حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> تاريخية
السيدة خديجة بنت خويلد (ع)



في ذكرى أم المؤمنين خديجة بنت خويلد(ع)

 

لا يمكنك أن تمرّ على تاريخ الدعوة النبوية دون أن تقرأ إحدى أروع صفحاتها المليئة بالحبّ والإيثار والصدق والبذل والعطاء، إنها صفحات خديجة بنت خويلد، هذه المرأة العظيمة قبل زواجها بالنبي (ص) وزادت عظمة وكرامة وشرفاً باقترانه (ص) بها، فكانت الزوجة الصالحة والأم الرؤوم والرسالية الداعمة والمدافعة. وفيما يلي نقرأ بعض صفحاتها سلام الله عليها.

 

أولاً: خديجة الأنموذج الإنساني

 

وفي الحديث عن رسول الله (ص) : "أفضل نساء [أهل] الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"[1]. خديجة ليست امرأة عادية في التاريخ الإسلامي والإنساني، إنها القدوة والنموذج في إخلاصها وتفانيها وجهادها وعقلها الكبير. وما سطره التاريخ من سيرتها العطرة ومواقفها العظيمة يشير إلى هذا البعد الرسالي الإنساني في شخصيتها، وسوف نذكر بعضاً من خصالها التي تدلل على ذلك، ويبقى من واجب المسلمين أن يعملوا على إظهار هذا البعد في شخصيتها.

 

وأعتقد أنّ هذا المعدن الطاهر لخديجة هو الذي هيأها لتكون عظيمة في عين الله تعالى، وأن تكون الحضن الطاهر المؤهل دون سواه والمخصوص دون غيره بالكرامة العظيمة، وهي أن تكون أمّاً لسيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) وجدة للحسنين (ع) وأن تكون ذرية النبي (ص) منها، حيث لم تنجب سواها من نساء النبي (ص) باستثناء مارية، التي أولدت إبراهيم لكنه مات صغيراً، وقد كان الأئمة (ع) يفخرون بأنّ جدتهم خديجة كما أن جدتهم فاطمة (ع)، ففي يوم عاشوراء يقول الحسين مخاطباً القوم وقد أحاطوا به: "أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد، أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟ قالوا: اللهم نعم"[2].

 

ثانياً: السباقة إلى الإسلام

 

ومنذ أن عرفت محمداً (ص) أدركت خديجة سلام الله عليها بفطرتها السليمة أنّ محمداً ليس شخصاً عادياً فتزوجت به وأخلصت له، وكانت السباقة إلى الإيمان بدعوته، عن أمير المؤمنين: " ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما"[3].

 

وأول صلاة جماعة عرفها التاريخ الإسلامي هي الصلاة التي ضمت إلى رسول الله (ص) علياً وخديجة. ففي الخبر عن عفيف بن عمرو:" كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمر النبي (ص) فجاء شاب فنظر إلى السماء حين تحلقت [ارتفعت قال] الشمس، ثم استقبل الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلام فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت: يا عباس، أمر عظيم. فقال العباس: أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمد بن عبد الله - ابن أخي - أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب - ابن أخي - أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إن ابن أخي هذا حدثني أن ربه - رب السماوات والأرض – أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة"[4].

 

ثالثاً: خديجة تخطب رسول الله (ص) للزواج

 

مما جرى عليه العرف في مجتمعاتنا أن المرأة لا تتحدث عن أمر زواجها ولا تفتش عن الزوج لأن ذلك لا يليق بها، ولكن هذه العادة ليست صحيحة على إطلاقها فما الضير أن تفتش المرأة عن الرجل الصالح والكفؤ لها، فهذه سيدتنا خديجة هي التي تطلب خطبة النبي (ص) أو تدعوه إلى خطبتها، لأنها تدرك أن الزواج هو قرار مشترك ومصيري والمرأة هنا لها دور ورأي، فليس صحيحا ان يفرض عليها الزوج ولا يعيبها إذا ما أقدمت على اختيار زوج مع حفاظها على كل شروط العفة، فقد قال الزبير بن بكار أنها كانت "تُدعى قبل البعثة بـ الطاهرة "[5].

 

 عن ابن إسحاق قال:" وكانت خديجة بنت خويلد امرأة ذات شرف ومال تستأجر لها الرجال أو تضاربهم بشيء تجعله لهم منها فلما بلغها عن رسول الله (ص) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشأم مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله منها رسول الله (ص) وخرج في مالها إلى الشأم (...) فأرسلت إلى رسول (ص) انى قد رغبت فيك لقرابتك منى وشرفك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك وعرضت عليه نفسها فخطبها وتزوجها"[6].

 

ولما خطبها أبو طالب من عمها ورقة بن نوفل تلجلج عمها في إجابة أبي طالب، فتقدمت هي بكل ثقة، وزوجت نفسها من رسول الله (ص) وقالت مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي ، قد زوجتك يا محمد نفسي ، والمهر علي في مالي فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها وادخل على أهلك، قال أبو طالب : أشهدوا عليها بقبولها محمدا وضمانها المهر في مالها ، فقال بعض قريش يا عجباه المهر على النساء للرجال ، فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وكان ممن يهابه الرجال ويكره غضبه ، فقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.."[7].

 

رابعاً: من أجمل خصالها

 

لا يسعنا في محاضرة محددة الإسهاب في بيان خصال هذه المرأة الطيبة الصالحة والعظيمة، ونكتفي بالإشارة إلى بعضها:

  •  صدّقتْ رسول الله (ص) حين كذّبه الناس

ولم يكن إسلام خديجة عن عصبية لزوجها، كيف وهي التي تزوجته لِمَ توسمت فيه من خير كبير، لقد آمنت به وصدّقته عن بصيرة ووعي، وبكل إخلاص، في الخبر عن السيدة عائشة، قالت: "كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلتُ: هل كانت إلَّا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ [بي] إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا"[8].

 

لقد آمنت به عندما عزّ الناصر والمعين وصدّقته عندما كذّبه الناس وهذا الإيمان لا يعادله إيمان، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  (التوبة: 100).

 

  • العطاء دون حدود

وإخلاصها هذا هو الذي دفعها لتسترخص العطاء في سبيل الله، فبذلت نفسها في سبيل الرسالة، عندما قبلت راضية بمغادرة حياة الرفاهية التي كانت عليها قبل الإسلام، لتتحمل الأذى والحصار مع رسول الله وسائر الصحب البررة في شعب أبي طالب، كل ذلك في سبيل الله حتى فارقت الدنيا وهي في الحصار فدفنها النبي (ص) في الشعب المذكور.

 

وليس غريباً عمن بذلت نفسها لخدمة الرسالة أن تبذل كلّ مالها في هذا السبيل، وكان هذا المال نِعم العون لرسول الله (ص) في زمن الشدة والحصار. روى الشيخ الطوسي في حديث الهجرة عن أبي رافع أنّ النبي (ص) قال لعلي (ع): ".. إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأد أمانتي على أعين الناس ظاهراً، ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم. قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن أبي رافع - أَوَ كان رسول الله (ص) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة (ع)؟ وقال: إن رسول الله (ص) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة (ع)، وكان رسول الله (ص) يفك من مالها الغارم والعاني[9]، ويحمل الكلّ[10]، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين - يعني رحلة الشتاء والصيف - كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان (ص) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها"[11].

 

  • المؤازرة المعنوية لرسول (ص)

ومن أروع خصال هذه المرأة أنها كانت المتفانية في خدمة رسول الله (ص)، وقامت بدور عظيم في مؤازرته معنوياً وهذه أهم من المؤازرة المادية، فكانت تؤنسه وتخفف عنه مصاعب التحدي وآلام التكذيب والظلم الذي كان يتلاقاه من قريش. ورد في السيرة النبوية: "وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه (ص)، لا يسمع شيئا [مما] يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى!"[12].

 

خامساً: رسول الله والوفاء لخديجة

 

لقد كان موت خديجة ثقيلاً على رسول الله (ص)، فقد غابت الزوجة والعشيرة، وارتحلت المؤازِرة والمناصِرة، وكان موتها وموت أبي طالب في وقت متقارب، "فعظمت المصيبة على رسول الله (ص) بموتهما وسماه "عام الحزن" وقال: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.."[13].

 

ومرت السنين على وفاة خديجة لكنّها بقيت تسكن قلب رسول الله (ص) ولم تفارق ذكراها مخيلته فكان يحنّ إليها ويثني عليها، ويذكرها بما هي أهله، ويعبّر عن وفائه لها واحترامه لذكراها، ويظهر احتراماً خاصاً بصديقاتها، فكان يدعوهنّ إلى بيته ويكرمهنّ ويرسل إليهنّ الهدايا، لأنهنّ كنّ صديقات لزوجته خديجة، إنه التعبير الأجمل عن وفاء الرجل لزوجته، فقد روي عن السيدة عائشة: " قالت دخلَت على رسول الله (ص) امرأة، فأتي رسول الله (ص) بطعام فجعل يأكل من الطعام ويضع بين يديها، فقلتُ يا رسول الله لا تغمر يديك فقال رسول الله (ص): إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة وإنّ حسن العهد أو حفظ العهد من الإيمان.."[14].

 

وعن السيدة عائشة، قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله (ص) إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيتنّبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهن"[15].

 

وفي صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة: قالت ما غرت على أحد من نساء النبي (ص) ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي (ص) يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا الا خديجة فيقول انها كانت وكانت وكان لي منها ولد"[16].

 

محاضرة أُلقيت سنة 1438 هـ في ذكرى وفاة السيدة خديجة (ع)

 

 

 



[1] الخصال ص 206.

[2] الأمالي للصدوق ص 222.

[3] نهج البلاغة ج 2 ص 157، وقد ثار جدل في أنها أسلمت قبل علي (ع) أو أسلم علي قبلها، ففي بعض الروايات أنها أول الناس إسلاماً، ولكن "الذي ترويه الشعة أن علياً أسلم قبل خديجة".، انظر: أعيان الشيعة ج 6 ص 311.

[4] الإرشاد للمفيد ج 1 ص 30، ورواه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 183. قال: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، وروي عن ابن اسحاق قال عفيف: كنت امرءا تاجرا فقدمت أيام الحج فأتيت العباس فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلى فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلى وخرج غلام فقام يصلى معه فقلت يا عباس ما هذا الدين إن هذا الدين ما أدرى ما هو قال هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به قال عفيف فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثالثا" تاريخ الطبري ج 2 ص 56..

[5] الإصابة ج 8 ص 99.

[6] أسد الغابة ج 1 ص 16. وتاريخ الطبري ج 2 ص 34.

[7] الكافي ج 5 ص 374

[8] الاستيعاب ج 4 ص 1824.

[9] الأسير.

[10] الضعيف من هو عيال على غيره.

[11] الأمالي للشيخ ص 468.

[12] السيرة النبوية ج 1 ص 158.

[13] إمتاع الأسماع ص 1 ص 45.

[14] المعجم الكبير للطبراني ج 23 ص 14.

[15] الاستيعاب ج 4 ص 1823.

[16] صحيح البخاري ج 4 ص 231.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon