرته بوضع القوانين وصياغة الأفكار ودخل ذلك في العادات فكرّس مظلوميّة المرأة على امتداد التاريخ[26]، ومما يشهد - بشكل قاطع - لما ذكرناه من أنّ هذا الواقع التاريخي لا يصلح لإعطاء قاعدة عامة في هذا المجال أننا رأينا الصورة قد اختلفت وتبدلّت جذرياً عندما أتيحت الفرصة وفتحت الأبواب أمام المرأة للدخول إلى ميادين المعرفة والعلم، فقد برعت في شتى المجالات العلميّة، وأثبتت جدراتها على أكثر من صعيد، ونافست الرجال حتى فيما كان يُعدّ حقولاً تخصصيّة لا تدخلها الإناث وإنّما هي حكر على الرجال.

وامّا السؤال الثاني، فقد أجاب بعض العلماء عليه قائلاً: «منْ قال: إنّه لا يوجد اختلاف في حقيقة وجوهر عقل المرأة عن جوهر وحقيقة عقل الرجل. فإنّ معرفة هذا الأمر غير متيسرة لنا، فلا بدّ أن نرجع فيها إلى الله ورسوله، وأهل بيته الطاهرين؟!»[27].

وتعليقاً على ذلك يمكننا القول: إنّ أمر العقل ليس غيبياً ليكون المرجع في معرفته إلى خصوص الوحي وما يرد عن المعصومين حوله، ولذا يمكن اختبار العقل ومعرفة درجته، شدّة وضعفاً، من خلال التجربة. إننا قد لا ندرك كنه العقل وحقيقته، بيد أنّ بالإمكان أن نعرفه من خلال آثاره، ولذا ترانا نميّز العاقل من المجنون، كما أننا نصنّف العقلاء إلى مَنْ هو حادّ الذكاء ومَنْ هو عادي في ذكائه، ومَنْ هو ضعيف الذكاء، وقد علّمتنا معطيات الحياة وتجاربها ودخول المرأة في معترك الأعمال الفكريّة والعقليّة أنّ عقلها ليس بأضعف من عقل الرجل بشكل عام وشامل، نعم قد يبرع الرجل في بعض المجالات أكثر من المرأة، بينما تبرع المرأة في مجالات أخرى، وما زالت التجارب تنبئنا كل يوم بجديد على هذا الصعيد، ولذا فالمسألة تبقى مفتوحة ومرهونة لما تثبته التجارب في قادم الأيام.

أجل، ثمّة معطيات علميّة تُنسب إلى أهل الخبرة والاختصاص، وهي تتحدث عن أنّ دماغ المرأة أقلّ من دماغ الرجل بحدود 10%، كما أنّ ثمّة فوارق بينهما في الوزن والحجم، وهذا الأمر يعني حكماً أنّ خلايا دماغ الرجل هي أكثر بكثير (يحكى عن ملايين الخلايا) من خلايا دماغ المرأة، وهذا سينعكس بطبيعة الحال على عمل الدماغ وفاعليته.

 وهذا الكلام لا بدّ من متابعته بدقة وعناية، فقد يكشف لنا الكثير من الغموض في المقام، ولكن بالرغم من ذلك فليس ثمّة ما يؤكد أنّ هذا الاختلاف في حجم الدماغ يدعم فكرة تفوّق الرجل عقلياً.

وأمّا السؤال الثالث: ففي مقام الإجابة عليه، فقد أرجع بعض العلماء ضعف عقلها إلى العاملين أو السببين المذكورين معاً، وهما:

السبب الأول: ما اصطلح عليه بأنّه «سبب من داخل، وهو نقصان استعداد أمزجتهنّ، وقصورهنّ عن قبول تصرّف العقل كما يقبله مزاج الرجل»، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ}[28]، «فإنّه نبّه على ضعف القوّة الذاكرة فيهنّ، ولذلك جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد».

السبب الثاني: ما اصطلح عليه بأنّه «سبب عارض من خارج، وهو قلَّة معاشرتهنّ لأهل العقل والتصرّفات، وقلَّة رياضتهنّ لقواهنّ الحيوانيّة»[29].

أقول: إنّ السبب الثاني - هو باعترافه - سببٌ عارضٌ من خارج ولا دخل للمرأة فيه، ويمكن رفعه من خلال انخراط المرأة في المجال المعرفي والسماح لها بمشاورة ذوي العقول والاستفادة من أفكارهم وتجاربهم، ولذا فالمهم هو النظر في السبب الأول. والحقيقة أنّ ما ذكره رحمه الله من نقصٍ أو قصور ذاتي في عقل المرأة هو مجرد ادعاء وليس ثمّة ما يؤكّد ذلك بشكل حاسم، بل إنّ المعطيات الواقعية المشار إليها تجعلنا نرجّح القول بأنّ عقلها لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن عقل الرجل، فالعقل الفطري أو ما يسمى القوّة العاقلة هو في المرأة والرجل على حدٍّ سواء، فهما من نفس واحدة، وهما سيان في الخطاب والتكليف الإلهي، ولو كان عقلها أنقص من عقله لكان اللازم أن يختلف تكليفها عن تكليفه. وإنّما الفرق بينهما في العقل المكتسب، وفي التجارب العلمية التي تنمي تلك القوّة، فإنّ هذه الطاقة التي أودعها الله فينا قابلة للتنمية والصقل من خلال الحراك العلمي والمعرفي، كما يؤشر إليه قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[30]. والرجل قد توفرّت له على مرّ التاريخ فرصة كبيرة لتنمية القوّة العاقلة المودعة لديه. وأمّا المرأة فلو تسنّى لها أن تنمّي عقلها وملكاتها لفاقت الرجل أو ساوته علماً وفقهاً وأدباً وعطاءً. ومن هنا فيُرجّح أن يكون نظر الإمام(ع) - لو صحّت الرواية - إلى ضعف عقلها المكتسب، وليس عقلها الفطري.

ومن خلال ذلك يتضح الجواب على السؤال الرابع والأخير، وأنّ حديثه(ع) عن ضعف إلى عقلها ليس صادراً عنه على سبيل القاعدة العامة العابرة للزمان والمكان، وإنما هو  ناظر إلى واقع المرأة التاريخي والظروف التي أحاطت بها وأبقتها في مستنقع الجهل والأميّة ولم تمكّنها من تنمية عقلها.

النقطة الثانية: ما هي علاقة العقل بالشهادة؟

وأما فيما يتصل بما استشهدت به الرواية لتأكيد ضعف عقل المرأة من أنّ شهادتها تساوي نصف شهادة الرجل، فإنّ الملاحظة الأوليّة التي يمكن تسجيلها على هذا السبب هي أنّ الشهادة أمر حسي ولا ترتبط بالعقل ارتباطاً أساسياً ووثيقاً إلا بالمقدار الذي يُخرج الشاهد عن كونه مجنوناً أو لا يعي ما يقول ولا يميّز الأمور، وتوفر هذا المقدار من سلامة العقل تشترك فيه المرأة مع الرجل، كما يشتركان في سلامة الحواس، ومع كون الشهادة لا ترتبط بالعقل، فكيف يمكن إرجاع نقصان العقل لدى النساء إلى أمر يتصل بالشهادة؟!

باختصار: إنّ «الشهادة لا ترتبط بقضيّة العقل، لأنّ قضيّة الشهادة هي قضيّة سلامة في الحسّ فيما يراه الإنسان أو يسمعه، وأمانة في النقل»[31]، ولذا عندما تصدق الشهادة فإنّما يصدق الإنسان في قوله لا في تفكيره وعقله، وإذا لم يُصِبْ في شهادته فإنّ ذلك لا يكشف عن قلِّة عقله بمقدار ما يكشف عن عدم وثاقته وأمانته في النقل. وهذه الملاحظة - بطبيعة الحال - إنّما ترمي إلى التشكيك في صدور هذا الحديث عن أمير المؤمنين(ع)، لأنّه لا يمكن أن يتكلَّمَ بكلامٍ غير منطقي.

ولكنّ هذا الكلام المطروح في هذه الملاحظة قد واجه سيلاً من الاعتراضات والردود:

الردّ الأول: طغيان العاطفة يؤثر على سلامة الحواس

 والاعتراض الأول هو أنّ ذلك «إنّما يصح في مورد لا تطغى فيه على العقل المؤثرات التي تمنعه من ضبط الوقائع وحفظها سليمة عن النقص، أو عن الزيادات والطوارئ التي ربما تخلط بعض الأمور ببعضها الآخر، فإنّ بين سلامة الحواس في ضبط الأمور، وبين أداء الشهادة مرحلة تحتاج إلى مراقبة يؤمن معها عدم ضياع شيء أو عدم اختلاط الأمور ببعضها»[32].

ويلاحظ عليه:

 أولاً: سلّمنا بأنّ لدى المرأة مؤثّرات تطغى على عقلها تمنعها من ضبط الأمور وتؤثر على سلامة الحواس عندها دون الرجل، لكنّ هذا يعني أنّ المشكلة لدى المرأة ليست في عقلها ولا في حواسها وإنّما في تلك المؤثرات التي تؤدّي إلى تشتت الحواس، فلمَ لا يتمُّ تبرير ضعف العقل بتلك المؤثرات مباشرة، لا بكون شهادتها تعادل نصف شهادة الرجل، أما قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ}[33] فسنعود إليه عمّا قليل.

ثانياً: ما هي طبيعة هذه المؤثرات التي تفقد المرأة التركيز وتجعل عقلها أو ذهنها مشتتاً، وتمنعها من ضبط الوقائع وحفظها سليمة عن النقص وعن الزيادة والتي توجب خلط الأمور بعضها بالبعض؟ هل هي مؤثرات ذاتية تكوينيّة أم إنّها مؤثرات عارضة وتتصل بالبيئة والظروف المحيطة بالمرأة والتي تزيد من الضغوط عليها؟ وهل إنّ هذه المؤثرات خاصة بالمرأة دون الرجل، أو على الأقل تكون المرأة أسرع تجاوباً معها أكثر من الرجل؟

 لم يحدّد لنا صاحب الرد المذكور شيئاً من ذلك، لننظر فيه ونتحرى ما إذا كان صحيحاً أم لا.

ولكن ما يُطرح في العادة من هذه المؤثرات - وربّما يكون نظره إليه - هو قوّة الإحساسات العاطفية لدى المرأة وغلبتها على الجانب العقلي، ونحن لا ننكر قوّة الجانب العاطفي لدى المرأة. وهذا من ألطاف الله تعالى ليس بالمرأة فحسب، بل بالإنسانية جمعاء، فعاطفة المرأة تنشر نفحات الحب في الحياة وتمنح الأسرة معاني العطف والرحمة والرفق، لكننا نسأل: هل إنّ قوّة العاطفة لدى المرأة تفقدها التركيز أم تضعف تركيزها أم لا تؤثر على تركيزها إطلاقاً؟

والجواب: لو أنّها أفقدتها التركيز فاللازم هو المنع من قبول شهادتها مطلقاً، لا جعل شهادة امرأتين بمستوى شهادة رجل واحد. وأمّا إذا كانت تضعف تركيزها، فإنّنا نسأل ثانية: هل ذلك مطَّرِدٌ في كل الوقائع وفي كل النساء؟ ليس من الواضح أنّ ضعف التركيز مطردٌ في كافة النساء ولا في غالبيتهن، والواقع أمامنا يشهد بما نقول. وعليه، فاللازم هو التفصيل بين الحالات والنساء، ثم لقائل أن يقول: إنّ لدى الرجل من المؤثرات التي تضعف تركيزه في كثيرٍ من الحالات بما لا يقلّ عن المرأة، ومن هذه المؤثرات كثرة اهتماماته وانشغالاته، هذه الأسئلة نطرحها بصرف النظر عن الآية القرآنية الواردة في شهادة المرأة والتي سيأتي الحديث عنها.

الردّ الثاني: لزوم قبول شهادة الصبيان!

وأورد على تلك الملاحظة بإيراد آخر، وهو أنّه «لو كان الأمر مرتبطاً بسلامة الحواس، وبالأمانة في النقل وحسب، لكان اللازم قبول شهادة الصبيان المميّزين في سنّ الخامسة والسادسة وأقلّ من ذلك، فكيف إذا كان الصبي في سن الثانية عشرة، والثالثة عشرة، أو الرابعة عشرة إذا تأكدنا من سلامة الحواس لديه، وعدم الكذب في النقل؟! بل ربما يمكن قبول شهادة حتى المجانين في بعض الحالات والفروض إذا كانوا سليمي الحواس. فهل يقبل هذا البعض بذلك؟! وقد يتطور الأمر لقبول شهادة الببغاء، التي تحكي الأقوال كما هي!! فهل يرضى ذلك هذا البعض؟!»[34].

ويمكننا التعليق على ذلك: بأنّ صاحب الملاحظة لم ينفِ الحاجة إلى مستوى معينٍ من الوعي والتركيز لدى الشاهد، بحيث يكون تحليه بذلك سبباً في عدم تشتت نظره وحواسه، وهذا المستوى من الوعي والتركيز موجود لدى المرأة كما هو موجود لدى الرجل، ولكنّه -أعني صاحب الملاحظة- رمى إلى القول بأنّ الشهادة حيث كانت تتصل - كما مرّ - اتصالاً وثيقاً بسلامة الحواس، وحيث إنّه لا يبدو أنّ حواس المرأة أضعف من حواس الرجل، فلا يصحّ تبرير ضعف العقل لديها بضعف الحواس؟! وعلى هذا فلا يرد النقضُ بالطفل الصغير، فضلاً عن المجنون والببغاء؛ لأنّ الطفل - في العادة - لا يمتلك تركيزاً أو فهماً كافيين يؤهلانه للشهادة ويسمحان اعتماد شهادته أو الأخذ بقوله في إدانة الآخرين أو في إثبات الحقوق، نعم لو كان قد بلغ سنّاً معينة اكتمل فيها عقله ووعيه بما يسمح له بالتركيز، كما لو بلغ سنَّ الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة فإنّ رفض شهادته والحال هذه ليس واضحاً على إطلاقه، بل ثمة قول فقهي بقبول شهادته ولو في بعض المجالات، ووردت بعض الروايات الدالة على قبول شهادته[35].

وفي المحصلة فلسنا نوافق على القول: إنّ ثمة ترابطاً مطرداً بين ضعف الحواس وضعف العقل، وإلا لكان معنى ذلك أنّ الإنسان كلما كان أكثر تعقلاً كلما كانت شهادته أكثر دقة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل ربما كانت شدَّةُ العقل - أحياناً - مدعاة ومبعثاً لشكّ المرء في دقة مبصراته ومسموعاته وملموساته وسائر محسوساته.

ومن جهة أخرى، فلا نجد أنّ التجارب الواقعيّة والدراسات الإحصائيّة[36] المتصلة بشهادة المرأة مقارنة بشهادة الرجل تظهر أو تؤيد دعوى أنّ شهادة المرأة أقل إصابة للواقع وأكثر عرضةً للخطأ من شهادة الرجل. 

الردّ الثالث: القرآن يشهد لضعف عقل المرأة

«إنّ الشهادة في القرآن الكريم قد علّلت بتعليل واضح، هو قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ}[37]، فالقرآن قد قرّر هذا الضلال والخطأ في جانب المرأة دون الرجل، والذي يضلّ ويحتاج إلى التذكير هو عقل الإنسان، وليس الحواس»[38].

ولا يبعد أنّ يكون الحديث المتقدّم المروي عن أمير المؤمنين(ع) والذي هو محل البحث ناظراً إلى هذه الآية الكريمة، والتي برّرت الحاجة إلى شهادة امرأتين بكون المرأة قد تضلّ، فتحتاج إلى ضمّ امرأة أخرى إليها لتذكّرها، والضلال - كما قالوا - بمعنى النسيان، وفي ضوء ما قررته هذه الآية يكون تبرير الإمام علي(ع) لنقصان عقل المرأة بنقصان شهادتها - بالمقارنة مع شهادة الرجل - مفهوماً، على اعتبار أنّ النسيان هو ضعف في الذاكرة، وهذه من أمراض العقل لا الحواس، فالحواس قد تكون سليمة ولكن ضعف الذاكرة يؤثر على سلامة الشهادة وصوابيتها، وعلى تركيز الحواس وإصابتها.

وتعليقاً على هذا الرد نقول: إنّه وعلى الرغم من أنّ غير واحد من المفسرين[39] ذكروا أنّ الضلال في الآية هو بمعنى النسيان، بيد أنّه تفسير غير دقيق (إلا على تفسيرٍ سيأتي)، فالضلال والنسيان مفهومان مختلفان بحسب المدلول اللغوي والعرفي، فالضلال بمعنى التيه عن طريق الحق فهو يقابل الهداية، قال الراغب الأصفهاني: «الضَّلَالُ : العدولُ عن الطَّريق المستقيم، ويضادّه الهداية، قال تعالى: {مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}[40]، ويقال: الضَّلَالُ لكلّ عدولٍ عن المنهج، عمداً كان أو سهواً»[41].

وفي ضوء ما ذكره الراغب من أنّ الضلال يستخدم بمعنى العدول عن المنهج عمداً كان أو سهواً، يتوّجه السؤال: هل الضلال في الآية هو بمعنى العدول عمداً واختياراً عن جادة الحق، أو هو بمعنى العدول سهواً عن ذلك؟

فعلى الأول، يكون الضلال بمعنى الانحراف المتعمد، وهو ما يذمّ عليه الإنسان، لأنّه فعل اختياري له، وعلى هذا الاحتمال، فلا يكون المراد بقوله: « فتذكّر» أنّ إحداهما تلفت نظر الأخرى وتنبّهها من سهوها، وإنّما يراد به تنبيهها بمعنى وعظها وإرشادها لترتدع عن غيّها، نظير قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ}[42]، وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[43]. وبناءً على هذا الوجه لا تعود قضيّة الحاجة إلى امرأتين في الشهادة متصلة بالعقل، ليقال إنّ «الذي يحتاج إلى تذكير هو عقل المرأة وليس حواسها»، فالضلال بهذا المعنى لا علاقة مباشرة له بالعقل، وإنما سوء اختيار الإنسان وسيطرة الغريزة على إرادته.

وأمّا على الثاني، وهو أن يُراد بالضلال هو العدول سهواً عن المنهج والصواب، فهذا قد يقال: إنّه يؤشّر إلى ضعف في العقل، ولكنّ الأمر ليس واضحاً، فإنّ الضلال بهذا المعنى وإن كان ناشئاً عن تشتت الأنظار والغفلة والنسيان، (النسيان هنا منشأ الضلال وليس هو نفسه)، لكنّ هذا لا يعني ضعفاً أو نقصاً في العقل، فالعقل موجود ولكنْ ثمّة ما يشتّت الأنظار ويمنع الحواس من التركيز.

وأمام هذين الاحتمالين في تفسير الضلال فقد يُرجّح الأوّل منهما، وذلك استناداً إلى قرينة من داخل الآية نفسها، والقرينة هي أنّ الآية أضافت مسألة التعدد إلى المرأة لا إلى الشهادة، فقالت: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ}، وهذا التعبير أكثر انسجاماً مع المعنى الأول للضلال، إذ لو كان الضلال بمعناه الثاني هو المراد أو هو مبرر الحاجة إلى ضمّ المرأة الثانية، لكان الأنسب أن يتمّ التعبير عن ذلك بالقول: إنّ الشهادة الثانية تقوّي الشهادة الأولى وتخفّف من نسبة الخطأ فيها وتضعف من احتمال السهو، لا أن يقال: إنّ المرأة الثانية تذكّر وتنبّه المرأة الأولى، إذ عندما يكون السهو في المرأة غير إرادي ومتصلاً بتشتت الفكر لديها فهذا سيجعل إصابة شهادتها للواقع ضعيفة، فتحتاج إلى شهادة أخرى تقوّي جانب الإصابة، أكثر ممّا هي بحاجة إلى من يذكرها، بينما الآية المباركة بررت الحاجة إلى المرأة الثانية بأنّها - المرأة الثانية - تذكّر الأولى. وهذا مفهوم لأنّ الضلال (بمعنى الانحراف الاختياري)، إنّما يتمُّ تخفيفُ وطأته من خلال أنّ المرأة الثانية قد تذكّر الأولى وتعظُها ولا تتواطأ معها على الشهادة زوراً، إذ شهادة اثنتين زوراً هي دون شك أضعف احتمالاً من شهادة امرأة واحدة كذلك.

وأضفْ إلى ذلك أنّه إذا كان مبرر الحاجة إلى ضمّ المرأة الثانية هو سهو الأولى، فالسهو ملازم للاثنتين، فكيف تذكر الساهيةَ ساهيةٌ؟! أما على الاحتمال الأول فالتذكير مفهوم.

وفي المقابل قد يرجح (الضلال السهوي، أو النسيان) وذلك استناداً إلى:

أولاً: إنّ التذكير يختزن معنى النسيان، فيكون ذلك قرينة على تفسير الضلال بمعنى النسيان، فقوله «تذكر» هو القرينة على حمل الضلال على النسيان.

ولكن يرد عليه: أنّه لماذا لا نجعل قوله « أن تضل» قرينة على تفسير التذكير بمعنى الوعظ؟ فذاك ليس أولى من هذا.

ثانياً: إنّه بناءً على الوجه الأول (تفسير الضلال بمعنى الانحراف عمداً)، فلا نجد تفسيراً مقنعاً لتخصيص المرأة فقط بالحاجة إلى واعظ ومذكر؟ ألا يحتاج الرجل -أيضاً- إلى واعظ؟ فهل المرأة معرّضة للانحراف عن جادّة الحقّ أكثر من الرجل؟ ثمّ لماذا تكون المرأة هي التي تَعِظُ الأخرى، فلمَ لا يذكرها الرجل؟! ولِمَ يُفترض أن يكون المذكِّر والواعظ شاهداً؟ فإنّ من الممكن أن يقوم بهذا الدور شخص لم يشهد الواقعة رأساً؟ والحال أنّ ظاهر الآية المباركة أنّ المذكِّرة هي شاهدة في القضيّة كالمذكَّرة، فالشاهدة تذكِّر شاهدة مثلها. ولعلّ هذا هو الذي دفع العلماء إلى هذا الاحتمال، وترجيح الاحتمال الآخر في المسألة وهو أنّ الضلال بمعنى النسيان.

وتعليقاً عل ذلك نقول: أمّا تخصيص المرأة بالحاجة إلى واعظ، فربما كان الوجه فيه هو أنّ المرأة في مجال الشهادة وهو مقام المخاصمة والنزاع[44] قد لا تملك الإرادة الصلبة التي يملكها الرجل، فتؤخذ بالأجواء العاطفية وترضخ للكثير من التأثيرات والضغوطات، فضمُّ أخرى إليها يخفف من وطأة هذه التأثيرات. وأمّا السبب في كون المذكّر للمرأة هي امرأة أخرى وليس الرجل، فهذا السؤال وارد على الاحتمال الآخر أيضاً، وهو كون الضلال بمعنى العدول سهواً عن الجادة، وربما كان السبب في ذلك - على الاحتمالين - هو أنّ المرأة أقرب إلى المرأة معايشة ومخالطة، ما يسمح لها بالاطلاع على الكثير مما تخفيه الأخرى أو تفكر فيه، فتكون هي الأليق بوعظها وتذكيرها، ومنه يتضح الوجه في كون الواعظ شاهداً، فإنّ غير الشاهد حيث تخفى عليه القضيّة لن يكون لوعظه الأثر الذي يتركه الشاهد المطلع على تفاصيل القضيّة وملابساتها.  

ثمّ إنّه وبناءً على تفسير الضلال بالمعنى الثاني الذي يلتقي مع النسيان في المنشأ لجهة أنّ النسيان هو سبب الضلال، فإنّ لنا أن نسأل: هل إنّ النسيان لدى المرأة أمرٌ ذاتي أم هو أمر عرضي طارئ وخاضع لبعض الظروف التي قد تعيشها المرأة؟ وبعبارة أخرى: هل الضلال هنا بمعنى النسيان القهري الخارج عن اختيار الإنسان، أم هو بمعنى النسيان المكتسب والذي يعيشه الإنسان نتيجة لكونه محاطاً بظروف معينة؟

ربّما يقال: إنّ الآية ناظرة إلى المعنى الثاني من النسيان، أعني النسيان المكتسب، وهو نسيان قد يرتفع إذا تغيّرت الظروف الثقافيّة والاجتماعيّة التي تعيشها المرأة، والمرجّح للمعنى الثاني هو معرفتنا بأنّ ذاكرة المرأة لا تختلف عن ذاكرة الرجل، وضبطها للأمور لا يقل عن ضبطه إلا في حالات طارئة واستثنائيّة. وعليه فالآية المباركة ناظرة إلى الواقع الخارجي، وموضوعها هو المرأة إبان نزول الآية، حيث قد فرض عليها المجتمع أن تكون -في الأعم الأغلب- على هامش الحياة، وكان التهميش هو القدر المفروض عليها، وليست الآية صادرة على سبيل التعميم لجنس المرأة، ويمكنك القول: إنّ هذا الواقع الخارجي المحتفّ بنزول الآية المباركة، هو بمثابة القيد الذي يمنع من انعقاد الإطلاق فيها.

وفي المقابل فقد يقال: إنّ الآية القرآنية لا مجال لحملها على البعد الخارجي والتاريخي، فالقرآن الكريم وخلافاً للسُّنة لا مجال للتعامل معه بهذه الطريقة، فهو كتاب يؤصل القواعد العامة العابرة للأزمنة والأمكنة. وهذا بحث في غاية الأهمية ولكنه خارج عن نطاق هذه الدراسة، ولا بدّ أن يُعنى علم الأصول بدرسه. وبصرف النظر عن ذلك فربّما يقال: إنّ الآية تتحدث عن طبيعة المرأة لأنّ «المرأة - غالباً - مستغرقة في حياتها العائليّة والمنزليّة وشوؤنها الخاصة، وقلّما تُعايش الأحداث والمنازعات والاتفاقات على نحو تكون قادرة على ضبط وقائعها ووعيها، بحيث تكون شهادتها فيها عن حسٍ لجميع تفاصيلها وخصوصياتها، ولو عايشت المرأة حدثاً على هذا النحو، فإنّ اهتمامات حياتها اليومية ومشاغلها الأساسية في منزلها وأسرتها وعلاقاتها الخاصة إضافة إلى مزاجها الخاص، تؤثر - بالتأكيد - على ذاكرتها ووعيها للوقائع والتفاصيل في موضوع الشهادة»[45].

ولكن هذا الكلام غير مقنع فإنّ استغراق المرأة في حياتها المنزليّة والعائلية وشؤونها الخاصة.. هو أمر خاضع للتنشئة الخاصة والإعداد الذي يوجِّه المرأة في هذا الاتجاه، فهو أمر طارئ وتفرضه التربية، وليس من طبيعة المرأة أن تكون كذلك.

وخلاصة القول: إنّه وعلى الاحتمالين المذكورين للضلال فليس ثمة ما يؤيّد كون الضلال مرتبطاً بضعف العقل.

رابعاً: «فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر»

تعليقاً على هذه الفقرة نقول: إنّنا في الوقت الذي نتفهم فيه الدعوة إلى اتقاء شرار النساء، مع أنّ الشر ليس صناعة أنثوية، وإنّما الشَّر هو من صنع الإنسان، والشرير لا بدّ من اجتنابه ذكراً كان أو أنثى، بيد أنّ ما يستوقفنا في هذه الفقرة هو هذه الدعوة إلى الحذر من خيار النساء[46]، مع ما تحمله في ثناياها من تخوينٍ للمرأة وما تتركه من أثر نفسي على المتلقي، وهو أثر يدفعه إلى الريبة بالنساء ويشجّعه على عدم ائتمانهن على شيء، ويحثّه على الحذر منهنّ والتوجس مما يصدر عنهنّ، وكأنّ الأصل في المرأة هو الانحراف والابتعاد عن خط الاستقامة، لذا فهي متهمة دائماً وموضع شك! والسؤال: هل يمكن أن يدعو علي(ع) إلى الاسترابة بالمرأة حتى مع كونها خيّرة؟! أو يدعو إلى التوجس الدائم منها، أماً كانت أو زوجة أو أختاً أو غيرها؟! مع أنّ هذه الدعوة سوف تنتقص من المرأة الخيّرة وتؤذي مشاعرها، وتدفع الرجال إلى التشكيك الدائم بالنساء، الأمر الذي سيخلق توتراً دائماً بين الجنسين ويؤسس للعداوة بينهما، مع أنّ الإسلام - كما هو المعلوم - يريد خلق الثقة بين أبناء المجتمع رجالاً ونساءً، وهو يهتم بترميم العلاقات الاجتماعية وإبعادها عن الضغائن والشكوك والظنون والوساوس؟!

أرأيت لو أنّ رجلاً دعا أولاده الذكور - مثلاً - إلى الحذر من أخواتهم الإناث ألا يكون قد أسهم بشكل أو بآخر في نزع الثقة فيما بين الأبناء، ويعدّ - بنظر العقلاء - سفيهاً، إذ المفروض بالأب أن يُحَبِّبَ أولاده بعضهم بالبعض الآخر، ويدعوهم إلى الثقة ببعضهم البعض. والأمر عينه ينطبق على الرجل الذي لديه أولاد من زوجتين مثلاً، فإذا وجَّهَ دعوة لأولاده من الزوجة الأولى أن يحذروا أولاد الزوجة الثانية، ألا يعدّ بذلك مجانباً للحكمة والرشد، لأنّه قد زرع بذور الفتنة بينهم؟!

ولهذا، لا نتعقل صدور دعوة عامة عن ربيب بيت الوحي ومصدر الحكمة المتعالية علي بن أبي طالب(ع) تحثّ الرجال على الحذر من النساء، لأنّها دعوة تزلزل جدار الثقة بالمرأة وتؤسس للريب والشك فيها، ما يدقّ إسفيناً في البنيان الاجتماعي.   

خامساً: «ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر»

وهذه الفقرة لا مجال للاعتراض السندي عليها، لأنّها واردة في رواية أخرى صحيحة السند، وهي ما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(ع) قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله النساء فقال: اعصوهن في المعروف قبل أن يَأْمُرْنَكَمْ بالمنكر، وتعوّذوا بالله من شرارهن وكونوا من خيارهن على حذر»[47]، ولكن يمكن أن نتوقف إزاء مضمونها من جهتين:

الجهة الأولى: كيف نفهم النهي عن إطاعتهن في المعروف، مع أنّ الحق أحقّ أن يتبع أياً كان الناطق به، ولو نطق به الضالون والمنحرفون ؟!

وقد أجاب الشيخ محمد عبده على ذلك، فقال: «لا يريد (أي الإمام) أن يُترك المعروف لمجرد أمرهن به، فإنّ في ترك المعروف مخالفة السُّنة الصالحة خصوصاً إن كان المعروف من الواجبات، بل يريد أن لا يكون فعل المعروف صادراً عن مجرد طاعتهن، فإذا فعلتَ معروفاً فافعلْه لأنّه معروف، ولا تفعله امتثالاً لأمر المرأة».

ثمّ أردف الشيخ عبده قائلاً: «ولقد قال الإمام قولاً صدَّقته التجارب في الأحقاب المتطاولة، ولا استثناء مما قال إلا بعضاً منهن وُهبن فطرةً تفوق في سموّها ما استوت به الفطن أو تقاربت، أو أَخَذَ سلطانٌ من التربية طباعَهن على خلاف ما غُرِزَ فيها وحوّلها إلى غير ما وجهتها الجِبِلَّة إليه»[48].

ومن الطبيعي أنّ ما قدّمه الشيخ محمد عبده في تفسير دعوة الإمام(ع) إلى عدم إطاعة النساء في المعروف ليس من قبيل المعالجة النفسيّة للموقف، بأن يوطن الرجل نفسه على أنّه إنّما يفعل هذا المعروف امتثالاً لأمر الله وليس استجابة لأمر المرأة، فهذا المقدار لا يحقق الغرض من دعوة الإمام(ع) إلى ترك إطاعتهن بالمعروف، والغرض هو أن «لا يطمعن بالمنكر»، فيحتاج الموقف إلى أن يُظهر الرجل للمرأة أنّه إنّما يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله لا لأمرها، وبذلك يقطع طمعها في المزيد أو في فعل المنكر. وإظهار ذلك للمرأة إمّا أن يكون إظهاراً قولياً، بأن يوضح لها بأنّه إذا فعل هذا الشيء فإنما يفعله لوجه الله وليس استجابة لأمرها أو تلبية لرغبتها، أو إظهاراً فعلياً، بأن يفعل المعروف بطريقة تخالف ما طلبته منه بنحو من أنحاء المخالفة. فلو طلبت إليه أن يتصدق بكيلو من الموز - مثلاً - فليتصدق بكيلو من التفاح، ولو طلبت إليه التصدق في النهار فليتصدق في الليل، قال العلامة المجلسي في تفسير المخالفة هو أنّ: «يخالفها في النوع الذي تأمره به إلى النوع الآخر من المعروف، أو يخالفها في الأمر المندوب، لقطع طمعها، فيصير المندوب لذلك ترك الأولى»[49].

أقول: لنا عدّة تعليقات على ما ذكره العلمان: المجلسي وعبده:

التعليق الأول: إنّ ما ذكراه لا يرفع الإشكال بشكل مطلق، فالمرأة قد تكون في موقع يفرض على الرجل إظهار الإطاعة لها وجوباً أو استحباباً، في خصوص ما أمرته به وطلبته منه، كما لو كانت المرأة أماً أو مربية أو معلمة أو في موقع وظيفي أو إداري يسمح لها بإصدار الأوامر للرجل، كما لو كان الرجل خادماً أو أجيراً عندها، فهنا هل يكون الرجل مدعواً لإظهار عدم إطاعتها فيما تأمر به؟! فلو أمرت الأم ولدها بالصلاة فهل يكون مدعواً لإظهار عدم الاستجابة لأمرها، وإن كان هو سوف يصلِّي في خلواته؟! هذا ما لا يُحتمل التفوّه به، لأنّ إظهار الاستجابة لطلبات الأم هو نوع إحسان إليها وبرٍّ بها، وهذا ما أمر به الشارع الحكيم، قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[50]. وهكذا لو أمرت المرأةُ خادمَها بشيء فهل يكون مدعواً لإظهار عدم إطاعتها، أو أمرت المرأةُ المسؤولةُ الموظفين الذين يقعون تحت إدارتها بشيء معين، فهل يكون هؤلاء الرجال مدعويين إلى إظهار مخالفتها؟!

إنّ الدعوة إلى عدم الاستجابة لأوامر المرأة على إطلاقها قد تؤدي في بعض الأحيان إلى اختلال النظام، وأمّا حمل كلامه(ع) على خصوص الزوجات فهو خلاف الظاهر، ومع التسليم به فهو لا يدفع كافة الإشكالات.

التعليق الثاني: ثمّ إننا نتساءل: أليس الأمر بالمعروف من مسؤولية المرأة كما هو من مسؤولية الرجل أيضاً، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[51]. وعليه، إذا كان على المرأة أن تأمر بالمعروف، أفلا يعني ذلك لزوم الاستجابة لها والاستماع إلى كلامها كما يُستجاب لكلِّ آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، فكيف ينسجم ذلك مع الدعوة إلى إظهار التمرّد عليها؟! وفي ضوء ذلك، تكون الفقرة المذكورة منافية للقرآن الكريم، ما يفرض علينا طرحها وردّها، لأنّ الأئمة من أئمة أهل البيت(ع) قالوا: «كل شيء مردود إلى الكتاب والسُّنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله تعالى فهو زخرف»[52].

وربما يقال: «إنّ إعطاءها حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما هو في حدود قدراتها وطاقاتها، وذلك لا يعني ثبوت هذا الأمر لها في حق الرجل أيضاً، فلعلّ ذلك يختص بالنساء أمثالها.. ولو سلّم شمول ذلك للرجال، فإنّ من القريب جداً أن يختص ذلك بالرجال المحارم كالأخ، والزوج، والولد.. والخال، والعم، وأبناء الأخ، والأخت، ومَنْ كان مَحْرَماً لها من الرضاعة، وأمثال هؤلاء»[53].

والجواب: إنّ هذه الاحتمالات مخالفة لظهور الآية، فإنّها مطلقة ولا موجب لتقييدها بمثل هذه التقييدات التي لا دليل عليها ولا شاهد يعضدها، بل إنّ في الآية قرينة على أنّ أمر المرأة بالمعروف ونهيها عن المنكر لا ينحصر بالنساء، وكذلك الحال في الرجل، والقرينة هي أنّ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاءت متفرّعة على قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، والذي يعطي إيحاءً بالمسؤولية المتبادلة بين المؤمنين والمؤمنات، كما بين المؤمنين أنفسهم والمؤمنات أنفسهن.

والملاحظة عينها نسجلها إزاء ما روي عنه(ع) في بعض الأخبار الضعيفة: «ثلاث مهلكات: طاعة النساء، وطاعة الغضب، وطاعة الشهوة»[54]. إلّا إذا كان المقصود في هذا الخبر هو طاعتهن في المعصية كما يشهد به السياق.

التعليق الثالث: لئن صحّ التوجيه المذكور للشيخ محمد عبده في رواية «النهج»، فإنّه لا يصحّ فيما جاء في رواية «الكافي» المروية عن النبي(ص) في هذا المجال، حيث إنّه(ص) -على ما جاء في تلك الرواية - قد أمر بعصيانهنّ في المعروف، ولم يدع إلى ترك إطاعتهن فيه وحسب، ليقال: إنّه(ص) لم يُرِدْ تَرْكَ المعروف مطلقاً، بل أراد ترك المعروف امتثالاً لأمرهن.

الجهة الثانية: أنّ المضمون المذكور في الروايتين مضمون يصعب تصديق صدوره عن المعصوم(ع)، لما قلناه تعليقاً على الفقرة السابقة، فإنّ الدعوة إلى عدم إطاعة المرأة في المعروف، احتياطاً وحذراً من أن تطمع في طلب المنكر، هو أمر يثير الريبة في المرأة إذ إنّه يَفْتَرِضُ أنّ إطاعة أمرها في المعروف ستجعلها تتجرأ على طلب المنكر، مع أنّ هذا الأمر ليس صفة عامة في المرأة؟!

 وبكلمة أخرى: إنّ الأثر الذي تتركه هذه الرواية ونظائرها في النفس هو التأسيس لحالة ريبةٍ وحذرٍ من المرأة وتوجس دائم منها، وهذا سيدعو الرجل إلى جعلها في دائرة الشك والاتهام، وهو ما سيربك العلاقات الاجتماعية ويوتر العلاقات الزوجية والأسرية في الوقت الذي هي أحوج ما تكون إلى دعوات تُساعد على تعزيز الثقة وشدّ الأواصر بين أبنائها.

 

 

هذا المقال من كتاب "المرأة في النص الديني"

 

[1] نهج البلاغة، ج1 ص130، ورواه الشريف في كتابه خصائص الأئمة، ص 100، ورواه محمد بن جرير الطبري الإمامي في كتابه المسترشد. وروى الشعبي، عن شريح بن هاني قال: خطب علي بن أبي طالب(ع) بعدما افتتحت مصر، ثم قال: وإني مخرج إليكم كتاباً.. انظر المسترشد، ص 418.

 

[2]  مختصر مفيد، ج 6 ص 194.

 

[3]  مصادر نهج البلاغة، ج 1 ص 409، وج 2 ص 83.

 

[4]  ولكنني بعد كتابة هذا الكلام وجدتُ أنّ بعض الأعلام وهو الشيخ جوادي الآملي قال في سياق كلام له تعليقاً على هذا الخبر: «فكما أنّ ذمَ البصرة والكوفة لا يعود إلى جوهر هاتين المنطقتين، فإذا ذُمت المرأة بعد قضية الحرب فهو لأنّ تلك المرأة وقفت في مقابل علي بن أبي طالب(ع)، كما أنّ هناك رجالاً كثيرين وقفوا في مقابل الإمام، فإذا ورد ذمٌ لطلحة والزبير وغيرهم من الذين أداروا تلك الحرب في مقابل ولي الله فطبيعي أن تتعرض عائشة التي وقفت في مقابل الإمام وغيرها من الأشخاص الذين ساهموا في هذه الحادثة الصعبة إلى الذم..»، انظر: جمال المرأة وجلالها، للشيخ الآملي، دار الهادي بيروت، الطبعة السادسة 2009م، ص320.

ولكنّ هذا الكلام لا يمكننا الموافقة عليه، ولا يصح قياس ما جاء في هذا الخبر بما ورد في ذم البلدان ولا بما ورد في ذم طلحة والزبير، أما ما ورد في ذم بعض البلدان فهو على فرض صحته لا يأبى الحمل على المرحلية أو القضية الخارجية، وأما ذم جنس المرأة لأجل امرأة بعينها فهذا أمر لا مبرر له على الإطلاق، ولماذا(ع) لم يذم المرأة باسمها كما ذمّ طلحة والزبير باسميهما -ولم يذم جنس الرجال- بسبب موقفهما منه.

 

[5]  شرح نهج البلاغة، ج6  ص214.

 

[6]  شرح نهج البلاغة، ج2 ص 223.

 

[7]  انظر: تفسير القمي، ج 2 ص 239 - 240.

 

[8] سورة البقرة، الآية 222.

 

[9]  جامع البيان للطبري، ج 2 ص 715.

 

[10] سورة البقرة، الآية 222.

 

[11]  أحكام القرآن للجصاص، ج 1 ص 409.

 

[12]  لاحظ الملحق رقم (2).

 

[13] صحيح البخاري، ج 1 ص 75، وصحيح مسلم، ج 1 ص 194.

 

[14] سورة البقرة، الآية 196.

 

[15]  أحكام القرآن، ج 1 ص 408، وهو مستفاد من بعض الأخبار، انظر: الكافي، ج 4 ص 358.

 

[16]  ورد الحديث في المصادر الحديثية على الشكل التالي: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظرْ، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما»، سنن أبي داود، ج1 ص154.

 

[17]  أحكام القرآن، ج 1 ص 408.

 

[18]  سورة البقرة، الآية 222.

 

[19]  آلاء الرحمن، ج1 ص 198.

 

[20]  بحار الأنوار، ج32 ص248

 

[21]  ما وراء الفقه، ج 9 ص 219.

 

[22]  قال السيد الخوئي رحمه الله: «يستحب لها الوضوء في وقت كل صلاة واجبة، والجلوس في مكان طاهر مستقبلة القبلة، ذاكرة الله تعالى، والأولى اختيار التسبيحات الأربع»، انظر: منهاج الصالحين، ج1 ص64.

 

[23]  ما وراء الفقه، ج9 ص219.

 

[24] سورة النساء، الآية 11.

 

[25]  رسائل الشريف المرتضى، ج 3 ص 123.

 

[26]  انظر: موسوعة الإمام الصدر، ج 11ص 487.

 

[27]  مختصر مفيد، ج10 ص123.

 

[28] سورة البقرة، الآية 282.

 

[29]  شرح نهج البلاغة، ج 2 ص 224.

 

[30] سورة العنكبوت، الآية 43.

 

[31]  كما قال سماحة السيد فضل الله رحمه الله.

 

[32]  مختصر مفيد، ج 10 ص 120.

 

[33] سورة البقرة، الآية 282.

 

[34]  مختصر مفيد، ج 10 ص 120.

 

[35]  قال الشهيد الثاني: «اختلف الأصحاب في شهادة الصبي، بعد الاتفاق على عدم قبول شهادة غير المميز. ونقل جماعة منهم الشيخ فخر الدين الاتفاق على عدم قبول شهادة من دون العشر، والخلاف فيمن زاد عن ذلك. فالمشهور بينهم عدم قبول شهادته مطلقاً إلا في الجراح والقتل. أما عدم القبول في غيرهما فلعموم قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة 282]، ولفظ الرجال لا يقع على الصبيان ولأنّ الصبي لا يقبل قوله على نفسه، فأولى أن لا يقبل [قوله] على غيره بالشهادة. وأما استثناء الجراح والقتل فلحسنة جميل قال: قلت لأبي عبدالله(ع): «تجوز شهادة الصبيان، قال: نعم، في القتل يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه». ورواية محمد بن حمران عنه(ع) وقد سأله عن شهادة الصبي، قال: «فقال: لا، إلا في القتل يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني»، انظر: الكافي، ج7 ص389، وتهذيب الأحكام، ج6 ص251. ولفظ الروايتين تضمن القتل، فيمكن أن يدخل فيه الجراح بطريق أولى، ومن ثم ذكر الأكثر الجراح. ومنهم من اقتصر على الجراح، انظر: مسالك الأفهام، ج 14 ص 155. وتحقيق الكلام في ذلك موكول إلى محله.

 

[36]  وهذا النوع من الدراسات معتمد عقلائياً وهو مؤشر جيد على معرفة الأمور الاجتماعية والعلمية وغيرها.

 

[37] سورة البقرة، الآية 282.

 

[38]  مختصر مفيد، ج 10 ص 120.

 

[39]  انظر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي ج 1 ص 195، تفسير شبّر، ص 84.

 

[40] سورة الإسراء، الآية 15.

 

[41]  المفردات للراغب، ص 509.

 

[42] سورة الأعلى، الآية 9.

 

[43] سورة ق، الآية 45.

 

[44]  قد تقول: إنّ المخاصمة تكون في حالة أداء الشهادة لا في حالة تحمّلها، والآية تتحدث عن تحمّل الشهادة. ولكن الجواب هو أنّ تحمل الشهادة إنّما يظهر أثره عندما يُطلب الشاهد إلى أداء الشهادة لإثبات الحقوق، وهذا مقام نزاع كما هو واضح.

 

[45]  أهليّة المرأة لتولي السلطة، للشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص20، والغريب أنّ الشيخ شمس الدين يصرّ في كتابه هذا على أهلية المرأة لتولي قيادة الأمة وإدارة الدولة، فلو كانت المرأة - كما يصفها في كلامه المذكور في المتن - مستغرقة في حياتها الخاصة وشؤونها المنزلية ولا تعايش الأحداث والمنازعات والاتفاقات ما يجعلها غير قادرة على ضبط وقائعها ووعي تفاصيلها فكيف لها أن تقود العباد وتدير أمر البلاد وتتولى شؤون السلطة؟!!

 

[46]  استدل بعضهم بهذه الفقرة للفتوى التي تقول بعدم صلاحيّة المرأة للتقليد، على اعتبار «أنّ الحذر من خيارهن ينافي أخذ الفتوى منهن وتقليدهن». انظر: الدر النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد للنكرودي، ج 1 ص 434.

 

[47]  ونحوها مرفوعة مطلب بن زياد عن أبي عبدالله(ع) قال: «تعوّذوا بالله من طالحات نسائكم، وكونوا من خيارهنّ على حذر ولا تطيعوهنّ في المعروف فيأمُرْنكم بالمنكر»، انظر: الكافي، ج5 ص517.

 

[48]  نهج البلاغة، ج 1 ص 130.

 

[49]  مرآة العقول، ج 20 ص 333.

 

[50] سورة البقرة، الآية 83.

 

[51] سورة التوبة، الآية 71.

 

[52]  الكافي، ج1 ص69، والمحاسن للبرقي، ج1 ص221، والزخرف هو الشيء المموّه المزوّر.

 

[53]  مختصر مفيد، ج 6 ص 188.

 

[54]  انظر: عيون الحكم والمواعظ، ص 212، وعنه «طاعة النساء شيمة الحمقى» انظر: المصدر نفسه ص 317، وفي خبر آخر: «طاعة النساء غاية الجهل»، المصدر نفسه ص 317.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon