السيدة خديجة بنت خويلد (ع)
في ذكرى أم المؤمنين خديجة بنت خويلد(ع)
لا يمكنك أن تمرّ على تاريخ الدعوة النبوية دون أن تقرأ إحدى أروع صفحاتها المليئة بالحبّ والإيثار والصدق والبذل والعطاء، إنها صفحات خديجة بنت خويلد، هذه المرأة العظيمة قبل زواجها بالنبي (ص) وزادت عظمة وكرامة وشرفاً باقترانه (ص) بها، فكانت الزوجة الصالحة والأم الرؤوم والرسالية الداعمة والمدافعة. وفيما يلي نقرأ بعض صفحاتها سلام الله عليها.
أولاً: خديجة الأنموذج الإنساني
وفي الحديث عن رسول الله (ص) : "أفضل نساء [أهل] الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"[1]. خديجة ليست امرأة عادية في التاريخ الإسلامي والإنساني، إنها القدوة والنموذج في إخلاصها وتفانيها وجهادها وعقلها الكبير. وما سطره التاريخ من سيرتها العطرة ومواقفها العظيمة يشير إلى هذا البعد الرسالي الإنساني في شخصيتها، وسوف نذكر بعضاً من خصالها التي تدلل على ذلك، ويبقى من واجب المسلمين أن يعملوا على إظهار هذا البعد في شخصيتها.
وأعتقد أنّ هذا المعدن الطاهر لخديجة هو الذي هيأها لتكون عظيمة في عين الله تعالى، وأن تكون الحضن الطاهر المؤهل دون سواه والمخصوص دون غيره بالكرامة العظيمة، وهي أن تكون أمّاً لسيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) وجدة للحسنين (ع) وأن تكون ذرية النبي (ص) منها، حيث لم تنجب سواها من نساء النبي (ص) باستثناء مارية، التي أولدت إبراهيم لكنه مات صغيراً، وقد كان الأئمة (ع) يفخرون بأنّ جدتهم خديجة كما أن جدتهم فاطمة (ع)، ففي يوم عاشوراء يقول الحسين مخاطباً القوم وقد أحاطوا به: "أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد، أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟ قالوا: اللهم نعم"[2].
ثانياً: السباقة إلى الإسلام
ومنذ أن عرفت محمداً (ص) أدركت خديجة سلام الله عليها بفطرتها السليمة أنّ محمداً ليس شخصاً عادياً فتزوجت به وأخلصت له، وكانت السباقة إلى الإيمان بدعوته، عن أمير المؤمنين: " ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما"[3].
وأول صلاة جماعة عرفها التاريخ الإسلامي هي الصلاة التي ضمت إلى رسول الله (ص) علياً وخديجة. ففي الخبر عن عفيف بن عمرو:" كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمر النبي (ص) فجاء شاب فنظر إلى السماء حين تحلقت [ارتفعت قال] الشمس، ثم استقبل الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلام فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت: يا عباس، أمر عظيم. فقال العباس: أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمد بن عبد الله - ابن أخي - أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب - ابن أخي - أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إن ابن أخي هذا حدثني أن ربه - رب السماوات والأرض – أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة"[4].
ثالثاً: خديجة تخطب رسول الله (ص) للزواج
مما جرى عليه العرف في مجتمعاتنا أن المرأة لا تتحدث عن أمر زواجها ولا تفتش عن الزوج لأن ذلك لا يليق بها، ولكن هذه العادة ليست صحيحة على إطلاقها فما الضير أن تفتش المرأة عن الرجل الصالح والكفؤ لها، فهذه سيدتنا خديجة هي التي تطلب خطبة النبي (ص) أو تدعوه إلى خطبتها، لأنها تدرك أن الزواج هو قرار مشترك ومصيري والمرأة هنا لها دور ورأي، فليس صحيحا ان يفرض عليها الزوج ولا يعيبها إذا ما أقدمت على اختيار زوج مع حفاظها على كل شروط العفة، فقد قال الزبير بن بكار أنها كانت "تُدعى قبل البعثة بـ الطاهرة "[5].
عن ابن إسحاق قال:" وكانت خديجة بنت خويلد امرأة ذات شرف ومال تستأجر لها الرجال أو تضاربهم بشيء تجعله لهم منها فلما بلغها عن رسول الله (ص) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشأم مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله منها رسول الله (ص) وخرج في مالها إلى الشأم (...) فأرسلت إلى رسول (ص) انى قد رغبت فيك لقرابتك منى وشرفك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك وعرضت عليه نفسها فخطبها وتزوجها"[6].
ولما خطبها أبو طالب من عمها ورقة بن نوفل تلجلج عمها في إجابة أبي طالب، فتقدمت هي بكل ثقة، وزوجت نفسها من رسول الله (ص) وقالت مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي ، قد زوجتك يا محمد نفسي ، والمهر علي في مالي فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها وادخل على أهلك، قال أبو طالب : أشهدوا عليها بقبولها محمدا وضمانها المهر في مالها ، فقال بعض قريش يا عجباه المهر على النساء للرجال ، فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وكان ممن يهابه الرجال ويكره غضبه ، فقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.."[7].
رابعاً: من أجمل خصالها
لا يسعنا في محاضرة محددة الإسهاب في بيان خصال هذه المرأة الطيبة الصالحة والعظيمة، ونكتفي بالإشارة إلى بعضها:
-
صدّقتْ رسول الله (ص) حين كذّبه الناس
ولم يكن إسلام خديجة عن عصبية لزوجها، كيف وهي التي تزوجته لِمَ توسمت فيه من خير كبير، لقد آمنت به وصدّقته عن بصيرة ووعي، وبكل إخلاص، في الخبر عن السيدة عائشة، قالت: "كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلتُ: هل كانت إلَّا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ [بي] إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا"[8].
لقد آمنت به عندما عزّ الناصر والمعين وصدّقته عندما كذّبه الناس وهذا الإيمان لا يعادله إيمان، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 100).
وإخلاصها هذا هو الذي دفعها لتسترخص العطاء في سبيل الله، فبذلت نفسها في سبيل الرسالة، عندما قبلت راضية بمغادرة حياة الرفاهية التي كانت عليها قبل الإسلام، لتتحمل الأذى والحصار مع رسول الله وسائر الصحب البررة في شعب أبي طالب، كل ذلك في سبيل الله حتى فارقت الدنيا وهي في الحصار فدفنها النبي (ص) في الشعب المذكور.
وليس غريباً عمن بذلت نفسها لخدمة الرسالة أن تبذل كلّ مالها في هذا السبيل، وكان هذا المال نِعم العون لرسول الله (ص) في زمن الشدة والحصار. روى الشيخ الطوسي في حديث الهجرة عن أبي رافع أنّ النبي (ص) قال لعلي (ع): ".. إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأد أمانتي على أعين الناس ظاهراً، ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم. قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن أبي رافع - أَوَ كان رسول الله (ص) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة (ع)؟ وقال: إن رسول الله (ص) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة (ع)، وكان رسول الله (ص) يفك من مالها الغارم والعاني[9]، ويحمل الكلّ[10]، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين - يعني رحلة الشتاء والصيف - كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان (ص) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها"[11].
-
المؤازرة المعنوية لرسول (ص)
ومن أروع خصال هذه المرأة أنها كانت المتفانية في خدمة رسول الله (ص)، وقامت بدور عظيم في مؤازرته معنوياً وهذه أهم من المؤازرة المادية، فكانت تؤنسه وتخفف عنه مصاعب التحدي وآلام التكذيب والظلم الذي كان يتلاقاه من قريش. ورد في السيرة النبوية: "وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه (ص)، لا يسمع شيئا [مما] يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى!"[12].
خامساً: رسول الله والوفاء لخديجة
لقد كان موت خديجة ثقيلاً على رسول الله (ص)، فقد غابت الزوجة والعشيرة، وارتحلت المؤازِرة والمناصِرة، وكان موتها وموت أبي طالب في وقت متقارب، "فعظمت المصيبة على رسول الله (ص) بموتهما وسماه "عام الحزن" وقال: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.."[13].
ومرت السنين على وفاة خديجة لكنّها بقيت تسكن قلب رسول الله (ص) ولم تفارق ذكراها مخيلته فكان يحنّ إليها ويثني عليها، ويذكرها بما هي أهله، ويعبّر عن وفائه لها واحترامه لذكراها، ويظهر احتراماً خاصاً بصديقاتها، فكان يدعوهنّ إلى بيته ويكرمهنّ ويرسل إليهنّ الهدايا، لأنهنّ كنّ صديقات لزوجته خديجة، إنه التعبير الأجمل عن وفاء الرجل لزوجته، فقد روي عن السيدة عائشة: " قالت دخلَت على رسول الله (ص) امرأة، فأتي رسول الله (ص) بطعام فجعل يأكل من الطعام ويضع بين يديها، فقلتُ يا رسول الله لا تغمر يديك فقال رسول الله (ص): إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة وإنّ حسن العهد أو حفظ العهد من الإيمان.."[14].
وعن السيدة عائشة، قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله (ص) إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيتنّبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهن"[15].
وفي صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة: قالت ما غرت على أحد من نساء النبي (ص) ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي (ص) يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا الا خديجة فيقول انها كانت وكانت وكان لي منها ولد"[16].
محاضرة أُلقيت سنة 1438 هـ في ذكرى وفاة السيدة خديجة (ع)
[2] الأمالي للصدوق ص 222.
[3] نهج البلاغة ج 2 ص 157، وقد ثار جدل في أنها أسلمت قبل علي (ع) أو أسلم علي قبلها، ففي بعض الروايات أنها أول الناس إسلاماً، ولكن "الذي ترويه الشعة أن علياً أسلم قبل خديجة".، انظر: أعيان الشيعة ج 6 ص 311.
[4] الإرشاد للمفيد ج 1 ص 30، ورواه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 183. قال: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، وروي عن ابن اسحاق قال عفيف: كنت امرءا تاجرا فقدمت أيام الحج فأتيت العباس فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلى فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلى وخرج غلام فقام يصلى معه فقلت يا عباس ما هذا الدين إن هذا الدين ما أدرى ما هو قال هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به قال عفيف فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثالثا" تاريخ الطبري ج 2 ص 56..
[6] أسد الغابة ج 1 ص 16. وتاريخ الطبري ج 2 ص 34.
[8] الاستيعاب ج 4 ص 1824.
[10] الضعيف من هو عيال على غيره.
[11] الأمالي للشيخ ص 468.
[12] السيرة النبوية ج 1 ص 158.
[13] إمتاع الأسماع ص 1 ص 45.
[14] المعجم الكبير للطبراني ج 23 ص 14.
[15] الاستيعاب ج 4 ص 1823.
[16] صحيح البخاري ج 4 ص 231.