البعد التدبيري في شخصيّة النبي (ص) -3
الشيخ حسين الخشن
سادساً: خصائص الحكم التدبيري/ بين الظرفية والدائميّة
وهذه النقطة تطّل بنا على خصائص الحكم التدبيري، لنسأل هل الحكم التدبيري ظرفي ومؤقت أم أنه دائمي؟ وهل يحتاج إلى إمضاء الحاكم الجديد أم أنّه يبقى ساريَ المفعول إلى حين إسقاطه من قبله؟ وماهي علاقته بالحكم التشريعي؟
-
الأحكام التدبيريّة بين الظرفيّة والدائميّة
هل الحكم التدبيري ظرفي مرحلي أم أنه دائمي؟ أم أنّ منه ما هو ظرفي ومنه ما هو دائمي؟ وما هو الأصل في ذلك؟
يلاحظ وجود ثلاثة أقوال في المسألة:
القول الأول: وهو الذي يظهر من الإمام الخميني رحمه الله، وخلاصته أنّ الأحكام السلطانية الصادرة عن النبي (ص) أو الإمام (ع) تتسم بالدوام، قال رحمه الله تعليقاً على الحديث الوارد في الحكرة والذي أمر فيه النبي (ص) شخصاً بإخراج الطعام وعدم حبسه: "والظاهر أنّ أمره بالإخراج والنهي عن الحبس حكمٌ إلهيٌ شرعي لا مولوي سلطاني... بل لو كان حكماً سلطانياً منه (ص) فهو نافذ على الأمة إلى الأبد، وليست أحكامه كأحكام سائر السلاطين، بل أحكام سائر الأئمة (ع) أيضاً كذلك"[1]. نعم الأحكام التدبيرية الصادرة عن الحاكم غير المعصوم هي أحكام ظرفيّة ومؤقتة.
القول الثاني: وهو للشيخ المنتظري حيث يذهب إلى أنّ الحكم السلطاني منه ما يكون ظرفياً ومنه ما يكون دائمياً، يقول رحمه الله: " إنّ الأحكام السلطانيّة الصادرة عنه (ص) والأئمة (ع) على قسمين: بعضها أحكام خاصة موسمية، وبعضها أحكام سلطانية مستمرة، نظير ما احتملناه من قول النبي (ص): "لا ضرر ولا ضرار" من كونه حكماً سلطانياً له (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونظير وضع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة في تسعة وعفوه عما سواها على ما في بعض الأخبار [و] أفتى به المشهور"[2].
القول الثالث: وهو الذي يظهر من الشهيد الصدر وهو "أنّ نوعية التشريعات التي ملأ بها النبي (ص) منطقة الفراغ من المذهب[3] بوصفه وليَّ الأمر ليست أحكاماً دائميّة بطبيعتها، لأنها لم تصدر عن النبي (ص) بوصفه مبلغاً للأحكام العامة الثابتة، بل باعتباره حاكماً وولياً للمسلمين"[4].
ولعل السيد الطباطبائي من أنصار هذا الرأي، فهو يرى أن الأحكام الصادرة عن ولي الأمر هي أحكام متغيرة، ويعتقد رحمه الله أنه " لطالما كانت الحياة الاجتماعية في تحوّل مستمر يقطع المجتمع الإنساني أشواطها نحو التكامل، لذا فإنّ هذه الأحكام المتغيرة تتغير تدريجاً وتزول لتفسح المجال لما هو أحسن منها"[5].
ونقول تعليقاً على هذه الأقوال:
أولاً: أمّا القول الأول، فلا نوافق عليه، وذلك:
-
على أنّ العديد من الأوامر التدبيريّة الصادرة عنه (ص) كانت أحكاماً ظرفيّة، كما سيأتي في مسألة النهي عن أكل لحوم الحمر الأهليّة، وكذا في مسألة الهرولة في الطواف، وكذا في نهيه (ص) عن منع فضل الماء.. إنّ الإمام الصادق (ع) في هذه الموارد المنصوصة قد أشار إلى ظرفيّة الحكم الصادر عن رسول الله (ص) بتغيّر الظروف واختلاف الأحوال، فهذه الروايات بنفسها تمثّل خير شاهد على محدودية الحكم السلطاني بحدود بقاء ظروف جعله. أجل، هذه تدل على الأمر في الجملة لا بالجملة، فهي تصلح لردّ القول الأول.
-
إنّ الحكم السلطاني بطبيعته لا يقتضي التأبيد، وإنّما هو منوط بالمصلحة التي اقتضت إصداره، وهذه المصلحة قد تكون مؤقتة وتتغيّر بتغيّر الظروف وتبدل الزمان والمكان، وقد تكون مستمرة، فيستمر باستمرارها.
ثانياً: إنّ ما جاء في النقطة الثانية قد يكون شاهداً على صحة القول الثاني، وهو أن الأحكام السلطانية منها ما هو مؤقت ومنها ما هو دائمي، بيد أننا نستطيع ترجيح القول الثالث القائل إنّ الحكم التدبيري باعتبار أنّه لا يصدر عن النبي (ص) من موقع كونه مبلغاً للأحكام العامة الثابتة، بل من موقع كونه حاكماً وولياً للمسلمين، فيكون حكماً ظرفياً مرحلياً، ويراعي في تغيّره تغيّر المصلحة، والوجه في ذلك أنّ تأبيد الحكم السلطاني وإن لم يكن مستحيلاً، إلا أنّ الحكم السلطاني لو كان مؤبداً فهذا يعني أنّ مصلحة جعله هي مصلحة دائميّة، والمصلحة التي تكون كذلك تقتضي جعل حكم تشريعي مولوي، إذ يبعد خلو صفحة التشريع عن حكم كلي كهذا، وعليه، فلا نفهم أن تكون الأحكام السلطانيّة متسمة بالدوام. والقرينة المذكورة تعني أنّ ما دلّ على دوام الحكم واستمراره ناظر إلى الأحكام التشريعيّة، وأمّا الأحكام السلطانية والتدبيرية فلا يشملها ما دلّ على أنّ "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة.."[6]، وفي الحد الأدنى هو قاصر عن النظر إليها.
ولو جارينا التصنيف المذكور، أعني انقسام الأحكام التدبيرية إلى ما هو مؤقت وما هو دائمي، فيكون مردّ الفارق بينهما إلى اختلاف ملاك الجعل في الحكم التدبيري، فإن كانت مصلحة جعله باقية ومستمرة فمن الطبيعي أن يستمر ذلك الحكم، وأمّا إن لم تكن كذلك فتنتهي فاعلية الحكم ومحركيته بانتهائها.
-
استمرار الحكم السلطاني إلى حين إسقاطه ممن له ذلك
ثمّ إنّه وفي ضوء ما تقدم من أنّ الحكم السلطاني ليس دائمياً، بل هو ظرفي ومؤقت بطبيعته، فإنّ من يقرر انتهاء صلاحيته هو الحاكم الشرعي نفسه، فهو من يمتلك حق إصداره وتحديد مدته وإعلان انتهاء فعاليته، فيمكن للحاكم نفسه أو للحاكم اللاحق تغييره واستبداله بما يراه صلاحاً، ولكن السؤال: أنه في حال موت الحاكم الشرعي، فهل يحتاج بقاء الحكم السلطاني الصادر عنه إلى إمضاء من الإمام اللاحق أو أنّه يستمر ما لم يسقطه؟
وقبل الإجابة على السؤال نقول: إنّ محلّ الكلام هو في الحكم التدبيري الصائب[7] أو الصادر عن أهله وكان في محله، وأما إذا كان الحكم جائراً أو خاطئاً فسقوطه حينئذٍ لا يحتاج إلى إسقاط الحاكم الجديد، لأنه ساقط من أصله ولا شرعيّة له. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الحكم التدبيري إذا كان مؤقتاً أو منصباً على موضوع معين فإنه ينتهي بانتهاء أمدِه، فلا حاجة لتدخل الإمام أو الحاكم الجديد مع كون الحكم التدبيري السابق مؤقتاً وقد انتهى أمده.
ثمّ إنّ الذي ينطلق به الحاكم في إمضاء الحكم الصادر عن سلفه أو تجميده وإلغائه هو المصلحة العامة، فالحاكم دون سواه هو الذي يقرر انتهاء المصلحة من خلال الاعتماد على آراء المجالس الاستشارية وذوي الاختصاص، ولا يترك ذلك إلى عامة الناس.
بالعودة إلى السؤال المطروح حول الحاجة إلى إمضاء الحاكم الجديد للأحكام التدبيرية الصادرة عن الحاكم السابق، نقول:
ربما يقال: إنّه يحتاج إلى إمضاء الحاكم الجديد، لأنّه بموت الحاكم لا يبقى لأحكامه السلطانيّة فاعليّة، بل يسقط وجوب إطاعتها، فموته أسقط وجوب إطاعته، وأسقط فاعلية حكمه، إلا إذا أمضاه الحاكم الجديد، كما في مسألة إحياء الأرض، وقد نقل الشهيد الأول عن أكثر الأصحاب بأنه لا يجوز لأحد الإحياء إلا بإذن الإمام[8]، لأنّ قول النبي (ص): "من أحيى أرضاً ميتة فهي له" هو سلطاني أو تصرف بالإمامة على حد تعبيره. وهذا ما يدل عليه قول القرافي: "وكل ما تصرّف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام، ولأنّ سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك"[9].
ولكنّنا نقول: إنّ الأرجح والأقرب في المقام، أنّ الحكم التدبيري الصادر من أهله ما دام موضوعه قائماً ولم يكن مقيداً بفترة زمنية معينة فهو يستمر ويبقى ما لم يسقطه الحاكم الفعلي، والوجه في رجحان ذلك وقربه:
أولاً: إنّ ذلك ممّا يدلّ عليه الارتكاز العقلائي، فالعقلاء ينظرون إلى الحكم والسلطة باعتباره استمراراً، والقوانين التي تصدرها الحكومات تبقى في نظرهم سارية المفعول ونافذة، ومنشأ هذه الارتكاز العقلائي بل السيرة العقلائية هو الحؤول دون حصول فراغ قانوني من جهة، ودون إيجاد إرباك في المجتمع وفي علاقة الناس مع السلطة، لأنه لو احتاج نفوذ الأحكام السلطانية التدبيرية الصادرة والمعمول بها إلى إمضاء الحاكم الجديد، لأوجد ذلك إرباكاً كبيراً، ولأوقع الناس في الحرج الشديد. وأمثال هذه الارتكاز العقلائي المتصل بنظم حياة المجتمع هو من الارتكازات التي يطمأن بإمضاء الشارع لها.
باختصار: إنّه لا حاجة ولا ضرورة في نظر العقلاء إلى إذن الإمام أو الحاكم الجديد إلاّ إذا كان الحكم التدبيري السابق مؤقتاً وقد انتهى أمده، أما إذا لم يكن مؤقتاً فانتهاء فاعليته لمجرد موت الحاكم السابق ليس عقلائياً، وما جرت عليه سيرة العقلاء في سن القوانين، أنّ القانون يبقى ساري المفعول ومستمراً إلى أن يصدر تشريع جديد بنسخه أو تعديله، أو تغييره ممن يملك ذلك.
ثانياً: لا يخفى أنّه قد صدرت الكثير من الأحكام التدبيرية عن النبي (ص) وعن أمير المؤمنين (ع) وعن سائر الأئمة (ع) كما سيأتي بعون الله، فلو احتاج نفوذ تلك الأحكام إلى إمضاء الحاكم الجديد، لكان اللازم:
-
على كل الذين قد شملتهم الأحكام السلطانية السابقة أن يتوقفوا عن العمل بموجبها حتى يحرزوا إمضاء الإمام الجديد، فمن صدر لهم إذن سلطاني بإحياء الأرض مثلاً يفترض بهم ترك العمل بها فور موت السلطان إلى أن يصدر إمضاء من الحاكم الشرعي الجديد، وهذا مما لم يعهد وقوعه، ولو حصل لنقل إلينا في الأخبار والتواريخ، مع أننا لا نجد فيها شيئاً من ذلك، فلو كان لبان.
-
وكان اللازم - أيضاً - على الإمام الجديد نفسه وفور تسلّمه زمام السلطة أن يصدر تعميماً بإمضاء أو إلغاء ما صدر عن سابقه، وهذا ما لم يُعهد أيضاً، أجل، ما كان يحصل هو صدور حكم بعزل والٍ معين، أو تعديل قانون أو تغيير بعض القوانين التدبيريّة إمّا لتغيّر موجباتها وانتفاء المصلحة الداعية إلى إصدارها، أو لارتفاع موضوعها. وحتى عندما يعزل والٍ معين، كان يُعهد إليه بإكمال مهمة تصريف الأعمال المناطة به إلى أن يأتي الوالي الجديد لاستلام المهام بدلاً عنه[10].
ثالثاً: إنّ هذا - أيضاً - مما يقتضيه أصل الاستصحاب، فإنّ الحكم الولايتي إذا فرضنا أنّه صدر من أهله وفي محله فهو حجة وواجب الإطاعة دون شك، فإذا شككنا بسقوطه عن الحجيّة وانتفاء فاعليته بمرور الأيام أو تغيّر الحكام، فإنّ مقتضى الإستصحاب هو بقاؤه على الحجية.
ومن الطبيعي أنّ الحكم في هذه الحالات هو للإمام المتأخر، فهو الذي يلغي الحكم السابق، وهذا ما دلت عليه الأخبار الواردة بعنوان الأخذ بقول الإمام الحي أو بقول الأحدث[11].
سابعاً: نطاق الحكم التدبيري وحدوده
قد عرفنا أنّ الحكم التدبيري هو الحكم الصادر عن النبي (ص) لا بصفته مبلغاً لشرع الله تعالى، بل بصفته حاكماً وقائداً يدير أمور البلاد ويسوس العباد، ومن الضروري في هذه الوقفة أنْ نتعرّف على نطاق الحكم التدبيري وحدوده.
وهذا ما نوضحه في هذا المحور من خلال النقاط التالية:
-
وظائف الحاكم الشرعي
في النقطة الأولى نتطرق إلى أهم الوظائف التي أناطتها الشريعة الإسلامية بالحاكم الشرعي، وذلك من خلال العناوين التالية:
-
مع الفقهاء في وظائف الحاكم
يظهر من بعض الفقهاء أنّ دائرة الحكم التدبيري هي: "موارد الضرورة وتزاحم الأحكام والتي يدور بقاؤها مدار الضرورة التي أوجبتها .. فهذه الأحكام بطبيعتها تقتضي التغير"[12].
وقال في محل آخر: "إنّ الأحكام السلطانية التي تصدر عن صاحبها يجب أن تكون لتنفيذ الأحكام الشرعية، ولترجيح بعضها على البعض في موارد تزاحم الأحكام والحقوق، فلا ترفع اليد بهذه الأحكام عن الحكم الشرعي بتاتاً، وإنّما ترفع بها اليد عن الحكم المهم للأخذ بالأهم حسب تشخيص الحاكم بلزوم ترك حقٍّ أو جهة لحفظ حقٍّ أو جهة أهم"[13].
وذكر فقيه آخر: أنّ ما ثبت للفقهاء هو أمران:
"الأوّل: الجهد والاجتهاد في كشف هذه الأحكام عن أدلتها.
الثّاني: تطبيقها على مصاديقها وتنفيذها بما هو حقّها، والأول هو الإفتاء، والثّاني هو الولاية والحكومة"[14].
أقول: المستفاد من هذه الكلمات أنّ للفقيه عدة صلاحيات، أما صلاحية استنباط الحكم الشرعي من مصادره الأصلية، وكذلك صلاحية القضاء، فهما ثابتتان للفقهاء دون شك ولكنهما خارجتان عن محل البحث في الحكم التدبيري، فتبقى الصلاحيات التالية:
أولاً: الحكم المجعول في موارد الضرورة، كما ذكر.
ولكننا نتحفظ على ذلك، فالحكم المجعول في موارد الضرورة قد يكون حكماً تشريعياً وليس تدبيرياً، فحرمة أكل الميتة، حكم شرعي، وهو يرتفع في المخمصة فيكون الأكل حلالاً، والحلية في هذه الحالة ليست حكماً تدبيرياً بل هي حكم شرعي ثابت بنص الكتاب وهو قائم ما دام موضوعه ثابتاً ومتحققاً.
ثانياً: صلاحيّة ترجيح أحد الحكمين على الآخر في موارد التزاحم.
وهذا يصحّ في خصوص موارد التزاحم الاجتماعي، وستأتي الإشارة إليها.
ثالثاً: دوره في تنفيذ الأحكام الشرعية وتطبيقها، ومنع تجاوزها.
وهذا أيضاً أمر لا شك فيه، فإنّ ولاية الحاكم الشرعي وأياً تكن سعتها فهي لا تمنحه سلطة على تغيير الأحكام الإلزامية الثابتة في الشريعة من الواجبات والمحرمات، فليس من حق الحاكم الشرعي تحليل الحرام أو تحريم الحلال، بل هو مسؤول عن تطبيق شرع الله لا هدمه وتغييره، نعم ثمة كلام عن سلطته على تجميد أحكام الشريعة كما سيأتي.
رابعاً: دوره وصلاحيته في أن يصدر الأوامر والمقررات الإجرائية التي تدعو إلى تطبيق القوانين الشرعيّة تحت طائلة المسؤولية.
ولكن ربما يقال: إنه لا يجب على الوليّ أن يصدر أحكاماً سلطانية تؤكد على امتثال الأحكام الشرعية، إذ لا دليل على الوجوب، وإنّما دوره هنا دور التطبيق والمراقبة فقط. إنّ الأحكام هي تشريعات إلهية يستنبطها الفقهاء من مصادرها ويتم إبلاغها للناس، وأمّا الحكومة فدورها هنا دور التنفيذ.
ولكن يمكن القول: إنّه ليس ثمّة مانع في أن يصدر الحاكم مقررات تلزم الناس بامتثال تلك الأحكام الشرعية التي استنبطها الفقيه، بحيث يعمل على تحويل الأحكام من مجرد فتاوى إلى قوانين يلزم بها الناس.
وكيفما كان، فما ذُكر ليس هو كلّ صلاحيات الحاكم الشرعي في مجال التدبير، وتوضيح الموقف من صلاحيات الحاكم هو ما نتحدث عنه فيما يلي:
-
المختار في وظائف الحاكم وصلاحياته
إننا نرجح أن صلاحيات ووظائف الحاكم الشرعي بصفته حاكماً لا بصفته مفتياً أو قاضياً هي على الشكل التالي:
الوظيفة الأولى: وهي سلطة سدّ حالات النقص الفردي التي يؤدي تركها إلى ضياع الأفراد أو الأموال، وهو ما يعرف بالأمور الحسبيّة التي يعلم بعدم رضا المشرِّع الحكيم بإبقائها بدون رعاية أو تركها بدون ولي، فالحاكم هنا يسدد ويرعى ويشرف من خلال أجهزة خاصة، ويدخل في ذلك الولاية على الأيتام والقُصَّر الذين لا ولي لهم، وكذلك الحال في إدارة شؤون الأوقاف الخاصة والعامة التي لا ولي لها ويخشى من تلفها وضياعها وأن تتناهبها الأيدي. وفي هذا الإطار تدخل ولايته على الممتنع وسلطته على منع التعنت أو التعسف في استخدام الحق، فللحاكم أن يردعه ولو بإلغاء ولايته ومالكيته، ومن هنا فإن بعض الفقهاء[15] يرى التوسعة في صلاحيات الحاكم الشرعي، وشمولها لسلطة إجراء الطلاق جبراً على الزوج المتعنت والرافض إعطاء الزوجة حقوقها ومنها الحق الجنسي. واللافت أن بعض الأخبار عدّت ذلك وظيفة السلطان، فقد روى في قرب الإسناد قال: " وسأله صفوان - وأنا حاضر - عن الايلاء؟ فقال: " إنما يوقف إذا قدمته إلى السلطان، فيوقفه السلطان أربعة أشهر، ثم يقول له: إما أن تطلّق وإمّا أن تمسك"[16].
الوظيفة الثانية: مهمة الإشراف على تنفيذ القوانين ومراقبة حسن تطبيق المقرارات والتشريعات والسياسات الدفاعية والأمنية والاقتصادية والمالية والعمرانية والقضائية، وقد عرف عن الإمام علي (ع) أنه كان يشرف على عماله وولاته ويراقبهم ويتابع ما يبلغه عنهم، وقد يُرسل لهم الرسائل التنبيهيّة والإرشاديّة[17].
الوظيفة الثالثة: إنّ للحاكم وظيفة إجرائية[18] في نطاق تطبيق القوانين وأحكام القضاء وتنفيذ المقررات وإجراء الحدود وحفظ النظام العام، وهذه السلطة تتيح للحاكم الشرعي صلاحيّة حمل الناس على امتثال القانون تحت طائلة المسؤوليّة، فالسلطة بهذا المعنى هي الجهاز الإداري المكلف بتطبيق القوانين، سواء كانت قوانين تشريعية مولوية أو سلطانية تدبيرية، وهذه السلطة ثابتة للنبي (ص) والإمام (ع) دون شك، وهي ثابتة للحاكم الشرعي غير المعصوم أيضاً بناءً على القول بولاية الحاكم (بصرف النظر عن شخصية الحاكم ومواصفاته وآلية تعيينه هذا الحاكم تنصيباً ونصاً عليه أو انتخابه من قبل الأمة ) إمّا في دائرة واسعة جداً وهي ما يعبر عنها بالولاية العامة، أو في دائرة لا تصل إلى تلك السعة والشمولية، وهي ما يعبر عنه بالولاية في الأمور العامة، وذلك بحسب ما يؤمن الفقيه به ويراه من سلطةٍ تنفيذيّة منحها الشرع للحاكم، وهي في كلا الصورتيْن أوسع دائرة من سلطته في الأمور الحسبيّة التي مرّ ذكرها أولاً.
الوظيفة الرابعة: وهي وظيفة إجرائية أخرى للنبي (ص) وللإمام (ع) ومن ثمّ الحاكم العادل، وهي صلاحيّة وضع أو إقرار السياسات العامة للدولة في المجالات الدفاعية والأمنية والاقتصادية وغيرها، وإصدار أحكام تدبيريّة تنظيميّة مستجدة تقتضيها مصلحة العباد، وانتظام شؤون البلاد، فيصدر أحكاماً وقوانين ملزمة، كما في قوانين السير والبناء والتجارة والملاحة والصيد والتجنيد الإجباري، ويمكن أن نعتبر ذلك منطقة فراغ على الصعيد الإجرائي وليس "التشريعي" ويناط أمر اتخاذ القرار والإجراء المناسب فيها بيد الحاكم، ولعلّ المحقق النائيني ناظر إلى هذه الوظيفة في قوله: " فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات، لمصلحة الجماعة وسدّ حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية "[19]، وهذا - سواء أسميناه فراغاً تشريعياً أم لم نسمه - يعبر عن مرونة في التشريع الإسلامي بحيث ابتعد عن إقرار قوالب ثابتة في القضايا ذات الطابع الإجرائي المتحرك والمتغير، وإذا أردنا ذكر نموذج لذلك فبالإمكان أن نذكر مثال الجهاد الابتدائي، فإنّه - على القول بشرعيته في عصر الغيبة - بيد الحاكم الشرعي، وكذا الحال في مستتبعات الجهاد من التعامل مع الأسرى، أو تحديد مقدار الجزية[20].
وهذه الوظائف المناطة بالحاكم - بالإضافة إلى ما سيأتي - تعطي الولاية أهميّة خاصة، ما يجعلنا ندرك مغزى ما جاء في الأخبار من أنّ الولاية هي أهم أركان الدين، ففي صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والْحَجِّ والصَّوْمِ والْوَلَايَةِ. قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: وأَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْوَلَايَةُ أَفْضَلُ، لأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، والْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ.."[21].
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الوظائف الأربع المذكورة ليست حكراً على المعصوم، بل ليس ثمة ما يمنع من الالتزام بإعطائها للحاكم، وقد قال بها كثيرون، كما سلف في ثنايا الكلمات. كما ويحسن التنبيه إلى أنه ليس بالضرورة أن يتصدى الحاكم بنفسه للقيام بها، وإنما من خلال أجهزة خاصة ومجالس شورية أو مؤسسات تعنى بذلك كما تقتضيه طبيعة الأمور وانتظامها.
وإنما الكلام الذي علينا أن نتوقف عنده هو إعطاء الحاكم صلاحية إصدار تدبيرات في إطار وضمن نطاق المساحة التي ملأتها الشريعة الإسلامية بالأحكام، أكانت إلزامية أو ترخيصية.
وهذا ما نخصص له النقطة الثانية التالية:
-
دور الحاكم في التصرف في الأحكام الشرعيّة
خلاصة التساؤل المطروح هنا: هل ينحصر دور الحاكم في أن يصدر حكماً تدبيرياً في الدائرة التي تقتضيها حركة السلطة ومقتضياتها فحسب؟ أو يمكنه إصدار حكم تدبيري حتى في الدائرة التي ملأتها الشريعة بأحكم تشريعية غير إلزامية، وهي ما تعرف بمنطقة الفراغ التشريعي؟ أو أنّ بإمكانه إصدار أحكام كذلك حتى في الدائرة التي أصدرت الشريعة فيها أحكاماً إلزامية؟
ثمّ إنّ الحديث عن دور الحاكم في إصدار أحكام تدبيريّة في نطاق الدائرة التي ملأتها الشريعة بالأحكام الشرعية أكانت ترخيصية أو إلزامية، تارة ينصب على صورة وجود تزاحم بين الأحكام، وأخرى على صورة عدم تزاحمها، ونبدأ بصورة التزاحم، ثم ننتقل إلى صورة عدم التزاحم لنبحث فيها تارة بلحاظ الأحكام الترخيصية وأخرى بلحاظ الأحكام الإلزامية، فالبحث في مقامين:
المقام الأول: دور الحاكم في دائرة التزاحم[22]
أمّا في دائرة الأحكام الإلزامية المتزاحمة، والتي مرّت الإشارة إليها في كلام بعض الفقهاء، فنقول في توضيحها: إنّ مورد التزاحم على نوعين:
النوع الأول: تزاحم الأحكام الأولية فيما بينها والناشىء عن عدم قدرة المكلف عن امتثالهما معاً، وهذا على صنفين:
الصنف الأول: موارد فردية: وللفرد فيها دور تشخيص التزاحم، ودور تشخيص الأهم من المهم، كما في المصلي الذي يتزاحم وقت صلاته مع وجود غريق بجانبه على وشك الهلاك، فله أن يشخص نوع التزاحم بين إقامة الصلاة وإنقاذ الغريق، ويقرر من خلال اجتهاده أو تقليده أنّ إنقاذ الغريق أهم من إقامة الصلاة.
الصنف الثاني: موارد اجتماعية أو نظامية: وللفقيه الولي وحده تشخيص وقوع التزاحم، ودور تشخيص الأهم من المهم وتحديد الأولويات على ضوء ما يقدمه إليه أهل الخبرة والمتخصصون، ولا يترك الأمر في هذه الحالة لأفراد المجتمع، وإلا لعمت الفوضى والاضطراب، ومن أمثلته المعروفة ما لو دار الأمر بين هدم مسجد بهدف شق طريق عام يحل مشاكل المارة من الناس ويمنع من الحوادث الدموية الكثيرة، أو إبقاء المسجد مع ما يترتب على ذلك من متاعب ومصاعب للناس، فهنا يوازن الفقيه بين الأمرين ويأمر بما هو أصلح وأمره يكون نافذاً ومطاعاً، ويرى بعض أساتذتنا أن هذا هو محط نظر الإمام الخميني في قوله: "إنّ الحكم الولائي (الولايتي) يتقدم حتى على الأحكام الأوليّة"[23]. ويبدو أنّ فتوى السيد الخميني رحمه الله بتجميد الحج وإيقافه عدة سنوات للحجاج الإيرانيين كان من هذا القبيل، فهو قد رأى أن مفسدة تعرض الجمهورية الإسلامية للإهانة وتعرض الحجيج أنفسهم للإذلال والمخاطر هي أهم من مفسدة ترك الحج.
النوع الثاني: تزاحم[24] الأحكام الأولية مع الأحكام الثانوية، وهذا على صنفين أيضاً:
الصنف الأول: التزاحم الفردي، وهو ما لو تزاحم حكم أولي مع آخر ثانوي لكن أوكل أمر تشخيصه إلى المكلف، من قبيل التزاحم بين وجوب الصوم مثلاً وبين الضرر[25] أو الحرج، فهنا يكون المرجع في هذا التزاحم هو المكلف نفسه، لأن إثبات كون الصوم ضررياً عليه أم غير ضرري أو كون الوضوء حرجياً عليه أم غير حرجي إنما هو بيد المكلف نفسه، فهو أدرى بحالته وظروفه من غيره.
الصنف الثاني: التزاحم بين حكم أولي وحكم ثانوي عام يكون تشخيصه بيد الحاكم، كما لو فرض أن العمل المستحب أو المباح أصبح موجباً لهتك الدين أو المذهب فهنا يمنع من الإتيان بهذا العمل، والمرجع في تحديد الهتك ليس المكلف ولا الفقيه غير المطلع على أصداء العمل وتداعياته في الأوساط العالمية، وإنما المرجع في ذلك هو الحاكم الشرعي البصير والمطلع على أوضاع الزمان، فهو المخول بتشخيص المصلحة أو المفسدة العامة.
وبعد أن حكم العقل بأنه عند التزاحم بين الأهم والمهم فيقدم الأهم على المهم، فإنّ الدليل على أنّ الذي يبتّ في الأمر ويحدد الأهم من المهم ويُلْزِمُ الأطراف بالأخذ بما يراه إنما هو الحاكم الشرعي دون سواه هو ما يلي:
أولاً: مطلقات ما دلّ على إطاعة ولي الأمر، كما سنذكر.
ثانياً: إنّ المسألة تتصل بالنظام العام، وهذا الجانب كما لا يمكن إهماله، فإنه لا يمكن إيكاله لعامة الناس، لأنّ ذلك يؤدي إلى الهرج والمرج.
ثالثاً: إنّ ذلك يستفاد من سيرة النبي (ص) والأئمة (ع)، كما في مسألة إسقاط الحدّ في حالة الحرب خشية أن يلتحق الشخص بالعدو ويرتد عن الإسلام، ففي معتبرة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام أنه قال: "لا أقيم على رجل حداً بأرض العدو حتى يخرج منها مخافة ان تحمله الحمية فيلحق بالعدو "[26]. وهكذا ما فعله النبي (ص) من الأمر بقطع شجرة سمرة لما كان يلحق بقاؤها من ضرر على الأنصاري، فالمثالان هما من موارد التزاحم كما لا يخفى.
المقام الثاني: دوره في التصرف في الأحكام الشرعيّة
ماذا عن دور الحاكم في دائرة الأحكام الشرعيّة؟
لا يخفى أنّ الحاكم - على أهمية دوره والصلاحيات المناطة به - لم يُعط صلاحيّة تغيير أحكام الشريعة أو إلغائها رأساً، نعم، ثمة صلاحية أعطيت للنبي (ص) وهي نسخ الأحكام، وهذه الصلاحية أعطيت له (ص) لا بصفته حاكماً بل بصفته رسولاً، والرسول في الواقع إنّما يبيّن ويحدد المنسوخ من أحكام الشريعة، وهذا جزء من مهمة بيان الشريعة نفسها، وكذلك فإنّ للإمام (ع) - عند مدرسة أهل البيت (ع) - أن يبين الناسخ من الناسخ، استناداً إلى ما ورثه عن جده رسول الله (ص)، وأما فيما عدا النسخ فلا يحق لأي كان تغيير الأحكام الشرعية، لأنّ تغييرها هو من التقول على الله تعالى، وتغيير دينه، والابتداع فيه، وكل ذلك مما نهت عنه نصوص الشريعة، كما لا يخفى. وبناءً عليه فما يعقل الحديث عنه في هذه الدائرة هو وجود دورٍ ما للحاكم في نطاقين:
الأول: التصرف في الأحكام الترخيصية، بالإلزام بفعلها أو تركها.
الثاني: تجميد العمل بالأحكام الإلزامية لمصلحة معينة.
وهذا ما نتناوله من خلال البحثين التاليين:
البحث الأول: صلاحيات الحاكم بملء منطقة الفراغ التشريعي
وأما بالنظر إلى النطاق الأول، أعني دوره في إصدار أحكام تدبيرية فيمكننا القول بادئ ذي بدء:
إنّ إعطاء الحاكم الشرعي صلاحية ملء الفراغ التشريعي إذا ثبت بالدليل هو أوسع صلاحيةٍ تعطى للحاكم، إذ إنّ الأمر هنا لا يقتصر على موارد التزاحم، بل يكفي وجود حاجة اجتماعية أو مصلحة عامة للأمة تدفع نحو إصدار الحاكم أمراً بالإلزام في هذه الدائرة.
ولا يسعنا أن نمرّ مرور الكرام حول هذه القضيّة، بل لا بدّ أن نتوقف عندها ملياً لنحدد المراد بمنطقة الفراغ التشريعي، وهل يعقل أن يوجد في الإسلام فراغ تشريعي، بمعنى وجود موضوعات ليس فيها حكم صادر عن الله أو رسوله أو أئمة أهل البيت (ع)؟! ثم من هو المؤهل لملء هذه المنطقة؟ وما هي حدود هذا الفراغ؟
-
الفراغ أو العفو ليس نقصاً
إنّ المطلع على النظرية المشهورة عند علماء الشيعة الإمامية يدرك أنّ القول بوجود فراغ تشريعي، مخالف للكليّة المسلَّمة عند المخطئة، بل هي من أصولهم: "إنّ لله في كل واقعة حكماً يستوي فيه العالم والجاهل"، وعليه فما المقصود بالفراغ التشريعي؟
يجيب الشهيد الصدر بأنّ منطقة الفراغ " لا تدل على نقصٍ في الصورة التشريعية أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأنّ الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنّما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء وليّ الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف، فإحياء الفرد للأرض مثلاً عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها لمقتضيات الظروف.."[27].
باختصار: إنّ المدعى هو أنّ من صلاحية الحاكم الشرعي في نطاق الأحكام الترخيصية (وهي دائرة المباحات بالمعنى الأعم[28]) إلزام الأمّة بفعل مباح أو تركه وفق ما يراه من مصلحة، كأنْ يصدر أمراً بمنع الصيد في أمكنة معينة أو أزمنة محددة ونحو ذلك مما هو مباح بالأصل.
وقد أطلق البعض[29] على منطقة الفراغ "منطقة العفو"، وذلك اقتباساً مما ورد في حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإنّ الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا: {وما كان ربك نسيا} [مريم: 64]"[30]. وهذا الاصطلاح ينأى بالمسألة عن التوهم المتقدم كلياً.
لكنّ الحديث لو تمّ سنداً وأمكن الوثوق به فهو يشكّل دليلاً على وجود فراغ تشريعي حقيقي لم يملأه الشارع بأي حكمٍ تحليلاً وتحريماً، وهو ما تمّ نفيه فيما تقدم. ولذا وقع الحديث عن العفو في مقابل التحريم والتحليل.
أجل، ثمّة احتمال آخر في الحديث، وهو أنْ يكون ناظراً إلى بيان أصالة الإباحة الظاهرية التي موردها الشك في التحليل والتحريم، فالعفو هو عند عدم ثبوت التحليل والتحريم.
وقد اتضح أنّ المقصود بالفراغ التشريعي، أنّ الإسلام لم يملأ كل الموضوعات والوقائع بأحكام إلزامية وجوبية أو تحريمية، بل ترك مساحة كبيرة خالية من أي حكم ملزم، وهي مساحة المباحات بالمعنى الأعم، وجعل لولي الأمر صلاحية ملئها وفقاً لمقتضيات الظروف وتشخيص المصالح والمفاسد.
ثمّ إنّ المساحة التي لم يملأها الشارع بالأحكام الإلزامية تارة يكون حكمها الأولي معلوماً وهو الإباحة مثلاً، وأخرى يكون حكمها غير معلوم ومشكوك، كما في بعض الأمور المستجدة، والتي تجري فيها أصالة البراءة والحليّة.
ما هو الدليل على وجود هذه المنطقة؟
والدليل على وجود هذه المنطقة هو ملاحظة أحكام الشريعة نفسها، فإنّ الملاحظ لذلك سيجد أنّ مساحة المباحات كبيرة جداً، بل هي تعدل الإلزاميات بأضعاف كثيرة، بينما الوجوب والتحريم هو استثناء، قال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزيلا فإنّه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به..} [الأنعام 145]، هذا بلحاظ الأطعمة، وفي غيرها فإنّ الأمر كذلك، ولعلّ غلبة المباحات الواقعيّة هي السبب في أنّ الشريعة جعلت الأصل في الأشياء هو الإباحة والحليّة في حال دار الأمر بين الوجوب أو الإباحة، أو بين الحرمة والإباحة، مما دلّ عليه قوله (ص): "رفع عن أمتي ما لا يعلمون"[31]، وقوله (ع): "كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي"[32].
-
ما الهدف من منطقة الفراغ؟
وأما الهدف من وجود منطقة الفراغ أو العفو فيظهر في جانبين، فمن جهة أولى، فإنّ وجود منطقة فراغ يدلل على السعة والتيسير والرحمة التي يتميز بها التشريع الإسلامي، ويشهد لذلك ما روي عن أمير المؤمنين (ع): "إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها، رحمة من الله لكم فاقبلوها"[33]. ومن جهة أخرى، فإنّ وجود منطقة فراغ بهذا المعنى مع إعطاء صلاحية للحاكم بملئها هو أمر في غاية الأهمية ويمثل عنصراً إيجابياً لصالح الشريعة، لأنه يؤشر على وجود مرونة في التشريع نفسه تسمح له بمواكبة التطورات والتعامل مع المتغيرات والعناوين الطارئة. وبعبارة أخرى: فإنّ ذلك يعكس العنصر المتحرك في الشريعة الذي يجعل لها قابلية مواكبة المتغيرات[34].
-
من الذي يملأ منطقة الفراغ؟
مما لا ريب فيه أنّه في عصر تواجد المعصوم، فإنّ سلطة التشريع في منطقة الفراغ هي له، قال تعالى: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء 105]، وأمّا في عصر الغيبة، فإنّ سلطة التشريع في منطقة الفراغ تكون للفقيه البصير، فالفقيه هو الذي يحدد تغيّر الظروف والعناوين الموجبة لتغير الحكم، مع الاستعانة بالخبراء وأهل الاختصاص ليصدر حكمه عن رؤية واضحة.
ربما يقال: إنّه لا موضوعية للفقيه في إصدار الأحكام التدبيرية في منطقة الفراغ، فيمكن لجهاز السلطة بشكل عام استصدار أحكام في منطقة الفراغ وفقاً للمصلحة العامة، وتكون قونينها ملزمة ولا يجوز التمرد عليها.
ولكنه يقال: إنّ الأحكام التدبيرية لا بدّ أن تصدر عن جهة تراعي المصلحة العامة من جهة، وتعي حدود الشريعة ومقاصدها من جهة أخرى، لأنه سيأتي أنّ الحكم التدبيري لا بدّ أن يستقي من تلك المقاصد الكلية، ولذا يكون رأي الفقيه أو إشرافه ضرورياً في مجال إصدار التدابير.
-
الدليل على دور الحاكم في ملء منطقة الفراغ
والسؤال الأهم: أنه ما الدليل على أنّ الشريعة أعطت صلاحية للحاكم في هذه الدائرة ليلزم الناس بما هو مباح في الأصل عليهم؟
ربما يقال: إنّه لا يمكن الالتزام بأنّ للحاكم مثل هذه الصلاحية فهو ليس مخولاً أن يغير أحكام الشريعة ولو كانت أحكاماً ترخيصيّة، والله تعالى يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه[35]، لأنه وكما قال بعض الفقهاء المعاصرين "إذا لم تكن للأئمة (عليهم السلام) ولاية التشريع بعد اكتمال الشريعة من قبلهم، فكيف يمكن أن تكون الولاية التي يعطونها للفقهاء لها هذه السعة والصلاحية التي تتقدم على الأحكام الكليّة الإلهية أو تعطلها مع أنّها جعلت لأجلها!! وليست الحكومة بذاتها هدفًا للشريعة حتى تكون الولاية بهذا الشكل، بل الحكومة جعلت في التشريع الإسلامي لتحكم بالإسلام وأحكامه، لا باسم الإسلام فقط وإن عطّلت بعض أحكامه أو جلّها، فإن تفسير الولاية بالعناوين التي تؤهلها للحكم والحكومة بمعنى الدولة، سوف تتلاشى معها بشكل تدريجي الأحكام، وتضيع الفرائض بنسبة من الضياع، فتفقد تلك الأحكام قداستها وقيمتها، وتصبح القيمة لعنوان الدولة مهما كانت أحكامها ما دامت تحكم باسم الإسلام"[36]. ويقول: "وكذلك الحال في المباحات التي لم يجعل لها الشارع أحكامًا إلزامية تسهيلًا ومنَّـةً، فإنه لا يجوز إلتماس العناوين الملزمة لها، فإن الله تعالى رفع التسعة في حديث الرفع وإن كان في مواردها أحكام واقعية، تسهيلًا على العباد ومنَّـةً منه عليهم، ورفع الحرج عن الواجبات إلا ما استثني مِنَّـةً وتسهيلاً على العباد، وجعل المباحات لأنها مباحة بالأصل، إلا ما دلّ الدليل عليه. فلا يجوز أن نعاند الله تعالى أو نشاركه في حكمه، ونتدخل في شؤون خَلْق الله سبحانه إلا من خلال الأحكام الشرعية"[37].
ويظهر أيضاً من بعض كلمات السيد الطباطبائي أنّه يرفض إعطاء الحاكم الشرعي مثل هذه الصلاحية، يقول: "إنّ قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم } [النساء: 59]، إنّما يجعل لأولي الأمر حق الطاعة في غير الأحكام، فهم ومن دونهم من الأمة سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله ورسوله، بل هو عليهم أوجب ، فالذي يجب فيه طاعة أولي الامر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعلٍ أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة"[38].
وفي المقابل، فإنّ جمعاً من الفقهاء[39] قد آمنوا بوجود هذه الصلاحيّة للحاكم في التشريع الإسلامي، وعلى رأسهم الشهيد الصدر، كما سلف في كلامه، وهكذا الإمام الخميني، فقد تبنى رأياً في صلاحيات الحاكم الإسلامي يعدّ من أوسع الآراء في المسألة، يقول رحمه الله مسلطاً الضوء على الفكرة المتقدمة:
"لو كانت صلاحيات الحكومة ضمن إطار الأحكام الإلهيّة الفرعية لوجب القول إنّه لا معنى للحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوّضة إلى نبي الإسلام (ص)، وأشير إلى نتائج ذلك حيث لا يمكن لأي أحد أن يلتزم بها، مثلاً إنّ فتح الطريق الذي يستلزم التصرف في المنازل أو حريمها لا يدخل ضمن إطار الأحكام الشرعية، وكذا الأمر بالنسبة لموضوع التجنيد والإرسال الإلزامي إلى جبهات القتال، ومنع دخول وخروج العملة الصعبة، ومنع دخول وخروج أية بضاعة، ومنع الاحتكار في غير موردين أو ثلاثة، والجمارك والضرائب، ومنع رفع الأسعار وفرض التسعيرة، ومنع توزيع المواد المخدرة ومنع الإدمان بأنواعه من المشروبات الكحولية وغيرها، وحمل السلاح مهما كان نوعه، والمئات من أمثال ذلك التي تدخل ضمن صلاحيات الدولة، إنّ الحكومة هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله (ص)، وتعدّ واحدة من الأحكام الإلهية للإسلام ومقدَّمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج، ويتمكن الحاكم من تخريب مسجد أو منزل يقع في وسط الشارع وتسليم ثمن البيت لصاحبه، ويتمكن الحاكم من تعطيل المساجد في حالات الضرورة وتخريب المسجد عندما يتحول إلى مسجد ضرار وتنعدم جميع السبل الأخرى لرفع ذلك، وتتمكن الحكومة أن تلغي من جانب واحد العقود والاتفاقيات الشرعية التي عقدتها مع الناس في حال مخالفتها لمصلحة البلاد والإسلام، ويمكنها منع أي موضوع عبادي أو غير عبادي ما دام أنّ تنفيذه يعارض المصلحة الإسلامية، وتتمكن الحكومة أن تمنع فريضة الحج التي هي من الفرائض الإلهية المهمة منعاً مؤقتاً ما دامت مصلحة الدولة الإسلامية"[40].
وهذا ما فعله الميرزا الشيرازي الكبير عندما أصدر فتوى تحريم استخدام التنباك الشهيرة، فإنه نهى عن شربه، وهي من أوضح الأمثلة لما أشار إليه الإمام الخميني من أنّ للحاكم إبطال العقود وفسخ المواثيق التي يراها مخالفة لمصلحة الأمة، ففي سنة 1312هـ، أعطى الشاه ناصر الدين القاجاري امتياز حصر التتن والتنباك لشركة إنكليزية، ولأنّ ذلك كان على خلاف مصالح الشعب الإيراني، فقد أصدر الميرزا الشيرازي حكماً بتحريم التدخين وجميع استعمالاته، وقد ترك هذا الحكم الولايتي أثراً بالغاً في نفوس الإيرانيين، حيث تركوا بمعظمهم التدخين[41].
وإننا نرجح كون هذه الصلاحيّة معطاة للحاكم الشرعي، بإصدار الأحكام التدبيرية الملائمة والتي تستهدف تحقيق المصلحة العامة، وبالإمكان إقامة الدليل على ذلك، ويمكن توضيحه من خلال المراحل الثلاث التالية:
المرحلة الأولى: في الإمكان
على الصعيد الثبوتي، علينا أن نرفع توهماً حول إستحالة ذلك، بزعم لزوم التهافت والتناقض بين الأحكام، بسبب تنافيها وتضادها الملاكي، فإذا كان الشيء مباحاً فهذا يعني ملاكه لا اقتضائي، أو ملاكه اقتضائي في أن يكون المكلف مطلق العنان، وعليه فكيف يصدر في الموضوع عينه تحريم مع أن التحريم ينطلق من وجود مفسدة في الفعل، وكيف يصدر إيجاب مع أن الوجوب ينطلق عن مصلحة ملزمة بالفعل؟!
والجواب على ذلك: إنّ متعلّق الاستحباب والكراهة فضلاً عن الإباحة لا يمانع في حدّ نفسه من الإلزام به في حال طروء عنوان يقتضي ذلك، وكما قال الشيخ الأنصاري: "أن دليل الاستحباب إنما يدل على كون الفعل لو خلي وطبعه خالياً عما يوجب لزوم أحد طرفيه، فلا ينافي ذلك طرو عنوان من الخارج يوجب لزوم فعله أو تركه - كما إذا صار مقدمة لواجب، أو صادفه عنوان محرم - فإجابة المؤمن وإدخال السرور في قلبه ليس في نفسه شئ ملزم لفعله أو تركه ، فإذا تحقق في ضمن الزنا فقد طرأ عليه عنوان ملزم لتركه، كما أنه إذا أمر به الوالد أو السيد طرأ عليه عنوان ملزم لفعله .والحاصل: أن جهات الأحكام الثلاثة - أعني الإباحة والاستحباب والكراهة - لا تزاحم جهة الوجوب أو الحرمة، فالحكم لهما مع اجتماع جهتيهما مع إحدى الجهات الثلاث"[42].
وخلاصة القول: إنّ ليس ثمة محذور في أن تكون الشريعة قد أعطت الحاكم حق نقض الأحكام الترخيصية مع تشخيصه وجود مصلحة ملزمة أو حاجة ملحة معينة تقتضي ذلك، فيكون حكمه حاكماً على الأحكام الأولية وناقضاً لها، بل لا مانع ثبوتاً من إعطائه صلاحيّة نقض الأحكام الإلزاميّة أيضاً، نظير حكومة قاعدتي " لا ضرر" و" لا حرج" على الأحكام الأوليّة، إلا أنّ الأمر يحتاج إلى دليل إثباتي. والقائل بصلاحيات الحاكم في منطقة الفراغ، يرى قيام الدليل في خصوص الأحكام الترخيصيّة ويقر ضمناً بعدم قيامه في دائرة الأحكام الإلزامية، بل يمكن إقامة الدليل على المنع من تغييرها في غير حالات التزاحم المتقدمة، والدليل هو النصوص التي تأمر باتباع الشريعة وتنص على أنّ الحاكم نفسه مأمور بتطبيق الشريعة، ولذا نجدُ أنّ الإمام الحسين (ع) يُعلن الثورة لأنّ الحكم الأموي قد تجاوز شرع الله فاتخذ مال الله دولا وعباده خولاً. إنّ الحاكم الذي يغيّر أحكام الله تعالى يفقد شرعيته ما يبرر الوقوف في وجهه.
وعليه فمحل الكلام هو في الأحكام الترخيصيّة، وقد اتضح أنّ المانع الثبوتي مفقود.
المرحلة الثانية: في الدليل الإثباتي
ولكنْ ما الدليل الإثباتي على أنّ الشريعة أعطت الحاكم مثل هذه الصلاحيّة؟
والجواب: إنّ الدليل متوفر:
أولاً: فيما يتصل بالنبي (ص) أو الإمام (ع)، فالدليل على أنّ له هذه الصلاحيّة واضح، وهو:
-
وهو كل ما دلّ على ولايته العامة على الناس، من قبيل قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]، وما دلّ على لزوم إطاعته فيما يأمر به أو ينهى عنه قال تعالى : {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النور: 54].
وقد تقدم الاستدلال بالآيتين ودفع ما يمكن الإيراد به عليهما أو على الآية الثانية.
-
إنّ السيرة العمليّة لرسول الله (ص) تدلل على ذلك، فقد ورد عنه أنّه أعمل هذه الولاية في العديد من الموارد، التي كانت في الأصل على الإباحة بالمعنى الأعم، وعلى سبيل المثال: فقد نهى (ص) عن تناول الحمر الأهلية نهياً ولايتياً، مع أنّ أكلها من حيث المبدأ حلال، ويدل عليه ما جاء في الخبر الصحيح عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وزُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) أَنَّهُمَا سَأَلَاه عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ؟ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّه ص عَنْهَا وعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فِي الْقُرْآنِ[43].ولا يبدو أنّ الحاجة إليها كانت قد وصلت إلى حدّ الضرورة القصوى التي تدخل الأمر في باب التزاحم، ولكن لا شك في وجود المصلحة في ذلك.
ومن أمثلة ذلك ما ورد من إلزام الناس بحضور الجماعة. في الصحيح عن ابن سنان[44] عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: إنّ أناساً كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أبطئوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليوشك قوم يَدَعُون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم"[45]، وهذا التهديد ربما انطلق من خشية حقيقية في أنّ عزوفهم عن الصلاة خلف النبي (ص) كان يعبر عن حالة تمرد أو استهانة بالرسول (ص).
ومن الأمثلة أيضاً ما ورد من وضعِ أمير المؤمنين علي (ع) الزكاة على إناث الخيل، وسيأتي، مع أنّها في أصل الشرع غير واجبة.. والأمثلة على صدور الحكم الولايتي من النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) كثيرة، وسيأتي استعراضها.
ثانياً: فيما يتصل بالحاكم الشرعي، فبناءً على ثبوت ولايته من حيث المبدأ ( وهذا ثابت في بابه بصرف النظر عن صيغة الحكم) فإنّ مما يدل على صلاحيته في ملء منطقة الفراغ عدة وجوه، وهي:
الوجه الأول: كل ما دلّ على إطاعة ولي الأمر وولايته العامة أو ولايته في القضايا العامة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]، فإنّه بإطلاقه دلّ على لزوم إطاعته حتى لو كان الأمر صادراً عنه في نطاق المباحات بالمعنى الأعم، نعم لا إطلاق للآية للأحكام الإلزامية، وإخراج موارد المباحات من تحت عمومها يحتاج إلى دليل. وكلام العلامة الطباطبائي المتقدم عن أنّ الآية ناظرة إلى إطاعتهم في غير الأحكام، إنما يشير فيه إلى الأحكام الإلزامية كما يظهر من التأمل في كلامه. وقد تمسك الشهيد الصدر بالآية لما نحن فيه[46].
ولكن يمكن القول: إنّ إطلاق إطاعة وليّ الأمر بما يشمل دائرة المباحات بالمعنى الأعم لا يخلو من خفاء، إذ ربما يدعى انصرافها إلى ما كان من شؤون الولاة، والخطاب منزل على الفهم العرفي.
لا تقل: إنّ عدم شمولها لهذه الدائرة سوف يؤدي إلى تعطيل الولاية وإلغائها، فلا مفر من الالتزام بشمولها حتى لا يلغو الخطاب.
لأننا نقول: إنّ ثمة مساحة من القضايا تبقى داخلة فلا يلغو الأمر بإطاعة الولي، والمساحة هي ما يتصل في أمر الإدارة وتشكيل الدولة وقيادة الحرب والسلم وجباية الضرائب وإقامة الحدود وغيرها من صلاحيات الوالي، على أنّ رفع اللغوية لو توقف على شمول ولايته لدائرة الفراغ لاكتفي برفع اللغوية بالشمول للمباحات بالمعنى الأخص فما المبرر لشمولها لما هو أوسع.
ولذا فالاستدلال بالآية لا يخلو من إشكال، اللهم إلا أن يقال: إن التصرف في هذه المنطقة هو من شؤون الولاة، وإطلاق الأمر بإطاعته بصفته وليّاً للأمر يعني أنّه يدخل في ولايته كل ما من شأن الولاة فعله.
الوجه الثاني: إنّ ثمّة مجموعة من الأخبار أجازت تصرف الحاكم في منطقة الفراغ بإصدار قرارات إلزاميّة، فإنّ هذه الأخبار قد أناطت الأمر بيد "السلطان" أو "الوالي"، مما هو واضح في عدم وجود خصوصية للمعصوم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ ثمّة مؤشرات تبعث على الوثوق بأّنّ هذه الموارد هي من قبيل الأمثلة لمبدأ إعمال السلطة في نظائرها، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
وما ورد في إلزام الناس بالحج وزيارة النبي (ص)، مع إيكال الأمر إلى الإمام، في صحيح الفضلاء عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَوْ أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْحَجَّ لَكَانَ عَلَى الْوَالِي أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وعَلَى الْمُقَامِ عِنْدَه، ولَوْ تَرَكُوا زِيَارَةَ النَّبِيِّ (ص) لَكَانَ عَلَى الْوَالِي أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وعَلَى الْمُقَامِ عِنْدَه فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمْوَالٌ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ"[47]. فإنّ زيارة النبي (ص) ليست واجبة، ومع ذلك فإن "الوالي" يلزم الناس بها، والحج أيضاً قد لا يكون واجباً والرواية فرضت أنّهم لا يملكون مالاً، أي لا إستطاعة لديهم، ومع ذلك إذا فرض أنّ الناس تركته فللوالي إلزامهم به، حتى لا يخلو البيت أو يعطل، كما عبرّت بعض الأخبار الآتية لاحقاً.
ومن الأمثلة: ما ورد في كراهية تظليل المساجد، فففي صحيح الْحَلَبِيِّ قَالَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْمَسَاجِدِ الْمُظَلَّلَةِ أيُكْرَه الصَّلَاةُ فِيهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، ولَكِنْ لَا يَضُرُّكُمُ الْيَوْمَ ولَوْ قَدْ كَانَ الْعَدْلُ لَرَأَيْتُمْ كَيْفَ يُصْنَعُ فِي ذَلِكَ"[48]. فقيام العدل إشارة إلى دولة العدل، وهي لا تختص بدولة المهدي (ع) وإن كانت المصداق الأبرز لها، وتظليل المساجد ليس محرماً، بل غايته الكراهة كما سيأتي، فلو أنّ شخصاً بنى مسجداً وظلله فيجوز للقائم بالعدل بناءً على الخبر أن يزيل التظليل إذا رأى مصلحة في ذلك.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في إلزام أهل مكة بالتشبه بالمحرمين، مع أنّ ذلك من المستحبات، ففي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا ينبغي لأهل مكة أن يلبسوا القميص وأن يتشبهوا بالمحرمين شعثاً غبراً. وقال: ينبغي للسلطان أنْ يأخذهم بذلك"[49]. والوجه في إلزامهم بذلك هو أنّ الإحرام كما قال العلامة الحلي هو "شعار المسلمين في ذلك الوقت والمكان"[50]، والتعبير بـ " لا ينبغي"، لا يراد به كراهة لبس القميص، وذلك بقرينة السياق، فإن قوله " ينبغي للسلطان أن يأحذهم"، لا ينسجم إلا مع كونه ملزماً بذلك.
ولا يبعد القول: إنّ ما تقدم وما يأتي من نصوص حول بعض التصرفات التدبيرية الصادرة عن النبي (ص) أو الإمام (ع) هي شاهد أيضاً، لأنها صدرت عنه بصفته الولايتيّة، ولا خصوصية لعنصر النبوة أو العصمة في الأمر، فتصرفاته تعدّ هادية ومؤشرة على كون هذه التصرفات هي للحاكم الشرعي أكان معصوماً أو غير معصوم.
أجل، إنّ غاية ما يقتضيه إلغاء الخصوصية عن هذه النماذج هو الشمول بإصدار أمر إلزامي بما كان في أصل الشريعة مستحباً، أو إصدار منع تدبيري فيما كان في أصل الشريعة مكروهاً، ولكن لا يتسنى - بالاستناد إلى هذه الشواهد - أن يصدر منعاً عما هو مستحب، أو إلزاماً بما هو مكروه، وكذا في إصدار منع أو إلزام بما هو مباح بالمعنى الأخص.
الوجه الثالث: دليل النظام، فإنه لا يخفى أنّ الحاجة ماسة لإعطاء الحاكم الشرعي مثل هذه الصلاحية، وذلك تنظيماً لأمور البلاد وحرصاً على أخذ الأمور إلى الانتظام التام، والاستقرار الكامل، بما يخفف من كاهل الناس ويحقق لهم احتياجاتهم، ولو في غير الأمور الضرورية، ولا سيما في ظلّ تعقيدات الحياة المعاصرة، ومعلومٌ أنّ عدم إعطاء الحاكم صلاحيات على هذا الصعيد سيؤدي إلى انكماش وجمود في انتظام حياة الإنسان، أرأيت الحكم الأولي بجواز حمل الإنسان للسلاح، هل يمكن أن يمنع الحاكم من وضع ضوابط أو قيود تحد من آثاره السلبية على السلامة العامة، بل ربما منعه بشكل مطلق، وهكذا قضيّة استهلاك الإنسان واستعماله لموارد الطبيعية كمياه الأنهار والآبار والينابيع مباح في الأصل، وهكذا استفادته من أشجار الغابات وحيازتها ، فإنها مباحة بحسب الحكم الشرعي ولكن قد تطرأ عناوين جديدة تقتضي الحد من ذلك أو المنع منه، كما لو قامت بعض الشركات بجرّ مياه الأنهار لري بعض الأراضي التي استصلحتها، بما قد يؤدي إلى نضوب مياهها عن الآف الناس الآخرين الذين يرتوون من هذا الماء ويستفيدون منه لزروعهم ومواشيهم، أو قامت هذه الشركات مستعينة بالوسائل التقنية الحديثة بقطع أشجار الغابات بما قد يؤدي إلى تصحر الأراضي ويضر بالإنسان والحيوان والبيئة، ففي مثل هذه الموارد يفترض بالفقيه أن يتدخل لمنع حدوث ذلك بمقتضى ولايته، وأيضاً فإن الصيد مباح للإنسان في الأصل، لكن تطور الأسلحة ودخول عنصر حماية الثروة الحيوانية قد يدفع على إعطاء الحاكم صلاحية تنظيم عمل الصيد وإلا لأدى ذلك إلى انقراض بعض الأجناس الحيوانية.
ولا يبعد أن يقال: إنّ أكثر تصرفات الحاكم في دائرة إقرار النظام العام، تصطدم مع حكم أولي يتصل ببعض أفراد المكلفين، وأنّه إذا لم يعط الحاكم صلاحية إلزام الناس في دائرة المباحات، بما يؤدي إلى الحد من بعض تصرفاتهم لما كان ثمة معنى للسلطة أساساً.
ولا أعتقد أنّ صلاحيّة الحاكم في تنفيذ الأحكام الشرعيّة الأوليّة وصلاحيته أيضاً في نطاق دائرة التزاحم الاجتماعي تكفيان لتحقيق الانتظام العام الذي تتطلبه الحياة الإنسانية، إنّ تطور الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة وكثرة تعقيداتها وتشابك مشاكلها تحتم إعطاء الحاكم مثل هذه الصلاحية الواسعة، ومعلوم أن الشريعة لا تقدم حلولاً للحياة البدائية فحسب، وهي لم تنزل لحلّ مشكلات بيئة معينة مثلاً.
وهذا الدليل يجعل صلاحيات الحاكم دائرة مدار تحقق ما فيه المصلحة العامة وحفظ النظام العام، اللهم إلا أن يقال: إن دليل النظام لا يعتمد على أدلة لفظيّة فهو من قبيل الأدلة اللبية فلا بد من القصر فيه على القدر المتيقن، وهو حالة حصول التزاحم بين الحقوق.
المرحلة الثالثة: أدلّة المنع ومناقشتها
ويبقى أنه قد تذكر بعض الوجوه للمنع من لإعطاء الحاكم هذه الصلاحية، فلننظر في هذه الوجوه لنرى مدى تماميتها:
أولاً: جعل الخاكم شريكاً مع الله تعالى
إنّ لازم إعطاء الحاكم هذه الصلاحيات الواسعة صيرورته شريكاً لله تعالى في حكمه، فيحرِّم ما أحلّه الله ويوجب ما لم يوجبه.
ويلاحظ عليه: إنّه وفي ضوء ما تقدم من قيام الدليل على هذه الصلاحيّة للحاكم الشرعي فلا معنى للكلام عن مشاركة الله في حكمه ولا لمعاندة الله تعالى، لأنه بعد قيام الدليل كما فرضنا فيكون الله تعالى هو من أعطى الحاكم هذه الصلاحية فأين المعاندة أو المشاركة؟
ثانياً: لزوم تأسيس فقه جديد
إنّ إعطاءه الصلاحية المذكورة يؤدي إلى تأسيس فقه جديد، بل إنّ هذه النظرية سوف تؤدي - كما ذكر في كلام الشيخ الفقيه - إلى تلاشى الأحكام بشكل تدريجي، وضياع الفرائض بنسبة من الضياع، فتفقد تلك الأحكام قداستها وقيمتها. يقول العلامة الطبطبائي: "ولو جاز لولي الأمر أن يتصرف في الحكم التشريعي تكليفاً أو وضعاً بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقمْ حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتة"[51].
والجواب:
-
إنّ هذا لا يؤدي إلى تلاشي الشريعة ولا تأسيس فقه جديد، لأنّ العناوين التي تدفع الحاكم لإصدار مقررات ملزمة في دائرة الفراغ، هي مما دعت إليه المصلحة، وهذه قد تكون ظرفيّة، وربما ترتفع مع الوقت، وهذا الحكم الصادر عن الحاكم هو بالعنوان الثانوي ولن يرتفع معه الحكم الأولي، وهو دائر مدار المصلحة التي رأى الحاكم أنه تقتضي إصدار التدبير، ومع ارتفاعها لا يبقى له مبرر.
-
أنّ هذا التغيّر في الأحكام إذا كان مما دلّت عليه الشريعة فيكون مأذوناً به، وما المانع من أن تجعل الشريعة ذلك، كما جعلت قاعدتي لا ضرر ولا حرج وهما تؤديان إلى ارتفاع الأحكام، وكما أقرت بارتفاع الأحكام عند طروء عناوين ثانوية كعناوين: الإضطرار أو الإكراه أو الهتك أو غير ذلك، ومع ذلك لم يلزم تلاشي الشريعة.
ثالثاً: المنافاة مع ثبات الشريعة
إنّ إعطاء الحاكم الشرعي هذه الصلاحيّة الواسعة في إصدار أحكام ملزمة في دائرة المباحات بالمعنى الأعم، يعني أنّ الحكم الشرعي لا يتسم بالثبات والديمومة، وبالإمكان تغييره، وهو ما أشار إليه الطباطبائي في كلامه الآنف: ".. ولم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتة"[52]. وهذا يتنافى مع ما هو معلوم من أنّ هذه الشريعة الإسلامية مستمرة ولا يمكن نسخها ولا تغييرها، ومرور الأزمنة لا يغيّر الأحكام الشرعية سواء الأحكام الأولية أو الثانوية، فكلها باقية ومستمرة إلى يوم القيامة، وهذا معنى خاتمية الشريعة الإسلامية، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الكليني عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع )عَنِ الْحَلَالِ والْحَرَامِ فَقَالَ: حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وحَرَامُه حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ غَيْرُه ولَا يَجِيءُ غَيْرُه، وقَالَ قَالَ عَلِيٌّ ع): مَا أَحَدٌ ابْتَدَعَ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ بِهَا سُنَّةً"[53].
والجواب: إنّه وبعد أن ثبت أن للحاكم تلك الصلاحيه فهو يعني أنّ هذا التغيّر مأذون به من قبل الشريعة نفسها، وعليه، فالحكم الشرعي في المقام ثابت ولا يتغيّر، والحكم هو صلاحيّة الحاكم الشرعي في إصدار أحكام تدبيرية ومقررات إجرائية متغيرة، فهذا هو الحكم الثابت والذي ينطبق عليه قانون "حلال محمد حلال أبداَ إلى يوم القيامة .."، وعندما نسحب أو ننزع هذه الصلاحيّة من النبي (ص) أو من الإمام المعصوم أو الحاكم الشرعي نكون آنذاك قد خالفنا قاعدة ثبات الشريعة الإسلامية، وعليه فمن يزعم أنّ الحكم التدبيري لا يتغير دائماً ويظل ثابتاً فهو المخالف لقاعدة " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة"، ألا ترى أن الشريعة أعطت الحاكم صلاحية تقدير التعزيرات فلو قدّر النبي (ص) عقوبة تعزيرية لشخص ثم قدّر الإمام عقوبة أخرى على الخطأ نفسه لكن في ظروف مختلفة فلا تنافي بين التقديرين، كذلك الحال في المقام، وبعبارة أخرى: إنّ الحكم الشرعي بإعطاء الحاكم صلاحية التدبير هو مشمول لقاعدة " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة"، فليس من إثنينية لتتحقق المنافاة.
رابعاً: منافاته لمصلحة التوسعة على العباد
إنّ الأحكام التي يصدرها الحاكم في منطقة الفراغ تؤدي إلى التضييق على العباد، وهو على خلاف حكمة التيسير التي تعدّ ميزة للشريعة الإسلاميّة، إن المساحة الواسعة من المباحات التي جاء الحديث عنها في الأخبار بعبارة: "وسكت عن أشياء، لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تكلفوها، رحمة من الله لكم فاقبلوها"، سوف تتقلص وترتفع هذه الرحمة، ويتحول التيسير إلى تعسير.
وتعليقنا على ذلك: إنّ إصدار مقررات إلزامية في دائرة الفراغ لا ينبغي أن يؤدي إلى حدّ التضييق على الناس وتقييد حرياتهم، وعلى الحاكم الشرعي أن يأخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار عند إصدار أي تدبير، وأن يعلم أن المشرع ترك هذه المنطقة خالية من الإلزام بغرض التوسعة على الناس، ومعلوم أن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه. فالتوسعة والتيسير على العباد مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن هنا يكون على الحاكم أن يوازن بين المصالح والمفاسد وأن يدرس الإيجابيات والسلبيات قبل إصدار المقررات التدبيرية.
وإنّ عدم الدقة في دراسة عناصر المسألة قد يؤدي إلى قرارت غير موفقة، وعلى سبيل المثال، فإنّ قضية إنجاب الذرية، فإنّه وإن كان مباحاً بالعنوان الأولي، بل هو مستحب لقوله (ص): "تناكحوا تناسلوا فأنا مباه بكم الأمم يوم القيامة"[54]، ولكن ربما تحولت هذه النعمة بسبب ظلم الإنسان وسوء تقديره إلى معضلة ومشكلة للدولة الإسلامية التي قد توازن بين عدد السكان المتزايد ومتطلباتهم الكثيرة التعليمية والصحية والخدماتية، وبين ثرواتها وإمكانياتها المتواضعة، فتجد أنّه لا بد من تنظيم النسل وتحديده حتى ترفع من مستوى الأمة، فلا تبقى متخلِّفة عن ركبِ الحضارة الإنسانيّة، هذا ولكنّ اتخاذ قرارات إلزامية للحد من عدد السكان لا بدّ أن يدرس ليس على ضوء الاعتبارات الاقتصادية البحتة، بل يفترض أن يدخل في ذلك عناصر أخرى، منها أنّ قوة المجتمع الإسلامي الحامل للمشروع الرسالي تكمن في جانب مهم منها بالحفاظ على النسل الشاب في المجتمع، حذراً من شيخوخة الدولة الإسلامية، أو من اختلال التوازن السكاني مع الجماعات الأخرى.
البحث الثاني: صلاحيّة تجميد الأحكام الشرعيّة
إذا كان إلغاء أحكام الشريعة وتعطيلها بشكل كلي ليس من صلاحية أحد غير المشرع نفسه، ولم يثبت أن الشريعة الإسلاميّة أعطت أحداً هذا الحق، فهل إنّها منحت الحاكم صلاحيّة تجميد القوانين الشرعية الإلزامية من الوجوب والحرمة؟
وإذا ثبت ذلك فهو يعني أنّ سلطة الحاكم هي فوق الأحكام التشريعيّة وهي أشبه بإعطائه حاكمية عليها، أو قل إعطائه حق النقض (الفيتو) لما تتضمنه تلك الأحكام.
والمستفادُ من كلام الإمام الخميني المتقدم أنّ له تجميدها وتعطيلها إذا رأى مصلحة في ذلك، يقول: "إنّ الحكومة هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله (ص)، وتعدّ واحدة من الأحكام الإلهيّة للإسلام ومقدَّمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج، ويتمكن الحاكم من تخريب مسجد أو منزل يقع في وسط الشارع وتسليم ثمن البيت لصاحبه، ويتمكن الحاكم من تعطيل المساجد في حالات الضرورة وتخريب المسجد عندما يتحول إلى مسجد ضرار وتنعدم جميع السبل الأخرى لرفع ذلك، وتتمكن الحكومة أن تلغي من جانب واحد العقود والاتفاقيات الشرعية التي عقدتها مع الناس في حال مخالفتها لمصلحة البلاد والإسلام، ويمكنها منع أي موضوع عبادي أو غير عبادي ما دام أنّ تنفيذه يعارض المصلحة الإسلامية، وتتمكن الحكومة أن تمنع فريضة الحج التي هي من الفرائض الإلهية المهمة منعاً مؤقتاً ما دامت مصلحة الدولة الإسلامية"[55].
وهذه الصلاحيّة لا وجه لها ولا دليل عليها خارج نطاق حالة التزاحم المشار إليها سابقاً، إنّه وفي حال حصول التزاحم فللحاكم سلطة على تجميد بعض الأحكام الإلزامية، وذلك بعد أن يشخِّص أنّ هناك مصلحة أهم من مصلحة الواجب أو مفسدة أشدّ من مفسدة الحرام، ومثاله في الواجبات هو ما أشار إليه من تعطيل الحج لعدة سنوات لأجل حفظ مصلحة الجماعة المؤمنة أو الكيان الإسلامي، ولا يُقصد هنا حصول خطر على الأفراد، فهذا يُسقط عنهم الاستطاعة، فلا يجب الحج عليهم على القاعدة، وإنما يقصد المصلحة العامة بالجماعة. وقد ذكرنا في بحوثنا حول الردة أنّ الحدود إنّما شُرِّعت للمصلحة العامة ودفعاً للفساد - كما مرّ في كلام سابقاً - فإذا أدّت إقامتها إلى عكس ذلك، فيكون تجميدها أجدى من تطبيقها. ولو أخذنا حد الرّدة مثلاً، فإنّا نراه يهدف - فيما هو معروف - إلى حفظ عقيدة الجماعة المسلمة. فلو كانت إقامته تستدعي ارتداد البعض عن الإسلام وشكّهم فيه أو يستلزم تشويهاً كبيراً لصورته وتقديمه بصفته ديناً يمارس أعمالاً وحشية قاسية بحق الناس، كما حصل من خلال ما فعلته بعض الجماعات التكفيريّة التي مارست بعض الأفعال بحجة تطبيق الشريعة، فيكون تطبيقَه منافياً للغرض من تشريعه. وإننا نستوحي ذلك مما ورد في معتبرة غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادق (ع)عن علي (ع) أنّه قال: "لا أقيم على رجل حداً بأرض العدو حتى يخرج منها مخافة أن تحمله الحَميّة فيلحق بالعدو"[56]، فقد دلّت على أنّ تطبيق الحدّ من قبيل حدّ الزنا أو السرقة أو غيرهما من الحدود مشروط بأن لا يخشى معه من التحاق الشخص بالعدو، وهو ما يتلازم عادة مع ارتداده عن الإسلام، ولا يبعد أن يستفاد منها قاعدة عامة، وهي أنّ إقامة الحد مشروطة بأن لا تترتب مفسدة أكبر من مفسدة تجميده.
وفي الحديث عن رسول الله (ص): "لا تقطع الأيدي في الغزو"[57].
وفي معتبرة أبي مريم، عن أبي جعفر(ع) قال: "قال أمير المؤمنين (ع): لا يُقام على أحدٍ حدّ بأرض العدو"[58].
وبناءً على ما تقدم، يتضح - من خلال معتبرة غياث بن إبراهيم - أنّ مسألة تطبيق الحدود وتنفيذها ليست مسألة تعبدية محضة، ليقال بضرورة الإتيان بها على كل حال؛ بل لا بدّ من ملاحظة العناوين الثانوية، والتداعيات المترتبة على تطبيقها. ومن الطبيعي، أنّ الحاكم كما عليه أن يلاحظ جانب الشخص الذي يقيم عليه الحد وردات فعله، خشية أن ينحاز إلى صف الأعداء أو يرتد عن الإسلام، فإنّ عليه أن يلحظ أيضاً جانب سائر المسلمين، وردات فعلهم السلبية على تطبيق الحد، والتي قد تنطلق بفعل الدعاية المضادة للإسلام، وضعف الثقافة الإسلامية في نفوسهم. فإذا كانت الخشية من ارتداد شخص وانحيازه إلى صف الأعداء في حال إقامة الحدود عليه موجبة لتجميد إقامة الحد عليه، فبالأولى أن يكون الخوف من ارتداد جمع من المسلمين موجباً لتجميد تطبيق بعض الحدود، كحد الرّدة، أو الرجم أو غيرهما.
ويمكن أن يستفاد من هذه الأخبار أن إقامة الحدود تحتاج إلى أرضيّة خاصة، تتقبل الحدّ وتجعل إقامته مجدية، ولا تستوجب ردات فعل كبيرة في وجه التشريع.
من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)
[1]البيع، ج 3 ص، 603. وقال أيضاً في محل آخر: " أنّ أحكامه (ص) السلطانيّة، نافذة في الأُمّة إلى الأبد"، البيع ج 5 ص 608.
[2] دراسات في ولاية الفقيه، ج 3، ص307، وج 3، ص14.
[3] يقصد المذهب الاقتصادي، وطبيعي أن لا خصوصية للمذهب الاقتصادي في ذلك.
[5] مقالت تأسيسية في الفكر الإسلامي، ص 168.
[7] ولو صدر من حكومة غير شرعية، كقوانين السير وتنظيم البناء وغير ذلك.
[8] القواعد والفوائد ج1 ص215، وراجع تمهيد القواعد للشهيد الثاني ص241.
[9] الفروق، ج 1، ص 205 – 206.
[10] على سبيل المثال نجد في بعض الأخبار أنّ علياً (ع) أصدر حكماً بعزل والٍ معين، ولكنه ضمّن قرار العزل فقرة أخيرة تقول: "إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام"، أنظر: بلاغات النساء ص31، وتاريخ مدينة دمشق ج69 ص225، والفتوح لابن الأعثم ج3 ص60، والتذكرة الحمدونية لابن حمدون ج2 ص20.
[12] الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير ص 9، أنظر: مجموعة الرسائل، ج 1 ص 175. للشيخ الصافي
[13] ضرورة وجود الحكومة أو ولا ية الفقيه في عصر الغيبة ص 10، وأنظر: مجموعة الرسائل، ج 1، ص 346.
[14] بحوث فقهية مهمة، ص 515.
[15] ومنهم على سبيل المثال الشيخ حسين الحلي، أنظر: بحوث فقهية، ص 185، 186.
[17] كما حصل في كتابه إلى عثمان بن حنيف، أو كتابه إلى المنذر بن الجارود، وقد اضطر (ع) إلى عزل بعضهم من منصبه واختيار بديل عنه، وكان يتردد على الأسواق ويراقب حركة التجارة، كما أوضحنا ذلك في كتاب الإسلام والبيئة، ص .
[18] ويظهر من بعض الفقهاء المعاصرين أنّ سلطة الولي تنحصر بهذه الوظيفة، يقول: ".. فليس للوالي حكم خاصّ في عرض الأحكام الإلهية يسمى الحكم الولائي ، بل له أحكام إجرائية في طولها ، ولا أظن أحداً يلتزم بغير ذلك ، وليس له حقّ التشريع وجعل الأحكام الكلية ممّا لم يرد في الشرع ، بل ليس للإمام المعصوم ( عليه السلام ) أيضاً ذلك"، بحوث فقهية مهمة، ص 500.
[19] تنبيه الأمة وتنزيه الملة ص.
[20] يقول ابن البراج "الذي ينبغي أخذه من الجزية، ليس له مقدار معين، بل ذلك إلى الإمام (عليه السلام)، يأخذ من كل واحد ممن يجب عليه أخذها منه، ويضعها عليه بحسب ما يراه، وهو مخيّر بين وضعها على رؤسهم، أو على أرضيهم، إلا إنّهم متى وضعها على أرضيهم، لم يضعها على رؤسهم. وقد روي عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) إنّه: وضع على الأغنياء منهم ثمانية وأربعين درهما، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقراء منهم اثني عشر درهما، وذلك منه عليه السلام بحسب ما يراه في وقته"، انظر: المهذب ج1 ص184.
[22] من المعلوم في الأصول وجود بون شاسع بين التزاحم والتعارض، فالتعارض هو التنافي بين مدلولي الدليلين الكاشفين عن التضادّ بين الجعلين، كما في مثال: ( صل عند الضحى ) و ( لا تصل عند الضحى )، فإنه لا يمكن صدور هذين الخطابين معاً عن المولى، ولذا تجري هنا قواعد باب التعارض، بإعمال المرجحات المنصوصة، ومنها الأخذ بما وافق الكتاب وطرح ما خالفه، وإما بتساقط الدليلين، وأما التزاحم فهو التنافي في مرحلة امتثال الحكمين المجعولين بمعنى أنه لا يمكن امتثالهما معاً كما في ( صل ) و ( أنقذ الغريق ) مع تضيّق وقت كليهما بحيث لا يمكن أداء الصلاة في وقتها مع إنقاذ الغريق، فالتنافي هنا ليس بين الجعلين، بل هما صادران عن المولى ولكن المشكلة في ضيق قدرة المكلف عن امتثالهما معا، وهنا تجري قواعد باب التزاحم، وعلى رأسها قاعدة تقديم الأهم على المهم.
[23] المرجعية والقيادة للسيد الحائري، ص165.
[24][24] إنّ استخدام لفظ التزاحم هنا مبني على شيء من المسامحة.
[25] الضرر ليس دائماً يكون شخصياً فقد يكون الضرر اجتماعياً كما في استعمال أصحاب السيارات لبعض أنواع المحروقات التي تخلق ضرراً عاماً فهنا الذي يشخص الضرر وخطورته ويصدر أمراً في اجتناب استخدام هذه المحروقات إنما هو الحاكم.
[26] تهذيب الأحكام ج 10 ص 40
[28] وتضم الإباحة بالمعنى الأخص، والاستحباب والكراهة.
[29] وهو القرضاوي في "بينات الحل الإسلامي" ص79.
[30] مجمع الزوائد للهيثمي، ج 1، ص 171. وقال الهيثمي: "رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن ورجاله موثقون".
[32] وسائل الشيعة ج27 ص173، الحديث 67الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
[33] من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 75، وعنه وسائل الشيعة، ج 27 ، ص 175، الباب 12، من أبواب صفات القاضي، الحديث 68، وهذا المعنى مروي عن رسول الله (ص) فقد روى في كنز العمال "عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل كتابا وافترض فرائض فلا تنقصوها وحد حدودا فلا تغيروها وحرم محارم فلا تقربوها وسكت عن أشياء لم يسكت نسيانا كانت رحمة من الله فاقبلوها.."، كنز العمال، ج 1، ص 373، ورواه أيضاً عن أبي الدرداء عنه (ص)، كنز العمال، ج 1، ص 381.
[35] وسائل الشيعة، ج 1، ص 108، الباب 25، من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 1.
[36] الشيخ مفيد الفقيه، ولاية الفقيه في مذهب أهل البيت (ع)، ص 255 – 256.
[37] المصدر نفسه، ص 263 – 264.
[38] الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 94.
[39] ومنهم الشيخ التبريزي، يقول في إجابة على سؤال عن الفرق بين الفتوى والحكم: " الفتوى عبارة عن الحكم الكلي الفرعي المستنبط من أدلته ، وأما الحكم الولائي فهو لمن كانت له الولاية على الأمر والنهي في الأمور المباحة "، صراط النجاة، ج 2، ص 436. والظاهر من كلامه إرادة الإباحة بالمعنى الأخص.
[40] منهجية الثورة الإسلامية مقتطفات من أفكاره وآراء الإمام الخميني (رحمه الله) ص 169 - 170.
[41]يقول السيد محسن الأمين: و"كسرت كل نارجيلة وآلة تستعمل للتدخين، حتى نساء القصر كسرن النارجيلات، ولما طلب الشاه من خادمه إحضار نارجيلة له، فوجئ بأنّه لم يبق في القصر نارجيلة واحدة، لأنّ الخادمات كسرنها عملاً بحكم الميرزا الشيرازي"، أعيان الشيعة، ج 5، ص 306 – 307.
[42] المكاسب المحرمة ج 1ص 309.
[43] الكافي، ج 6، ص 246، والاستبصار، ج 4، ص 73، وعنهما وسائل الشيعة، ج 24، ص 118، الأطعمة المحرمة الحديث 1.
[44] هو عبد الله، بقرينة رواية النضر عنه.
[45] تهذيب الأحكام، ج 3، ص 25.
[46] قال رحمه الله: " الدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه، لملء منطقة الفراغ، هو النص القرآني الكريم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء:59) وحدد منطقة الفراغ التي لها صلاحيات أولي الأمر ، تضم في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعاً بطبيعته فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه.. يسمح لولي الأمر باعطائه صفة ثانوية ، بالمنع عنه أو الأمر به . فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته ، أصبح حراماً ، وإذا أمر به ، أصبح واجباً . وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً ، فليس من حق ولي الأمر ، الأمر بها . كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه ، كإنفاق الزوج على زوجته ، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه ، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة . فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ "، اقتصادنا، ص 689 - 690.
[47] الكافي، المصدر نفسه.
[48] الكافي، ج 3، ص 369، ومن لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 235، وتهذيب الأحكام، ج 3، ص 253.
[49] تهذيب الأحكام، ج 5، ص 447.
[50] قال العلامة في تذكرة الفقهاء: " ينبغي لأهل مكة أن يتشبهوا بالمحرمين في ترك لبس المخيط، لأنه شعار المسلمين في ذلك الوقت والمكان"، تذكرة الفقهاء، ج 8، ص 446.
[51] الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 95.
[52] الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 95.
[54] عوالي اللئالي، ج2 ص261.
[55] منهجية الثورة الإسلامية مقتطفات من أفكاره وآراء الإمام الخميني (رحمه الله) ص 169 - 170.
[56])) وسائل الشيعة، ج 28، ص 24، الباب 10، من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
[57])) سنن أبي داوود، ج، 3 ص5.
[58])) وسائل الشيعة، ج 28، ص 24، الباب 10، من أبواب مقدمات الحدود وأحكامه العامة، الحديث 1.