س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.
تفكيك ظاهرة التكفير - قراءة في كتاب: الإسلام والعنف
قراءة في كتاب: «الإسلام والعنف» لحسين الخشن
للباحث: نجم الدين النفاتي
الملخّص
حاول حسين الخشن في كتابه ” الإسلام والعنف ” التعرّض إلى مسألة باتت من شواغل الفكر الإنسانيّ، وهي مسألة التكفير الّتي ساهمت في تمزيق الجماعات والأمّة الإسلاميّة، وأصبحت سببا من أسباب التخريب الحضاريّ. وقد حاول البحث فيها مفهوما، وتاريخا، وحضورا ومعالجة. وما شدّنا إلى هذه المحاولة عمقها التحليليّ وجرأة صاحبها، لذلك أردنا تقديمها إلى القارئ العربيّ علّنا نساهم في شدّ انتباهه واستفادته منها. ففي هذه المحاولة التحليليّة لظاهرة التكفير إجابة عن كلّ ما قد يدور في ذهن الواحد منّا حول هذه الظاهرة القديمة المتجدّدة.
الكلمات المفاتيح: العنف، التكفير، الخشن.
Abstract
In his book “Islam and Violence,” Al-Khishen addressed the issue of “takfir” or expiation, this latter has contributed to the ripping off not only the Islamic groups but also the Islamic world as a whole. This issue has become critical for human thought in that it is the determinant factor of the raptures modern world is enduring. In parallel, Al Khishen investigated the concept of violence; its history, its manifestations, as well as the ways it was handled. What sparked our attention most in this book is its analytical depth and the audaciousness of its author. Accordingly, we seek to present it to the Arab reader, hoping that s/he might find it useful and beneficial. The book is not only an analytical attempt of the phenomenon of expiation or “takfir”, but also provides clues and answers to different questions that might cross our minds about this ancient and ever new phenomenon.
Key words: Violence, Expiation, Al Khishen.
مقدمة:
مثّلت ظاهرة التكفير – التي باتت لبنة من لبنات الفكر الإسلاميّ- مشغلا من مشاغل الفكر الإنسانيّ، فأسالت كثيرا من المداد وذلك لما لها من تأثير في التاريخ البشريّ وفي علاقات المجتمعات والأفراد بعضها ببعض. فكم من دماء سُفكت، وكم من رقاب قُطّعت، وكم من ديار خُرّبت بسبب حكم التكفير. فالمكفِّر يعمل جاهدا من أجل إقصاء المكفَّر والتحريض على إقامة الحدّ عليه، باعتباره عنصرا خرج عن دائرة الإيمان وحاد عن تعاليمها. وتعود هذه الظاهرة في جوهرها إلى طبيعة الرؤية الدينيّة الّتي تقوم في أصلها على الإقصاء ورفض المغاير دينيّا، بحجّة التفرّد في امتلاك الحقيقة.
وقد اختلفت الآراء والمقاربات لهذه الظاهرة، فثمّة من درسها وجعلها مدار سؤال من داخل المنظومة العقديّة ونذكر في هذا السيّاق رجال الدين من مفكّرين وفقهاء، وثمّة من درسها من خارج المنظومة العقديّة مثل بعض المفكّرين وأصحاب الدرس الأكاديميّ. والغاية دائما محاولة فهمها لغاية تأكيدها أو تجاوزها. ويعتبر الكتاب الّذي ألّفه الشيخ حسين الخشن والموسوم بـ “الإسلام والعنف” من بين المؤلّفات الّتي اهتمت بظاهرة التكفير دراسة وتحليلا. فما هي أهمّ الأفكار التي وردت في هذا الكتاب؟ وما هي حدود هذا الطرح؟
وقد اخترنا الاشتغال على هذا الأثر الفكري لما لمسناه فيه من طرح نرى فيه استجابة لأسئلة الراهن، خاصة وأنّ صاحبه يفكّر من داخل المنظومة الدينيّة، فتداخلت الطرافة بالمخاتلة الفكريّة، والعقدي المذهبي بوهم الحداثة.
I التقديم الماديّ للكتاب :
قام المركز الثقافي العربي بنشر كتاب «الإسلام والعنف» للشيخ حسين الخشن[1]،في طبعة أولى، سنة 2006، وقد حوى 301 صفحة، وقد قسّمه صاحبه إلى خمسة فصول [1/ أصول وضوابط.2/ مناشىء التكفير. 3/ من صفات التكفيريين.4/ أنحاء التكفير وأشكاله.5/ في الخطاب التكفيريّ.] وقد تضمَّن كلّ فصل مجموعة من القضايا الجوهريّة المهمّة. إضافة إلى مقدّمة وملاحق وخاتمة.
II قراءة في المحتوى:
1 المقدمة
ذهب الخشن في مقدّمة كتابه إلى وجود أزمات كثيرة وتحديات كبيرة تعصف بالأمّة الإسلاميّة وتهدِّد ما تبقى من أمنها وتماسكها، وتُشَوِّه صورتها وتُعرِّض حاضرها ومستقبلها للأخطار، ومن هذه التحديات ما يفرضه الخارج عليها مستعمِلًا كل أسلحته: العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والإعلامية، والسياسية، والفكرية، في محاولةٍ لتشويه فكرها ودينها، ومصادرة ثرواتها والقضاء على كل عناصر القوة فيها. خشيةَ نهوض المارد الإسلامي بما يملك من فكر أصيل مشرق، وطاقات بشرية وطبيعة جبارة. وذهب إلى وجود نوع آخر من التحديات، وهي تحديات الداخل الإسلامي التي تتحرك على أرضية واقع ممزق متناحر، تفتك به الانقسامات والخلافات المذهبية والعرقية، في ظل انعدام أدنى شروط المناعة الداخلية، ومن أخطر هذه التحديات تنامي الأفكار التكفيرية عند كثير من المسلمين، بحيث وصل الأمر إلى حد الظاهرة المخيفة، لأنّ المسلم الّذي يحمل الفكر التكفيري تحوَّل إلى إنسان صداميّ وعدوانيّ تجاه الآخر ممن لا يتفق معه في الرأي أو لا يلتقي معه في المذهب أو الدين، وقد استفحلت هذه المشكلة في العصر الراهن فبات المجتمع يشهد حركات تكفيرية متطرفة تحكم بكفر المجتمع الإسلامي برمته، فضلًا عن غيره من المجتمعات، وهكذا استبيحت الدماء وانتهكت الأعراض وسلبت الأموال باسم الإسلام.
وقد ختم هذه المقدّمة بطرح بعض الأسئلة التي وردت في شكل إشكاليات سيعمل على الإجابة عليها في تفاصيل كتابه: هل أنّ عقل المسلم محكوم بإنتاج مناهج تكفيريّة؟ وأين يكمن الخلل؟ وما هي ضوابط الإسلام والكفر ومراتبهما؟ وما هي أصول الإسلام وضرورياته؟ وهل أنّ كلّ من ليس مسلم كافرا؟ وأنّ كلّ كافر في النار، ما هي مناشىء التكفير ومنطلقاته؟ وما هي أهمّ سمات الجماعات التكفيريّة؟ وما هي أنحاء التكفير وأشكاله؟ وما هي خصائص الخطاب التكفيريّ؟ وأخيرا كيف نعالج ظاهرة التكفير؟
2 أصول وضوابط
استهلّ الخشن بحثه بدراسة تاريخيّة تأصيليّة لظاهرة التكفير، معتبرًا أن هذه الظاهرة ليست جديدة في المجتمع الإسلامي، وليست مقتصرة على الإسلام فهي ظاهرة إنسانيّة عامّة وعابرة للطوائف عرفتها جميع الأديان التوحيديّة دون استثناء. وهي تمتد في المجتمع الإسلامي إلى العصر الإسلامي الأول، وتحديدًا إلى ما بعد معركة صفين ونشوء فرقة الخوارج، التي يمكن اعتبارها أول حركة تكفيرية ودموية عرفها التاريخ الإسلامي[2]، فقد حكم الخوارج بكفر أو شرك مرتكب الكبيرة من المسلمين، وتكفير الإمام علي بن أبي طالب. وعلّق على عنف الخوارج بقوله:” وعقيدتهم التكفيريّة هذه جعلتهم يستبيحون الخوض في دماء المسلمين دون أدنى تورّع أو تحفّظ.” [3] ثمّ عمد إلى تقديم بعض الروايات الدّالة على عنفهم (الخوارج)، وتعرّض في مقابل ذلك إلى موقف عليّ بن أبي طالب الّذي رفض تكفيرهم. وتعرّض أيضا إلى الحديث عن توالي الحركات التكفيريّة في التاريخ الإسلاميّ ونشوء بعض المذاهب والفرق ” وعلى رأسها بعض الفرق الّتي لا تتورّع عن تكفير عامة المسلمين أو رميهم بالشرك.”[4] وعلّق على استفحال ظاهرة التكفير اليوم بقوله:” وعندما نطلّ على المشهد المعاصر نجد أنّ موجة التكفير صارت ظاهرة عامة وسيفا مسلّطا يُشهره البعض بوجه كلّ من يخرج عن المألوف والسائد ممّا تقرّره المؤسسة الدينيّة الرسميّة من مقرّرات وترتئيه من أفكار وتوجّهات.”[5]
وقد رأى أنّ أحد شروط خروج الأمّة الإسلاميّة من نفق التكفير والتكفير المضاد وتداعياته ضرورة الاتفاق على ضوابط الإسلام والكفر، ورسم الحدود الفاصلة بينهما. فقسّم الأصول التي يتحدّد بها إسلام الإنسان إلى عنصرين أوّلها الأركان الّتي يكون للإيمان بها موضوعيّة في تلبس الإنسان بحلية الإسلام، وإنكار أي واحد منها في حدّ نفسه موجب للكفر، سواء أكان الإنكار مستندا إلى العناد أو اللجاج أم كان مستندا إلى الغفلة. وثانيهما الأركان الّتي يلزم الإيمان بها أو العمل بمضمونها دون أن يكون إنكارها –في حدّ ذاته- مستلزما للكفر إلاّ إذا رجع –الإنكار- إلى تكذيب الرسول أو إنكار الرسالة.
ثمّ قام في الخطوة اللاحقة بتحديد الأركان الداخلة في القسم الأول والأركان الداخلة في القسم الثاني، فرأى أنّ القسم الأول يقوم في جوهره على مقولة التوحيد والنبوّة والميعاد، فــ “الإيمان بهذه الأركان أو الأصول الثلاثة هو المدخل للإنسان في الإسلام وإنكارها كلاّ أو بعضها مخرج له عنه حتّى وإن كان إنكاره لغفلة أو شبهة”[6]. أمّا القسم الثاني فيدخل فيه ما يُعرف بأصول المذهب كالإمامة والعدل، فإنّ الإيمان بها بنظر بعض المذاهب ضروريّ وواجب، لكنّ إنكارها معًا أو أحدهما لا يخرج عن الإسلام إلاّ إذا تعلّق الأمر بتكذيب الرسول. ويدخل في هذا العنصر الثاني أيضا كلّ ما اصطلح عليه بضروريات الدين كوجوب الصلاة، والصوم، والحج، وحرمة الخمر والربا وقتل النفس المحرّمة. ويخلص إلى الإقرار بأنّ “إنكار الضروريّ ليس سببا مستقلا للكفر، ما لم يرجع إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول.”[7]
وقد رأى في عودته إلى المصادر الإسلاميّة (القرآن والسنّة) أنّ الإسلام هو الشهادتان يقول: “إنّ المستفاد من هذه النصوص (الأحاديث النبويّة) مضافا إلى الآيات القرآنيّة الواردة في هذا الشأن أنّ أصول الإسلام اثنان وهي التوحيد لله وهو يستبطن الإيمان به تعالى ويفرضه مفروغا منه. والثاني هو الإيمان بنبوّة محمّد بن عبد الله (ص) ومن أنكر أحد هذين الأصلين فلا يحكم بإسلامه ولا إيمانه.”[8]
وتعرّض أيضا إلى مسألة “حكم مرتكب الكبيرة ” باعتبارها من المسائل الخلافيّة بين جمهور الفقهاء، فحاول التأصيل لها وذلك بالعودة إلى تقديم أهمّ رأيين وهما رأي الخوارج الّذي كفّر مرتكبها ورأي المرجئة الّذين أخّروا العمل واكتفوا بالإيمان القلبي أو اللساني وذلك بحجّة أنّ العمل مظهر من مظاهر الإيمان لا من مقوّماته.”[9] وعرض أيضا في السياق نفسه أراء المسلمين الّتي توسّطت الرأيين. فخلص إلى أنّ مرتكب الكبيرة يكون كافرا عندما ” يستحلها مكذّبا برسول الله (ص) أو لكتاب الله الّذي جاء بتحريمها. فهو يخرج حينذاك عن الإسلام لا لارتكاب الكبيرة، بل لتكذيب الرسول (ص) أو لله سبحانه.”[10]
وأقرّ أيضا في عنصر وسمه بـ “مراتب الإسلام والكفر “بأنّ استفحال ظاهرة التكفير تعود إلى الخلط الحاصل بين مراتب الإسلام ومراتب الكفر، فــ ـ”للإسلام مراتب متعدّدة ومدارج متفاوتة يتوزعها الناس بحسب استعداداتهم وجهودهم. وللكفر مراتب متعدّدة بعضها لا يلتقي مع الإسلام بوجه. وبعضها الآخر يلتقي معه ولا ينافيه.”[11] ورأى أنّ الفارق بين الإيمان والإسلام فارق جوهريّ، “فللإيمان علاقة بالقلب والعمل أمّا الإسلام فجلّ علاقته باللسان والظاهر.”[12] وقد استند في ذلك إلى النصّ القرآني وإلى روايات أئمة أهل البيت. وبيّن أيضا أنّ للإيمان مراتب مثلما هي في الإسلام. وتحدّث عن أنّ للكفر والشرك مراتب شأنها شأن الإسلام والإيمان، ” فالكفر ينشطر إلى كفر عقدي وآخر عملي، وينقسم العملي إلى كفر نعمة وكفر معصيّة. الكفر العقدي هو الكفر بالله أو برسله أو باليوم الآخر، أمّا الكفر العملي: فهو عبارة عن التمرّد السلوكي على التشريع.”[13] وتحدّث أيضا عن الشرك فذكر أنواعه (شرك في الألوهيّة، وآخر في الربوبيّة، وثالث في الخالقيّة، ورابع في العبوديّة وهناك شرك طاعة وشرك في النيّة. وقال إنّه ” من الخطأ الفادح وضع جميع هذه الأقسام الستة في كف واحدة وذلك لاختلافها مع الإسلام..”[14]
وعبّر حسين الخشن عن قلقه من الوضع الّذي بات يعيشه المجتمع الإسلامي تحت طائلة ظاهرة التكفير وذلك لغياب الرصانة والتعقّل والاستناد إلى أراء بعض “المتفقهين”، فقال:” إنَّ ممّا يبعث على الأسف ويثير القلق والأسى أنَّ واقعنا الإسلامي يشهد موجات من التكفير والتكفير المضاد، وتسرُّعًا في إخراج الناس عن الدين دون ضوابط أو قيود، وهكذا ابتليت الأمة بجامعة من أنصاف المتفقهين الذي يتعجلون في الإفتاء بارتداد من يخالفهم الرأي في بعض المسائل العقائدية أو حتى الفقهية والتاريخية، ويرتبون على ذلك إهدار دمه واستحلال ماله وانتهاك حرمته، هذا مع أنّه لا يكاد يخفى على المطلع والعارف بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنَّ هناك تحذيرًا بالغًا ونهيًا شديدًا عن المسارعة في تكفير المسلم وإخراجه عن الدين.”[15] وعلّق على مخاطر التكفير بقوله:” إنّ للتكفير مخاطر عديدة ومحاذير جمّة وانعكاسات سلبيّة على المكفِر والمكَفَّر، ورأى أنّ مسالة التكفير تتطلّب بعض الضوابط لعلّ أهمّها التثبّت من الكفر وذلك عبر مراعاة الدقّة والعناية التامّة في التحقيق والاستماع إلى الشهود حذرا من الوقوع فيما لا يمكن تلافيه وتداركه من القتل وإزهاق النفوس. وأشار إلى ضرورة العلم بالمكفّرات، “فــلا يتمّ تكفير أيّ شخص دون التأكّد من معرفة الشخص بأنّ ما يقوله أو يفعله أو يتبناه من اعتقاد يشكّل كفرا بالله ورسوله، مع الإصرار على موقفه.”[16] وأضاف إلى شرط المعرفة بالمكفّرات ضرورة أن ينضمّ إليه شرط العمد والقصد. وكذلك مسألة الاختيار في التزام الكفر قولا وفعلا “لأنّ من اضطّر أو أكره على ذلك فلا يُكفّر بذلك.”[17] مع ضرورة ارتفاع الشبهة، فلا يسوغ الحكم بكفر أحد لصدور كلام أو فعل منه يحتمل وجها صحيحا يصرفه عن الكفر. وقد عرض في هذا السياق آراء بعض العلماء المسلمين في تحذيرهم من التكفير.[18]
وقد تحدث عن القاعدة الأساس في الإسلام وهي محقونية الدماء وعصمتها[19]، مع غض النظر عن هوية أصحابها المذهبية والدينية، لأنّ القتل وسفك الدماء قبيح في شريعة العقل والعقلاء، مصداق واضح للظلم، وهو ما استقل العقل بقبحه، وأمّا في شريعة السماء فإنّ حفظ النفوس من أهم المقاصد الّتي هدفت الشريعة إلى تحقيقها.
لقد ركّز في هذا الفصل الأوّل من الكتاب على فقه العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق، طارحًا سؤالًا جوهريًّا، هل أنّ من ليس مسلم كافرا؟ وقد طرح في الإجابة عليه بعض الأسئلة الأخرى: “هل أنّ كلّ من لا يؤمن بالله أو برسوله أو اليوم الآخر كافر؟ أو أنّ ثمّة طائفة من الناس لا يُحكم بكفرهم ولا يترتّب عليهم أحكام الكفر رغم عدم إيمانهم بتلك الأصول العقائديّة؟ ثمّ هل أنّ كل من ليس مسلما هو كافر؟ أو أنّ بعض الناس قد لا يُحكم بإسلامهم ولا بكفرهم؟ وفي جوهر هذه الأسئلة رأى أنّ على المجتمع الإسلاميّ أن يتوّحد وأن لا يترك الانقسامات المذهبيّة تعصف به، ناقدا الدعوات الانفصاليّة ومبيّنا مخاطرها ” فهي تؤسّس لبناء كيانات طائفيّة ضيّقة وهو ما يهدّد بنشوء وقيام صراعات على أسس مذهبيّة، تضاف إلى كلّ الصراعات العرقيّة والقوميّة والدينيّة.”[20] وتساهم في تعميق الفواصل المذهبيّة وإغفال نقاط اللقاء وتأجيج الأحقاد المذهبيّة وإيقاد نار الطائفيّة. [21]
ودعا إلى ضرورة التعايش بين مختلف المذاهب مبرّرا كلّ عمليّة رفض لذلك بكونها تعود في جوهرها إلى “خوف غير مبرّر من الآخر، وهو مؤشّر على ضعف البناء الفكريّ، لأنّ من يبني فكره وعقيدته على الحجّة القويّة والقناعة الراسخة لا يخشى من الآخرين.”[22] ودعا إلى تحصين المجتمعات الإسلاميّة من الداخل والتسلّح بسلاح الثقافة عوضا عن سلاح العصبيّة.[23]
3 مناشئ التكفير:
بيّن الخشن في الفصل الثاني أنَّ للتكفير أسبابًا متعددة، منها ما هو دينيّ، ومنها ما هو نفسيّ، ومنها ما هو اجتماعيّ، ومنها ما هو اقتصادي أو سياسيّ. وأقرّ بإمكانيّة تداخل هذه الأسباب كي تفرز شخصيات صداميّة.[24] ورأى أنّ الأسباب الثقافيّة والفكريّة هي أمّ الأسباب وأساس الداء، فالنظرة السطحيّة الناتجة عن الجهل وراء انتشار البغضاء بين أبناء البشر، يقول:” من الطبيعيّ أن تكون قلّة المعرفة بتعاليم الدين وقيمه والنظرة السطحيّة إليه من أسباب نشوء وانتشار ظاهرة التكفير، وهذا ما يجعل من صفة الجهل أو السطحيّة من الصفات الملازمة للحركات التكفيريّة.”[25] لذلك نبّه إلى خطورة هذا العنصر ودعا إلى ضرورة ” الحذر كلّ الحذر من الجهلة المتنسكين، الّذين ينطقون باسم الدين ويحتكرونه لأنفسهم، ويتصرّفون كأنّهم أوصياء عليه.”[26] وعبّر عن فتنة الجهل بقوله: “فالجهل مدعاة على الانغلاق والانغلاق مدعاة إلى الصدام والتكفير.”[27]
ومن أسباب نشوء ظاهرة التكفير التعلّق بالقشور، فالفكر التكفيريّ يكوّنه جهل التعامل مع النصوص الدينيّة في مستوى القراءة، يقول:” ساهم الجهل في تكوين فئة قشريّة تعيش على السطح، وتتقن قراءة السطور ولكنّها لا تتقن قراءة ما بين السطور ولا فهم المعنى ولا تجتهد بما فيه صلاح الناس، لذا غدا الدين عندها انغلاقا على الذات بدل أن يكون انفتاحا على الآخر، ويمثّل قوالب وقشورا فارغة من كلّ مضمون، والحديث عن الدين عندها هو حديث عن القيود التي تكبّل الأيدي، والسياط التي تجلد الظهور والسيوف التي تقطع الرقاب.”[28]
ووقف عند ظاهرة التطرّف في الفهم باعتبارها من الظواهر المنتجة للفكر التكفيريّ، فـقال “إنّ التعمّق في الدين يعتبر أيضا عاملا من عوامل نشوء التكفير.”[29]ونبّه في هذا السياق إلى ضرورة التفريق بين التعمّق الإيجابي الذي يراد منه فهم الدين وبذل الجهد لأجل اكتشاف أبعاده ومقاصده، والتعمّق السلبيّ الّذي يتعلّق بالمبالغة والتشدّد في الأخذ بتعاليم الإسلام وحدوده وأحكامه وسننه، بما يُخرج المرء عن جادة الاعتدال ويوقعه في الإفراط أو التفريط. وعدّد بعض علامات التعمّق فذكر فقدان الميزان وكثرة اللجاج والتضييق على النفس، والحماقة والعجلة وإتباع الهوى وتكفير الآخر.
ولم يفته الوقوف عند مسألة سوء الضنّ باعتبار الظنون لواقح الفتن. فسوء الظنّ بالآخر من مشكّلات تكفيره، فرأى أنّ التاريخ الإسلاميّ وكذلك الواقع المعاصر ملآن بالمآسي والمظالم الّتي أشعلت العصبيّة المذهبيّة فتيلها، وغذّاها سوء الظنّ بالآخر، ” فكم من فتنة أيقظها سوء الظنّ، وكم من دم سفك وأهدر بفتاوى لو بحثت عن خلفيتها لوجدتها تنطلق من حمل الآخر على الأسوأ، وكم من فرقة أو جماعة كفّرتها العقليات المختلفة المشبعة بسوء الظنّ بالآخر.”[30] وقد دعا إلى ضرورة حسن الظن بالآخر من أجل حماية المجتمع الإسلاميّ.
تحدّث أيضا عن ثنائيّة عجمة الفهم والفهم المعجمي، فرأى أن سوء فهم النصوص الدينيّة والبشريّة يوّلد فهما مبتورا وحكما منقوصا وخاطئا، خاصّة في مستوى النظرة التجزيئيّة وقد رأى أنّ ” من الصفات البارزة للجماعات التكفيريّة افتقارها إلى رؤية متكاملة عن الإسلام عقيدة وشريعة وعن دوره في الحياة وموقع الإنسان في الرؤية الكونيّة ولهذا تراها تحدّق في جانب معيّن وتستغرق فيه ولا ترى الجوانب الأخرى من الصورة. وهو ما يجعل نظرتها مجتزئة وتقييمها ناقصا وأحكامها قاسيّة على من يخالفها الرأي.”[31] وذهب إلى أنّ من مظاهر سوء الفهم أنّه يؤسّس للفهم المعجمي القاموسيّ للنصّ ” بحيث يتعامل الباحث مع النصّ الدينيّ وفق عقليّة حرفيّة تقف عند الحروف والكلمات بطريقة هندسيّة فلسفيّة تفقد النصّ بلاغته وحيويّته.”[32] وقد رأى في هذه الطريقة في التعامل مع النصوص الدينيّة مصدرا لإخراجها من سياقها الإنسانيّ العميق.
ووقف الخشن عند مسألة التراث في عنصر وسمه بــ”تنقية التراث ومحاصرة التكفيريين“. فرأى أنّ “التراث الإسلاميّ نفسه هو أحد المناشئ الأساسيّة للتكفير والحقل الخصب لذلك، إذ لا يعدم التكفيريون العثور على نصّ هنا أو هناك منسوب إلى الرسول (ص) يتشبّثون به لتبرير أعمالهم وتصرّفاتهم التي قد نسمها نحن بالعنف لكنّها بنظرهم أعمال جهاديّة تقرّبهم إلى الله زلفى.”[33] وبناء على ذلك فقد اقترح ضرورة غربلة التراث وتجاوز تلك النظرة التقديسيّة له، وقد ضرب مثلا في هذا السياق يتعلّق بحديث الفرقة الناجيّة وما مثّله من تأثير سلبيّ بالغ الخطورة في وحدة المسلمين وتماسكهم ، ” فهو يعمّق الهوّة ويزيد الشقة ويحول دون التقارب والتلاقي، إذ كيف يتقارب شخص مع شخص آخر هو بنظره من أهل النار.”[34] وعمل على تحليل هذا الحديث ونقده في مستوى السند والمتن وانتهى إلى كونه من الأحاديث الموضوعة.
4 من صفات التكفيريين:
تعرّض الكاتب في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى صفات التكفيريين، فرأى أنّ من الصفات البارزة للجماعات التكفيريّة أنّها جماعات يتحكّم بها مرض الاستعلاء والغرور الدينيّ، و”السرّ في ذلك أنّ الجاهل كلّما ازداد نسكا ازداد غرورا وإعجابا بنفسه وبدينه.”[35] ” فيُخيّل إلى نفسه أنّه يمتلك الحقيقة من ناصيتها […] والحال أنّه يعيش في وهم كبير.”[36]ومن الآثار السلبيّة لحالة الغرور والاستعلاء الدينيّ تضخّم الذات وتورّمها دون محتوى، وهو ما يقود إلى الاستهانة بالآخرين واستباحة دمائهم وأعراضهم أموالهم.[37] ومن صفاتهم أيضا، استغراقهم في الصغائر وانشغالهم في التفاصيل وخوضهم الكثير من المعارك الجانبيّة الهامشيّة، وهم بصنيعهم هذا قد جانبوا روح ما دعا إليه النصّ القرآني من ضرورة تجنّب الخوض في الصغائر والهوامش والتركيز على المتون والأصول النافعة في الدنيا والآخرة.[38] وهم سريعو الانفعال، ” فالشخصيّة التكفيريّة شخصيّة انفعاليّة ارتجاليّة سريعة الغضب حادة المزاج كثيرة العثار.”[39] وأضاف إلى ذلك أنّها شخصيات عنيفة وقاسيّة. وأنّ طريقتها في العبادة تختلف عن جوهر ما ورد في النصّ الدينيّ التأسيسيّ، فهي تتمّ بطريقة الجهل والانغلاق، يقول واصفا إيّاهم:” من الصفات المميّزة للجماعات السلفيّة التكفيريّة انكبابها على العبادات والتزامها الحرفيّ بالوظائف الدينيّة المقرّرة بحلالها وحرامها وفرائضها ونوافلها، ومظاهر التديّن وآثار العبادة باديّة على قسماتهم وسائر تصرّفاهم، فجباههم سوداء متقرّحة من أثر السجود، ولحاهم طويلة وأزرهم إلى نصف الساق وألسنتهم تلهج دوما بذكر الله.”[40]
وقد قدّم الخشن بعض التوجهات التي تضع حدًا للعقل التكفيري أو تحد من غلوّه، فرأى ضرورة وضع حدا للفوضى الشاملة في شأن التكلم عن الدين، ولهؤلاء الذين يسرحون ويمرحون في التحليل والتحريم. وفي موضع التراث، رفض الدعوة إلى القطيعة معه بمقدار رفض تقديسه، وهو ما يستوجب التدقيق بما لا يزال متناسباً مع العصر، واعتبار نصوصه متصلة بزمن وضعها ومكان صدورها. ويرفض حصر النصوص الإسلامية بالمصطلحات الموروثة من التراث، بل واجب المسلمين الانفتاح على المفاهيم السياسية والاجتماعية، لأن الألفاظ والمفاهيم ليست مقدسة، وعلى سبيل المثال لا داعي للإعراض عن كلمة الديمقراطية تحت حجة أن هناك مفهوم الشورى الكافي للتعبير عن هذا المفهوم السياسي. ويدعو أخيرًا إلى خطاب إسلامي متوازن بما يراعي حاجات العقل والقلب على السواء.
5 أنحاء التكفير وأشكاله
اعتبر الكاتب أن أخطر الأسلحة التي يستخدمها المسلمون في وجه بعضهم البعض، رمي الآخر بالابتداع في الدين، الأمر الذي يستتبع إخراجه من الدائرة الإيمانية، والحكم عليه بأنّه من أهل النار، ومعاقبته بما يضع حدًّا لبدعته. وأشار إلى ما يقع فيه بعض المسلمون من خلط بين الإبداع والابتداع وفي ذلك إساءة للإسلام، فشرح المفهومين وبيّن الاختلاف بينهما وعدم تعارض الدين مع الإبداع الخلق.
وليس هذا فحسب، فقد بيَّن الكاتبُ أنَّ هناك آفة خطيرة تفتك بمجتمعاتنا الإسلامية، وتزيدها تمزيقًا، وتُعمِّق شقة الخلاف بين طوائفها وأبنائها، وهي محاولة كل فرقة أو جماعة احتكار الشرعية والهداية والاستقامة لنفسها، وسلبها عن الآخرين، واتهامهم بالفسق والخروج عن جادة الشريعة، وهي مظهر من مظاهر التكفير. وتكون النتيجة ” ضياع المقاييس الأخلاقيّة والشرعيّة، ويغدو الآخر سوداويّا قاتما، ولعلّ أجلى تعبيرات هذه الآفة التسرّع في رمي الآخر بالفسق وتتبّع عثراته وزلاّته.”[41] ورأى أنّ ظاهرة التفسيق ” ساهمت في تمزّق الأمّة أشلاء متناثرة وشكّلت واقعا مؤلما ملؤه الأحقاد والضغائن المتبادلة.”[42]
ولم يتجاوز في هذا السياق ظاهرة التضليل، فأشار إلى موجات التضليل والتناحر الدينيّ. فقال:” ثمّة أسلحة فتاكة كثيرة يتمّ استخدامها في عمليات التناحر الدينيّ والتراشق المذهبي المستمرّة منذ أمد بعيد، ومن جملتها سلاح التضليل الّذي يسّله أتباع الأديان المختلفة بوجه بعضهم البعض ويشهره كلّ مذهب بوجه المذاهب الأخرى، وقد استفحلت موجات التضليل والتضليل المضاد في الآونة الأخيرة وامتدّت إلى داخل الدائرة المذهبيّة الواحدة.”[43] وتناول لاحقا، ظاهرةً تتفشى في مجتمعاتنا الإسلامية وغيرها هي ظاهرة السب والشتم، فأتباع هذا الدين يسبون أتباع الدين الآخر أو مقدساتهم، وأتباع هذا المذهب يسبون أتباع المذهب الآخر.[44] وهي في نظره ظاهرة ناتجة في جوهرها عن الحسد والحقد والضغينة الّتي قد يحملها الإنسان في قلبه تجاه الآخر، فالحاقد سوف يترجم حقده ولو بشكل غير شعوريّ إلى شتائم وسباب للمحقود عليه.[45]
وذكر أيضا ظاهرة اللعن الّتي أصبحت على حدّ قوله ثقافة في المجتمع الإسلاميّ:” فكلّ فئة تلعن الأخرى أو بعض رموزها ومقدّساتها، مع إسباغ اللعن لبوسا شرعيًّا، وتبريره بمبرّرات دينيّة. والتلاعن تعبير لفظي ينطلق من نزعة عدائيّة توغل في إسقاط الآخر ونزع الحرمة والقداسة عنه.”[46] ورأى فيه (اللعن) معنى الطرد والإبعاد، وعندما يضاف على الله يأخذ معنى دينيا يتحدّد في طرد الملعون من ساحة الرحمة الإلهيّة. وهذا وغيره قد يجُرّ إلى فتنة عمياء، ويخلق ردّات فعل غير محسوبة العواقب، ويُضعِف الساحة الداخلية، ويفقدها تماسكها ومناعتها.
6 في الخطاب التكفيري
وقف في هذا الفصل الأخير عند الخطاب الديني وبيّن كيف أنّه خطاب تتجاذبه أطراف متعددة، ومدارس متنوعة في ثقافتها وأسلوبها ومنطلقاتها وأهدافها. ولكي لا يبقى الأمر موضع جدل قال: ” لا بدَّ من توفر مجموعة من الضوابط والصفات في الناطقين باسم الدين إفتاءً أو وعظًا، تعليمًا وتدريسًا، وأُولى هذه الضوابط هي أن يكون المتحدث باسم الدين مزوَّدًا ومسلَّحًا بالعلم والمعرفة، ليكون أهلًا للحديث عن الدين عقيدة وشريعة ومفاهيم عامة، مستندا في ذلك إلى الآية القرآنيّة: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] [الإسراء: 366]. كما نبَّه ضرورة إلى قضية احترام التخصصات، واصفًا الأمة التي لا تحترم التخصصات العلمية بأنها أمة لا تحترم نفسها، ولن تُوَفَّق في عملية النهوض، يقول: “لهذا يكون لزاما على كلّ الحريصين على الإسلام السعي لوضع حدّ لهذا الفلتان وهذه الفوضى والعمل على تثقيف الأمّة على احترام التخصّصات، لأنّ الأمّة الّتي لا تحترم التخصّصات العلميّة هي أمّة لا تحترم نفسها، ولن توّفق في عمليّة النهوض. وكيف تنهض أمّة يغدو كلّ فرد من أفرادها فقيها وطبيبا ومهندسا وفلكيّا و… في آن واحد.”[47] وهذا لا يعني عنده أن الفكر الديني حكر على طبقة معينة، قال:” وما ذكرناه من ضرورة احترام التخصّصات وأن لا يتكلّم المرء في ما لا يملك علمه، لا يعني أنّ الفكر الدينيّ حكر على طبقة معيّنة أو على جهاز كهنوتيّ خاص هو المخوّل أن ينطق باسم الدين أو يحتكر فهم النصّ وتفسيره.”[48] وركّز في هذا السياق على حالة الشلل التي تعيشها المناهج التعليميّة ” مشكلة انتماء الرسالة العلميّة إلى الماضي تتكرّر بنفسها في المناهج الدراسيّة في المعاهد والحوزات العلميّة فإنّها لا تزال عصيّة على التحديث والتطوير رغم الحاجة الملحّة إلى ذلك في خضم التغيير الكامل للحياة في أنظمتها التعليميّة.”[49] وعرض بعض تجارب التحديث المحتشمة.
وقد تعرّض إلى بعض الإشكاليات المهمّة في فهم الخطاب الإسلامي، منها الخطاب الإسلامي بين قيود الماضي وتحديّات الحاضر والمستقبل، والخطاب الإسلامي بين المصطلحات الموروثة والوافدة، والخطاب الإسلامي ومراعاة الزمان والمكان، والخطاب الإسلامي بين الفكر وجنوح العاطفة، والخطاب الإسلامي بين التبشير والتنفير، والخطاب الإسلامي وعقدة المؤامرة، والعبادات ودورها في تهذيب الخطاب الإنساني. وهي إشكاليات رام من خلالها إبراز أهمّ خصائص هذا الخطاب وتعارضه في جوهره مع ظاهرة التكفير.
ثمّ ختم بطرح سؤالا جوهريّا هو: كيف نواجه التطرف؟ واعتبر أنّ التكفير لا يواجه بالتكفير[50] لأنّ ذلك لا يحلّ المشكلة ولا يغير قناعة، بل ربما زاد المشكلة تعقيدًا، والقناعة رسوخًا، وذهب إلى أنَّ الخُلق الإسلامي يأبى مواجهة الشتيمة بمثلها، والسيئة بأختها، وإنما يدعونا إلى الصفح والدفع بالتي أحسن، مستشهدا بالآية: [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] [فصلت: 34] والخطوة الأولى لمواجهة التكفير ضرورة دراسة أسباب التكفير، ومعرفة منطلقاته باعتبارها مقدمة ضرورية لمعالجتها والتخلص منها، فربما كانت الأجواء الاقتصادية، والأمنية والسياسية مؤثرة في نمو الأفكار التكفيرية، وطريق المعالجة في هذه الحالة ينحصر برفع تلك الموانع وإزالة تلك الأسباب[51]، أمّا لو كانت أسباب التكفير ثقافية، والمشكلة هنا صعبة وعلاجها أشد صعوبة، ففي هذه الحالة يكون لِزامًا مواجهة الفكر التكفيري ومقارعته، بالحجة والبرهان لا بالسجن والسيف[52]، يقول: “إنّ المطلوب إحداث زلزال في البنى التحتيّة والركائز الأساسيّة للفكر التكفيريّ بإثبات وهنه من الناحيّة الإسلاميّة وابتعاده عن الأسس الشرعيّة الدينيّة. هكذا يتم تجفيف منابع الإرهاب والتطرّف لا بأسلوب العنف وملاحقة الأشخاص لمجرّد ميولهم الإسلاميّة أو انتسابهم إلى بعض الحركات السلفيّة وقمعهم وزجّهم في زنازين المعتقلات، لأنّ ذلك سيزيد من ضراوتهم ويجعلهم قنابل موقوتة تهدد الأمّة برمّتها.”[53] وتتمثّل الخطوة الثانية في تعزيز ثقافة التسامح ونشر رسالة المحبة وتأكيد احترام الآخر في نفسه وماله وعرضه، ورعاية حقوقه وحفظ إنسانيته، وكف الأذى عنه ما دام لا يتحرك بالظلم والعدوان[54]، وقال: «أخال أنَّ أهم قيمة يجدر بنا التبشير بها والدعوة إليها بعد تأصيلها وتنظيمها هي حق الاختلاف بين بني البشر، لأن التكفير ينبت وينمو في أجواء القمع والاستبداد، ويتحرك في ظل أحادية الرأي والفهم التي يراد فرضها على الآخرين ومصادرة حقهم في الاختلاف»[55] وذلك لكون الاختلاف لا يساوي التمزق والتشتت، ولا يعني أنَّ من ليس معي فهو ضدي، ومن لا يوافقني الرأي فهو عدوي، وإذا ما قاد الاختلاف إلى التناحر والتنازع فهو تخلف وجاهلية، أما إذا تحرك وفق قانون التدافع والتنافس فهو ليس أمر جائزًا ومحمودًا فحسب، بل هو شرط لديمومة الحياة الاجتماعية والإنسانية كما يؤكد علماء الاجتماع[56].
7 حدود الطرح
لئن بدا لنا هذا الطرح طريفا في بعض جوانبه غير أنّه بقي يحوم داخل بوتقة الطرح الدينيّ المذهبي، فقد سيطر عليه الطرح المذهبي الّذي يعتبر حسب ما ذهب إليه الباحث محمد شقير[57] ” من أخطر العوامل التي تلعب دورا كبيرا في التفريق والتكفير، وذلك لأنه يمتزج بعوامل أخرى تاريخية وسياسية واجتماعية… تعمل كلها على استيلاد ثقافة مذهبية تضرب بجذورها في وعي المجتمع إلى حد قد يصعب معه تنقية وتنظيف ذلك الوعي من كل تلك المخلفات المذهبية ورسوباتها وآثارها.”[58] ورأى أنّ ذلك “لا يمنع من التفكيك بين تلك العوامل في محاولة لإظهار العامل المذهبي وكشفه وتعريته، وتبيان كيف يقوم بدوره في موضوع التكفير وتمزيق المجتمعات الإسلامية وإحلال التنازع فيها بدل الوحدة.إن ما ينبغي تأكيد ه هو أن العامل المذهبي قد أصبح الوعاء الذي تصب فيه مختلف ألوان العصبيات، من عرقية وقومية وجغرافية واجتماعية وغيرها، لتعمل على تذكيته ونفخ النار في رماده، لتتمظهر كل تلك العصبيات في العصبية المذهبية، مما أخرج المذهبية من إطارها الفكري- الديني إلى إطارها العصبي- الاجتماعي، حتى أضحت المذهبية أمرًا ملازماً للعصبية وللتعصب، بل أضحت من أسوء أشكاله والتعبير الأشنع عنه.قد لا يكون ملحاً الآن أن نعود إلى التاريخ لنستكشف متى وكيف بدأ التعصب المذهبي في الاجتماع الإسلامي، والعوامل الأساسية التي لعبت دورها في استيلاده.”[59] وفي تعليقه على ظاهرة التكفير المذهبي ذهب إلى أنّ “الأمر يرتبط بفهم الدين نفسه، لأنّ المسكون بذلك التراث التكفيريّ والمثقل بكلّ أغلاله، لا يستطيع أن يمارس عمليّة استنطاق مجرّدة للنصّ الدينيّ، بل جلّ ما سوف يقوم به هو عمليّة إسقاط لتراثه التكفيريّ على النصّ الدينيّ.”[60]
لم يستطع الخشن الولوج إلى النصّ التأسيسيّ من أجل معالجة ظاهرة التكفير التي عرفت منابتها الأولى في سوره وآياته. وهو ما يعني أنّه بقي حبيس النزعة المذهبيّة الخاصّة.
خاتمة
نخلص من خلال هذه المقاربة الّتي قدّمها الكاتب لظاهرة التكفير، أنّه قد فصّل القول فيها فبحث في مفهوم الكفر وتاريخه وأسبابه المباشرة وغير المباشرة، وبحث أيضا في مسألة صفات التكفيريّن وفي خصائص الخطاب التكفيريّ، وقد حاول في كلّ مرحلة من البحث تحليل الظاهرة وتقديم الحلول التي بإمكانها المساعدة على التجاوز. وقد لمسنا في خطابه جرأة وقدرة على حسن التحليل، خاصّة وأنّه يتحرّك من داخل المنظومة الدينيّة. وبدت أفكاره حداثيّة في جوهرها، رغم التزامه الظاهر من خلال بعض التفاصيل بانتمائه إلى المذهب الشيعيّ وتحامله على الخوارج الّذين اعتبرهم المنطلق التاريخيّ لظاهرة التكفير، في حين أنّ النصّ القرآني قد كان سبّاقا في هذا المجال. وهو ما جعل طرحه يتسم بالمذهبيّة التي تجانب في جوهرها مقولة الحداثة والثورة الفكريّة التي تهدف إلى كسر القيود التي تعيق التفكير السليم في أزمات هذه الأمّة. ثم إن العمل على ظاهرة التكفير توصيفاً وتحليلاً ومقارنة.. بقدر ما يكتسب من الأهمية، فإنه يبقى مقدمة للدخول في بحث آخر قد يكون أكثر أهمية، وهو يرتبط بسبل معالجة هذه الظاهرة، وبيان كيفية التخلص منها، وتقديم الوسائل والأدوات الكفيلة بمحاصرتها وإنهاء جميع مظاهرها ونتائجها. صحيح أن البحث في أسباب ظاهرة التكفير، والعوامل المساعدة عليها، وفي طبيعتها، وفي نتائجها، بحث متداخل، لكن يبقى تقديم المعالجات العلميّة لهذه الظاهرة يحمل هدفاً نبيلاً يتمثل في معالجة ظاهرة العنف التي باتت تمزّق أوصال المجتمع الإنسانيّ.
من موقع: مركز نقد وتنوير https://tanwair.com/archives/9189
[1] – الشيخ حسين أحمد الخشن عالم دين شيعي لبناني، له العديد من المؤلّفات: الإسلام والعنف / الإسلام والبيئة… خطوات نحو فقه بيئي/ الشريعة تواكب الحياة / من حقوق الإنسان في الإسلام/ حقوق الطفل في الإسلام/ حكم دخول غير المسلمين إلى المساجد. (دراسة فقهية) / علامات الظهور… بين حلم الانتظار ووهم التطبيق / ظواهر ليست من الدين / أصول الاجتهاد الكلامي/ العقائد القرآنية – للسيد فضل الله إعدادا وتنسيقا / هل الجنة للمسلمين وحدهم… قراءة في مفهوم الخلاص الأخروي/ العقل التكفيري/ العقل الإسلامي بين سياط التكفير وسبات التفكير…
[2] – ونرى أنّ هذا الرأيّ يستبطن الخلاف التاريخيّ بين الشيعة والخوارج وهو خلاف تقرّه جميع المباحث المهتمّة بتاريخ الفرق الإسلاميّة، وأصل الخلاف يقوم حول بعض النقاط الخلافيّة وخاصّة في مسألة الإمامة، حيث يتجلى الخلاف بصورة جليّة: فمن الخوارج من يقول بالاستغناء عن الإمام، والشيعة على خلاف ذلك ترى أن وجود إمام من آل البيت أصل من أصول الدين. وهي عند الخوارج حق مشاع بين كل طبقات المجتمع إذا وجد الكفء، بينما الشيعة تحصر الخلافة في علي ونسله من بعده. ولا يقول الخوارج بعصمة الأئمة والشيعة يؤكّدون عصمتهم. لا يعتقد الخوارج رجعة أحد أئمتهم، والشيعة تعتقد رجعة الإمام المنتظر، والقول بعدم رجعة أحد هو قول عامة الخوارج إلا فرقة شذت عنهم تسمى الخلفية ورئيسهم يسمى مسعود بن قيس، ففي أثناء محاربة حمزة بن أكرك لهذه الفرقة وهزيمتها هرب مسعود بن قيس فغرق في واد ومات غريقاً، إلا أن طائفته لم تصدق بموته واعتقدوا رجعته، وصاروا ينتظرونه، انتظار الشيعة للإمام المنتظر الذي يسألون له الرجوع وتعجيل الخروج في كل لفظة يذكر فيه المهدي ويرمزون لذلك بحرفي ” عج”. يرى الخوارج جواز الخروج مع أي شخص كان مادام مستقيماً على الحق، بينما الشيعة يرون أنه لا يجوز الخروج على مخالفيهم إلا مع وجود الإمام الحق، ودونه لا يجب ولا يلزم بل هو إضرار بالغير، ولا صحة لإمامة من ليس من أهل البيت، فمتى وجد هؤلاء جاز الخروج معهم على الحكام الجائرين ودونهم لا يجوز. (انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، تحقيق محمد الخشت، مكتبة ابن سينا، مصر، 2008.)
[3] – الخشن (حسن)، الإسلام والعنف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، ط1، 2006، ص 13.
[18] – – الإمام تقي الدين السبكي (ق8):” التكفير هائل عظيم الخطر، لأنّ من كفّر شخصا بعينه فكأنّما أخبر أنّ مصيره في الآخرة جهنّم خالدا فيها إلى أبد الآبدين، وأنّه في الدنيا مباح الدم والمال.” فما بقي الحكم بالتكفير إلاّ لمن صرّح بالكفر واختاره دينا وجحد الشهادتين وخرج عن دين الإسلام وهذا نادر وقوعه.” [الطبقات الكبرى، ج1، ص 13).
– الشوكاني:” اعلم أنّ الحكم على رجل مسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في دين الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه، إلاّ ببرهان أوضح من شمس النهار.” [السيل الجرّار، ج4، ص 578].
– ابن حجر الهيثمي:” ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه، لعظيم أثره وغلبة عدم قصده سيما من العوام.” [تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج9، ص 88].
[19] – وقد عبّر في بحث آخر له وسمه بـعصمة الدماء والنفوس والأعراض عن خطر آفة التكفير بقوله :” ومن المبادئ الإسلامية الهامّة على المستوى الإنساني مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض، والحديث عن هذا المبدأ أمر يكتسب أهمّية خاصة في وقتنا الراهن، ذلك أنّ أعمال العنف والقتل والإجرام بأبشع صورها والتي تتّسم بالوحشية المفرطة أصبحت عملاً طبيعيّاً وخبراً عادياً، وغدا قتل المسلمين الذين يسقطون بسيف التكفير مجرّد أرقام تُتلى على شاشة التلفاز وتُقرأ في عناوين الصحف دون أن تحرّك ساكناً أو تهزّ ضميراً، وهذه الأعمال تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية السلفية في بلدان شتّى مثل الجزائر والعراق والسعودية وصولاً إلى سوريا التي ارتُكبت– ولا تزال- فيها الفظاعات، إلى غيرها من البلدان، ولم تُنْكر هذه الجماعات كثيراً ممّا نُسِبَ إليها بل اعترفت به، وربّما تفاخرت ببعض الأعمال التي لم تخلُ من التنكيل والتمثيل والتعذيب وقطع الرؤوس وشقّ الصدور ونبش القبور وإحراق الأحياء.. الأمر الذي أساء قبل كلّ شيء إلى صورة الإسلام، وشوّه سمعة المسلمين في العالم، فصوّرهم الإعلام الغربي أمّة تسترخص الدماء وتستهين بإنسانيّة الإنسان.” http://www.al–khechin.com/article/279.