حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
 
  لقاءات >> مقابلات
حوار مع جريدة النهار الكويتية: عاشوراء تُحيى لأجل التلاقي بين المذاهب الإسلامية



 أكّد مدير المعهد الشرعي الإسلامي في لبنان وأستاذ الدراسات العليا في مادتي الفقه والأصول في المعهد، الشيخ حسين الخشن، أنه عندما نعود إلى عاشوراء لا نريد أن نعود لنتجمّد في التاريخ أو في الماضي، بل نريد لعاشوراء أن تدخل إلى بيوتنا وساحاتنا، إلى واقعنا المعاصر وحياتنا بما تمثّله من قيم الانتصار للحق والوقوف

في وجه الظلم، وبما تمثّله من دروس في العزّة والإباء، ولما تمثّله من قيم إسلامية وإنسانية، وشدّد على أن عاشوراء لا تُحيا في وجه المذاهب الإسلامية الأخرى على الإطلاق، بل تُحيا لأجل التلاقي مع المذاهب الإسلامية الأخرى، لأن الحسين يمثّل قيمة وإماماً لكل المسلمين.


كلام الشيخ الخشن ورد في حديث خاص لـ جريدة النهار الكويتية من مكتبه في المعهد الشرعي الإسلامي في حارة حريك (الضاحية الجنوبية لبيروت)، لفت خلاله إلى أن كل عمل يأتي به بعض الناس باسم الحسين والشعائر الحسينية، ويكون مثيراً للفتنة، وموجباً للفرقة بين المسلمين، أو لتنفير الناس من الحسين كبعض الأعمال ا

لمقزّزة التي ينزل فيها الناس الى الشارع بعملية إدماء، أو ما يسمّى التطبير، فكلّها إحياءات لا نوافق عليها، لأننا لا نعتقد انها تخدم القضية الحسينية ولا تفتح قلوب الناس على الحسين عليه السلام ولا على الثورة الحسينية ولا على أهل البيت عليهم السلام.


وتوجّه الشيخ الخشن، عبر النهار الى المسلمين قائلاً: عليكم، إذا كنتم فعلاً تنتمون إلى هذا الإسلام، عليكم أن تقرأوا تراثكم وأن تغربلوه من كل هذا الرّكام، ومن كل الأحاديث المكذوبة التي تشوّه صورة الدين الحنيف!


وإذ رأى سماحته أن الكثير من رجال الدين هم أصحاب مصالح ومطامع سياسية، ضيقة، فئويّة، وقد دخلوا في العصبيّات، أكّد ان أخطر ما أُفسد به الدين، وأخطر ما تمّ تخريب الدين به هي العصبيات، وأخطرها العصبيات المذهبية. وللأسف ان الكثير من واقعنا العربي والإسلامي تحرّكه العصبيات وليس الدين!

 


تفاصيل الحديث مع الشيخ حسين الخشن في الحوار الآتي نصّه:


س: ماذا تعني لكم مناسبة عاشوراء؟ وكيف على المسلم أن يحيي ذكرى عاشوراء بما هو أبعد من المظاهر والطقوس؟
 

ج: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى أهل بيته الطاهرين وصحبه المنتجبين.. عاشوراء هي حدثٌ تاريخي، ولكنّنا عندما نتعامل مع هذا الحدث، نتعامل معه من خلال المنطق القرآني الذي يقول لقد كان لكم في قصصهم عبرة.. فنحن عندما نعود إلى عاشوراء لا نريد أن نعود لنتجمّد في التاريخ أو

في الماضي، بل نريد لعاشوراء ان تدخل الى بيوتنا وساحاتنا، الى واقعنا المعاصر وحياتنا بما تمثّله عاشوراء من قيم الانتصار للحق والوقوف في وجه الظالمين، وبما تمثّله من دروس في العزّة والإباء، ولما تمثّله من قيم إسلامية، لأن عاشوراء حملت العناوين الإسلامية وانطلقت منها. فعندما نحيي عاشوراء نحييها بهذه الخلفية،

لا بخلفية من يريد التعارك باسم التاريخ ورجالاته، فيكفينا ما نحن فيه من المشكلات المعاصرة حتى نأتي ونضيف اليها مشكلة جديدة. ونحن نريد لعاشوراء ان تشكّل مادة مشتركة تجمع المسلمين، وليست مادة للخلاف أو الخصام فيما بينهم. ولهذا فإن عاشوراء لا تُحيا في وجه المذاهب الإسلامية الأخرى على الإطلاق، بل تُحيا

لأجل التلاقي مع المذاهب الإسلامية الأخرى، لأن الحسين يمثّل قيمة لكل المسلمين، الذين ينظرون إليه كلّهم نظرة إجلال واحترام وإكبار. فالإمام الحسين مثّل الحق ضد الباطل، والاستضعاف ضد الاستكبار. ومن هنا، عندما نحيي هذه الذكرى لا نعيد نبش الماضي، بل كما يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ

خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. عاشوراء مدرسة نستلهم منها الدروس، وفيها محطّات مشرقة للإنسانية جمعاء.


 

س: ما أبرز القيم التي تجسّدها هذه المدرسة؟


ج: عندما نتحدث عن عاشوراء الحسين فإننا نتحدث عن قيمة مواجهة الظالمين. فالإمام الحسين رفع شعار مواجهة الظالمين والمستبدّين، عندما أكّد على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعاشوراء الحسين هدفت إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي.يقول الحسين: {إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي.. أريد أن

آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي} وما أحوج مجتمعاتنا اليوم للإصلاح. والذي هو عنوان قرآني بامتياز. فالله يحدّثنا عن نبي الله شعيب أنّه قال {إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}. فشعارات الإمام الحسين لم تكن شعارات مذهبية، بل كانت شعارات قرآنية إسلامية، شعارات الوقوف في وجه الظالم.

 

في كلمة أخرى يقول رسول الله (ص) {من رأى منكم سلطاناً جائراً فلم يغيّر عليه بقول أو فعل، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله}، ومواجهة الظالمين والمستبدين هي شعار القرآن أيضاً فالله سبحانه وتعالى يقول {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}. من هنا نعتبر ان الشعارات

التي رفعتها مدرسة الإمام الحسين شعارات قرآنية إسلامية بامتياز.


هذا المبدأ والمثال. أما في الواقع، نشهد اقتتال المسلمين فيما بينهم. فما هي الرسالة العاشورائية التي توجّهونها لهم؟


نحن نعتقد ان الإحياءات العاشورائية يجب ان تحمل عنوان حفظ الإسلام، وأن تشكّل رسالة سلام للإنسانية جمعاء. وأن تكون جاذبة لقلوب الناس إلى القضيّة الحسينية وإلى الإسلام عموماً. فالحسين ليس لديه دكّانٌ خاص، بل هو تابع لدين جدّه المصطفى (ص). وشعار أهل البيت عليهم السلام ان {حبّبونا إلى الناس وجرّوا إلينا كل

مودّة}. فكلّ الإحياءات أو الشعائر لا بد أن يحكمها هذا العنوان. أي أن تفتح قلوب الناس على الحسين، لا أن تنفّر الناس عن الحسين وقضيّته. هذا العنوان حاكم. وبالتالي، كل عمل يأتي به بعض الناس باسم الحسين والشعائر الحسينية، ويكون مثيراً للفتنة، وموجباً للفرقة بين المسلمين، أو لتنفير الناس من الحسين كبعض الأعمال

المقزّزة التي ينزل فيها الناس الى الشارع بعملية إدماء، أو ما يسمّى التطبير، فكلّها إحياءات لا نوافق عليها، لأننا لا نعتقد انها تخدم القضية الحسينية ولا تفتح قلوب الناس على الحسين (ع) ولا على النهضة الحسينية ولا على أهل البيت (ع).


 

س: هل صدرت فتاوى تمنع التطبير؟


ج: نعم بالفعل هناك الكثير من الفتاوى التي صدرت لتنهى عن التطبير، في الماضي وفي الحاضر. فالسيد محسن الأمين العاملي، منذ بداية القرن الماضي وقف في وجه التطبير وحرّمه، ووافقه جمع كبير من علماء فقهاء الشيعة. واستمر هذا المنحى الرافض لعملية الإدماء هذه الى زماننا هذا، فحرّمه السيد فضل الله في لبنان ، و

السيد الخامنئي في إيران وغيرهما من الفقهاء. لكن ثمة رأي فقهي آخر يدافع عن هذه الظاهرة. وأنا لست ضد هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بهذا العمل، لكني أقول لهم بكل محبّة: أنا أعرف أن الكثيرين لديهم مشاعر وعواطف طيّبة، وانا اقدّر مشاعركم، لكن هل هذا هو الأسلوب الأفضل في التعبير عن المشاعر؟! نزولكم الى

الشارع يعني أنه عمل شعائري له وظيفة وتريدون إرسال رسالة معينة. هل رسالتنا هي إخافة الناس ؟! هل بهذا العمل يتفهم الناس قضيتنا؟! هل هذا هو الأسلوب الأمثل للدعوة إلى الإسلام؟! بكل محبّة أقول لكم: لا أعتقد أن اسلوبكم هذا يخدم الإسلام ولا القضية الحسينية، بل إنّه ينفّر الكثير من المسلمين ومن غير المسلمين من

هذه القضيّة.


طبيعي أنّ العاطفة الجياشة على ما جرى للحسين هي شيء جميل ومبارك، ولا يمكن أن نفصل بين الإمام الحسين والعاطفة. فالشاعر المسيحي بولس سلامة في إحدى قصائده يقول أنا المسيحي أبكاني الحسين, فإذا كان المسيحي يبكي على الحسين، فحري بالمسلم، أيّا كان مذهبه، أن يبكي على الحسين. ونحن لا نعتقد ان انساناً

مسلماً يعي ما جرى في كربلاء، على سبط رسول الله، الذي قال عنه الرسول (ص) وعن أخيه الحسن: {الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة}، لا يمكن لمسلم إلا أن يذرف الدمع على ما جرى في كربلاء. لكن في الوقت عينه، علينا ألا نحوّل الإمام الحسين إلى حالة بكائية فحسب، ونغفل عن قيم النهضة الحسينية وهي قيم

إنسانية، ناهيك عن أن نحوّل عاشوراء إلى مشكلة مع المذاهب الإسلامية الأخرى. هذا ما نصرّ عليه في خطاباتنا.

 

 
س: لديكم كتابات كثيرة تجمع بين الدين والحب أو المحبّة. برأيكم الى اي مدى نحن في حاجة اليوم لهذا الكم من العاطفة والحب في الدين؟


نحن نقولها بكل أسف ومرارة، ان ثمة صورة معتمة مظلمة قُدّمت عن الإسلام وأنه دين القتل والسفك والذبح وكم الأفواه. والحال أن من يقرأ هذا الدين في نصوصه الأساسية، في تجربته الأساسية من خلال تجربة نبيّنا الأكرم (ص)، سيجد أن الإسلام هو دين المحبة والرحمة. وقد قالها بعض الأئمة من أهل البيت، وهو حديث م

روي عن رسول الله: {وهل الدين إلا الحب؟} .


في هذه المفهوم، فإننا معنيّون كمسلمين أن نبرز الصورة الحقيقية والمشرقة للإسلام. فالإسلام دين المحبة. والله هو الرحمة المطلقة، وليس جلّاداً. الله يحبّنا حتّى ونحن نعصيه. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. الله لا يقطع لطفه عنّا حتى عندما نغفل عنه، ورسوله أيضاً رسول الرحمة. لم يبعث رسول الله محمد (ص) كما

يقول بعض الناس بالذبح، هذا تزوير وافتراء على رسول الله. فالرسول الذي يقول عنه الله { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }، كيف له أن يقول {لقد جئتكم بالذبح}؟ هذا تزوير على رسول الله (ص).


لهذا أقول للمسلمين المتخاصمين من السنّة والشيعة: عليكم، إذا كنتم فعلاً تنتمون إلى هذا الإسلام وإلى هذا الرسول، عليكم أن تقرأوا تراثكم قراءة نقدية وأن تغربلوه من كل هذا الرّكام، ومن كل الأحاديث المكذوبة التي لا قيمة لها، والتي تشوّه صورة الإسلام وصورة النبي محمد (ص). نعم نحن معنيّون في هذه المرحلة بأن نظهر

هذا الجانب. حتّى علاقتنا مع الله يجب أن تُبنى على أساس الحب لا على أساس الخوف. فبعض الخطاب الديني يصوّر الله سبحانه وتعالى وكأنه جلّاد. علاقتنا مع الله تُبنى على أساس الحب لا على اساس الخوف. ولماذا نخاف من الله؟ وماذا في الله حتّى يخيفنا؟ هو الرحمة الشاملة والعدل المطلق، فهل نخاف من العدل؟


 

س: وهل الله في حاجة لفداء دائم بالأرواح والشهداء، حتّى نشهد هذا الكم من الإقبال على الشهادة في عصرنا؟


ج: الله سبحانه وتعالى ما كان ولم يكن ولن يكون بحاجة إلى دمائنا ولا أموالنا. نحن بحاجة الى الله تعالى، وهو الغني المطلق. وما يريده الله منّا هو أن نكون أناساً يتمثّلون أسماءه وصفاته. فهو الرحمة، فلنكن أصحاب رحمة. وهو العدل فلنكن العادلين. الله لا يريد قرابين تقدّم على مذبح دينه. ولا يريد حروباً تخاض باسمه، و

الأساس في الإسلام هو السلام. وتحيّة المسلمين هي السلام. والأصل في العلاقات بين البشر وفي العلاقات الدولية بين الدول هو السلام، أما الحرب فهي استثناء، عندما تُفرض عليك فمن الطبيعي أن تدافع عن نفسك، أو لغير ذلك من الإعتبارات المنطقية والضرورية. لذلك نحن معنيون بأن نبشّر برسالة المحبة والسلام بين

الناس. ونحن نعتقد أن الإسلام لا ينتشر إلا في ظل السلام.


وفي ضوء ذلك فنحن معنيون بأن نحقن دماءنا. والله سبحانه وتعالى يمقت رؤية دم الإنسان وهو يسيل، ويغضب لذلك. وثمة مبدأ في التشريع الإسلامي ألا وهو مبدأ عصمة الدم. فالدم له عصمة واحترام وقدسية، وهذا ما أكّده القرآن الكريم، عندما حرّم القتل وسفك الدم، واعتبر أن { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ

فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا }.


 

س: ماذا إذاً عن الشهادة؟


ج: هناك نوعان من الناس. هناك من يختار الإنتحار ليفجّر نفسه في مساجد المسلمين أو في وسط الأبرياء وأسواقهم بصرف النظر عن دينهم. وهذا إنسان مضلَّل، وهو ضحية عقل تكفيري مظلم، والذين يقتلون على يديه هم ضحايا. وهناك من ضاقت به السبل فيلجأ في سبيل الدفاع عن نفسه وتحرير أرضه إلى تحويل جسده إلى

قنبلة ، كما يحصل اليوم في فلسطين المحتلة. فلا تجد المرأة الفلسطينية او الشاب الفلسطيني، ليدافع عن بيته وارضه وعرضه ويرفع صوته، إلا ان يحمل سكيناً ويطعنه في ظهر المحتل أو يحمل قنبلة ويفجّر نفسه. هذا عمل استشهاد وفداء وبطولة. أما من يفجّر نفسه في الأبرياء، فهو يرتكب عملاً وحشياً، والمؤسف أنّ يقدّم ذلك

باسم الدين، والدين من هذا الفكر وهذا الفعل براء.


كان المسلمون يتحاشون في بعض الحالات عملية عسكرية معينة، خشية أن يذهب فيها ضحايا أبرياء. هذا هو ضمير المسلم، فهو يعلم أنّه حتّى الحرب المشروعة - في الإسلام - لها أخلاقياتها وآدابها. فقد كان النبي (ص) يوصي أمراء السرايا بأن {لا تقتلوا شيخاً كبيراً ولا طفلاً ولا تقطعوا شجرةً ..}. الحرب في الإسلام لها قيم.

ونحن نتعلم من مدرسة عاشوراء تلك القيم والاخلاقيات. فالإمام الحسين كما تذكر السيرة قد قدّم الماء وسقى بعض خصومه.


 

س: هيهات منّا الذلّة، هذا النداء الحسيني الشهير، ماذا يعني؟


ج: نحن نعتقد أن هذا الشعار هو من جملة الشعارات القرآنية رفعتها الثورة الحسينية والتي تحدثنا عنها، فالله تعالى يقول: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }. فالمجتمع الذي ينتمي الى الإسلام لا بد ان يكون مجتمعاً عزيزاً. بل نحن نؤمن بأن الإنسان، أياً كان مذهبه او دينه له الحق في أن يعيش كريما عزيزاً. الله خلقنا اعزّاء،

وحق العزّة والكرامة حق لكل إنسان. { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }، ولا يجوز لأحد إذلال الإنسان وسلبه هذا الحق. ونحن نعتقد ان كرامة الإنسان وعزّته هي قدس الأقداس. إنّ شعار هيهات منا الذلة هو شعار رفض الاستعباد وكل محاولات الإذلال، ولذا لا يجوز لأحد أن يستخدمه في سياق إذلال الآخرين. أو تخويفهم والتهويل عليهم،

بل على المسلم أن يرفض الذلّة لكل الناس.


 

س: ماذا عن الفرح في الإسلام؟


ج: الإسلام هو رسالة الحياة { أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }. من هنا فإن الفرح والمرح واللهو البريء الذي يقوم به الإنسان هو حاجة لكل إنسان ولا يمكن للإسلام أن يحرّمها. { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } وقال تعالى أيضاً: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل م

سجد}. فالتجمّل والتزيّن له باب كبير في الفقه الإسلامي. والإسلام ليس دين الكآبة، ولا هو دين المعقّدين نفسياً. فالإنسان المسلم لا بد أن يكون منشرحاً. المسلم يجب أن يكون لديه حسّ مرهف، وأن يتذوّق الجمال والشعر. وإننا من خلال جمال الكون نكتشف جمال الله سبحانه وتعالى. ومن هنا نجد في الإسلام فسحة كبيرة في

مجال الفن والمتعة المحلّلة.. حتّى في حالات العبادة والتواصل مع الله، فإنّ المسلم لا يبتعد عن الفرح لكنه فرح من نوع آخر. هو فرح روحي خالد، وإننا ندعو الجميع لاختبار هذا النوع من الفرح أو اللذة.

 


س: بين السياسة والإسلام، هل السياسة هي التي تضرّ بالإسلام أم العكس؟


ج: مع الأسف الشديد، السياسة كانت ولا تزال توظّف كل شيء في بازارها الرخيص. فلقد تم توظيف الدين ومذاهبه ورجالاته في بازار السياسة. أجل إنّ السياسة لا بد ان تستلهم من روح الدين، ومن أخلاق الدين. والسياسة التي تبتعد عن الأخلاق تتحوّل الى سياسة ظالمة جائرة، تتحول الى استبداد وعنف.السياسة تحتاج لروح،

روحها الأخلاق، والدين جوهره الأخلاق. لذلك نحن نعتقد أن الدين لا بد أن ينشر روحه وأخلاقه في كل هذه الحياة بكل أبعادها ولا سيما الاجتماعية والسياسة والاقتصادية. ولكنّنا في الوقت نفسه نقول للمؤمنين والمسلمين والمتديّنين: حذار من أن تسيروا خلف بعض الشعارات السياسية التي تعمل على توظيف الدين واستغلاله في

بازار السياسة. مشكلة الدين كانت هنا، أي في ان أصحاب المطامع وعلى رأسهم السلاطين عملوا على توظيفه واستغلاله، بل على تشويهه. نعم، إنّ ما أسمّيه في بعض كتاباتي بالعقل الكسروي أو العقل السلطوي قد عمل حتّى على تشويه المفاهيم الدينية وتفسيرها بما يخدم أطماعه ومصالحه، وعمل على استغلال رجال الدين

وتوظيفهم في بلاطه لكي يعطوه غطاء، بحيث إذا صالح يعطوه الغطاء للصلح، وإذا قاتل يعطوه الغطاء للقتال.


الدين يجب أن يتنزّه عن آفات السياسة، وعلماء الدين الذي يدخلون في بازار السياسة الرخيص، إنما يخونون الامانة التي عُهدت إليهم. هم يجب أن يكونوا البوصلة التي تصحّح، يجب أن يكونوا صمّام الأمان في الأمة. لكن مع الأسف الشديد، الكثير من رجال الدين هم أصحاب مصالح ومطامع سياسية، ضيقة، وفئويّة، وقد دخلوا

وأدخلوا الناس معهم في كهوف العصبيّات. وأخطر ما أُفسد به الدين، وأخطر ما تمّ تخريب الدين به هي العصبيات، وأخطرها العصبيات المذهبية. وللأسف ان واقعنا العربي والإسلامي تحرّكه العصبيات وليس الدين وتحركّه الغرائز أكثر مما تحركه القيم والمبادىء. قد يخيّل للكثيرين أنّهم يحملون راية الإسلام في الخط السنّي أو

راية الإسلام في الخط الشيعي، والحال أنهم قد لا يحملون سوى العصبيات والغرائز المذهبية، والعصبيات هي أحقاد تقتل وتدمر وتفترس الإنسان في نفوسنا، ونحن بحاجة لمن يعمر ويبني وينشر الحب والسلام في ربوع الحياة.

 

 

غنوى غازي – جريدة النهار الكويتية http://http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=601768&date=23102015

نُشرت في 23-10-2015 الموافق للعاشر من محرم 1437 هـ






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon