البعد التدبيري في شخصية النبي (ص) -5
الشيخ حسين الخشن
النطاق الثاني: التنظيم الإداري والحكومي
من المجالات الرحبة لحركة الأحكام التدبيرية مجال الإدارة، فإنّ قضية التنظيم والتطوير الإداري هي من القضايا المتحركة، ما يستدعي أن يكون للحاكم صلاحيات واسعة على هذا الصعيد، بأن يقرّ كل ما يراه صلاحاً من نظم إدارية أو آليات في التنظيم الإداري.
ويمكن أن نشير هنا إلى بعض التدبيرات التي قيل أو قد يقال بأنها صدرت عن المعصوم بصفته التدبيرية:
النموذج الأول: إحصاء النفوس.
روي أنّ رسول الله (ص) قال: "اكتبوا لي من تلّفظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل.."[1]. وهذا التدبير يتصل بانتظام المجتمعات ومعرفة التغيرات الديمغرافية والنمو السكاني، وهو قد يبدو بديهياً في زماننا ولكنه في تلك الأزمنة كان مؤشراً مهماً في مجتمع لم يعرف التنظيم خارج إطار الفكر العشائري.
النموذج الثاني: ومما تفرضه تطورات الحياة الاجتماعية، ضرورة تنظيم أمور الفقراء والمساكين وضبط أسمائهم، وفي بعض الروايات ما يدلّ على أنّ الإمام علياً (ع) كان يعطي الناس من بيت المال دون أن يسجّل أسماءهم في كتاب خاص، ثم شعر بالحاجة إلى تسجيل ذلك وثبته في دفاتر خاصة، لكثرة الناس، وسعيِ بعضهم إلى استغلال عدم التسجيل ليأخذ منه مرة تلو أخرى، فقد روي عن المسوّر بن مخرمة قال: "قدمت على علي بالكوفة وهو يعطي الناس في بيت له بابان على غير كتاب، فقال يا ابن مخرمة:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جانٍ يده إلى فيه
فقلت: يا أمير المؤمنين إنّ الناس يتراجعون عليك! قال: أوَقَدْ فعلوا! قلت: نعم، قال فاكتبوهم فكتبوا"[2]. إن قوله (ع) " أوقد فعلوا"، يشي بأنّ الناس كان يتحلون بتقوى أو أخلاق تحجزهم عن مثل هذا الفعل ولما فسدت الأخلاق أصبح البعض يمارس الخداع ليأخذوا أكثر مما يستحقون.
النموذج الثالث: في مواصفات القاضي
ورد في عهد علي (ع) للأشتر: "اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك"[3]. وربما استدل بكلامه هذا للقول بشرطية الأعلمية في القاضي. ولكنّ بعض الفقهاء لاحظ على دلالة العهد بأنّه لم يعلم كون هذا حكما شرعياً، أو حكماً ولائياً نافذ المفعول إلى الآن، إذْ الموقف يناسب أيضاً كونه من تعاليمه ( عليه السلام ) بما هو رئيس الحكومة لمالك الأشتر، بما هو منصوب من قبله على مصر"[4]. فهو يرى بأنّ وصيّة الإمام لمالك بأن يكون القاضي من أفضل الناس لا يظهر أنها حكم شرعي ولا أنها حكم ولائي يمتد مع الزمن، فالمتيقن أنه حكم ولائي اقتضته المرحلة.
هذا ولكنْ بعض الفقهاء[5] أورد عليه بأن الظاهر من كلام الإمام (ع) في عهده للأشتر أنه كان في مقام بيان البرنامج الإسلامي للوالي وما يجب أن يأخذ به، لا أنّه ينطلق من حالة خاصة يمارس فيها الولي ولايته، فيفرض بعض الأمور التي لم يُلزم بها الشارع ليكون أمره بحجم المرحلة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العهد يتضمن الكثير من التعليمات التدبيرية، منها قوله (ع): "وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وإِعْذَاراً تَبلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ"[6]. فقد سئل أستاذنا السيد الحائري عن هذا الإصحار فقال: "كان هذا الحكم واجباً ولائياً"[7]، ولكنّ ذلك موضع تأمل.
النموذج الرابع: التشدد على موظفي السلطة في قضايا المال وغيرها مما هي مظنة الشبهة والتهمة، حرصاً عليهم وعلى صورة الدولة، من قبيل ما روي عن علي (ع) في مخاطبة ابن حنيف، قال له:"أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، ومَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُه مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَه عَلَيْكَ عِلْمُه فَالْفِظْه، ومَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِه فَنَلْ مِنْه"[8]. يقول الشهيد الصدر: "ومن الواضح أنّ هذا أمر ولايتي صادرٌ من الإمام عليه السلام إلى أحد ولاته في مقام الحكومة على الناس، ولا إشكال في أنّ هذا المقام يحتاج إلى مزيد احتياط ورعاية والتزامات ربما تكون غير واجبة على الرعية، ولكنها تجب على الوالي إما شرعاً أو بحكم الإمام عليه السلام باعتباره قد ولاه"[9].
النطاق الثالث: حماية الأمن الصحي والأمن الغذائي
-
: الأمن الصحي
لا شك أنّ حفظ صحة الإنسان هو من أهم المبادئ التشريعية في الإسلام، فقد حرم كل ما يشكل ضرراً بليغاً على صحة الإنسان، وتطبيقاً لهذا المبدأ فإنّ من وظيفة السلطة اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بحفظ النظام الصحي العام، وتنفيذ كل المقررات ذات الصلة، وهذه المقررات إنما تصدرها السلطة مستعينة بالجهات الطبية المختصة.
وقد صدر عنه (ص) العديد من المقررات التي ترمي إلى حفظ الصحة العامة، ومن هذه المقررات التي وردت الإشارة إليها في الأخبار: منعه (ص) من إيراد المريض من الإبل على السليم، ومنها: منعه الفرار من الطاعون، كإجراء يرمي إلى محاصرة الوباء والحؤول دون انتقاله وانتشاره، وقد تطرقنا لذلك كله في كتاب الإسلام والبيئة، وقد ذكرنا هناك أنّه قد أفتى غير واحد من فقهاء المسلمين[10]، أنه إذا حلّ الوباء في أرض، فيحرم أو يكره الفرار منها، وكذا الدخول إليها، واستندوا في ذلك إلى ما ورد عنه (ص) في هذا الصدد، من قبيل ما رواه البخاري: "أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، فلمّا كان بسرغ[11]، بلغه أنَّ الوباء وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول الله (ص) قال: إذا سمعتم [به] بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، فرجع عمر من سرغ "[12] .
وفي الجامع الصغير عنه (ص): "الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف"[13] .وعن معاذ قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال: "لا تشرك بالله شيئاً.. وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موتان وأنت فيهم فأثبت.."[14].
وهذه الروايات، تدلّ على ضرورة اعتماد مبدأ الحجر الصحي على المصابين بالأمراض المعدية، وذلك بمنع دخول أحد عليهم أو خروجهم واختلاطهم بالآخرين، حذراً من العدوى المحتملة.
هذا ولكنْ بالرجوع إلى الروايات الواردة عن الأئمة (ع)، نجدها تضع كلام النبي(ص) المتقدم، في سياقٍ خاصّ يخرجه عن كونه بصدد إبداء القاعدة، ففي صحيحة الحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع عَنِ الْوَبَاءِ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْمِصْرِ فَيَتَحَوَّلُ الرَّجُلُ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى أَوْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ فَيَخْرُجُ مِنْه إِلَى غَيْرِه فَقَالَ لَا بَأْسَ إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّه ص عَنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ رَبِيئَةٍ[15] كَانَتْ بِحِيَالِ الْعَدُوِّ فَوَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ فَهَرَبُوا مِنْه فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ص الْفَارُّ مِنْه كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْلُوَ مَرَاكِزُهُمْ"[16].
وفي معتبرة أبان الأحمر عن أبان الأحمر قال: سأل بعض أصحابنا أبا الحسن عليه السلام عن الطاعون يقع في بلدة وأنا فيها أتحول عنها؟ قال: نعم .قال: ففي القرية وأنا فيها أتحول عنها ؟ قال : نعم . قال : ففي الدار وأنا فيها أتحول عنها ؟ قال : نعم . قلت: وأنا نتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف. قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله إنّما قال هذا في قوم كانوا يكونون في الثغور في نحو العدو، فيقع الطاعون، فيخلون أماكنهم ويفرون منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فيهم"[17].
وما أريد أن أسجله هنا هو التعليقان التاليان:
الأول: إنّ المستفاد من الأخبار الواردة عن الأئمة (ع) وإن كان يخرج القضيّة عن النطاق المذكور أعلاه (حماية الصحة العامة)، بيد أنّ الإجراء المشار إليه فيها، وهو المنع من الفرار لمكان الربيئة، إنما اتخذه النبي (ص) بصفته قائداً وحاكماً رعاية لحالة خاصة، وهذا يؤكد الصفة التدبيرية في شخصية النبي (ص) وأنّه لا يتصرف دوماً من موقع التشريع.
الثاني: لو أننا صرفنا النظر عن الروايات الواردة عن الأئمة (ع) في تفسير الإجراء النبوي المذكور، وأخذنا النهي عن الفرار من الطاعون على ظاهره فهو أيضاً أقرب إلى أن يكون حكماً تدبيرياً، يرمي - كما قلنا - إلى الحفاظ على صحة الناس، والحؤول دون نقل العدوى إلى الآخرين، وكذلك المنع من الدخول إلى أرض انتشر فيها الطاعون، فالنبي (ص) بصفته ولياً للأمر وحفاظاً على أرواح الناس اتخذ قراراً تدبيرياً بعزل البلدة أو المحلة التي أصاتبها الوباء ومنع من الدخول والخروج إليها، ولا يفترض أن نتعامل مع المسألة تعاملاً تعبدياً، بحيث نمنع من الدخول إلى البلدان التي انتشر فيها الطاعون ولو مع فرض أنّ الداخل كان محصناً ضد العدوى ببعض المضادات، وكذا بالنسبة للخارج الذي يتم إخراجه لغرض معالجته فهذا ما لا يعقل تحريم الخروج عليه، وهذا ما تقتضيه القاعدة في مسألة العدوى، فإنّها تقضي بعدم جواز الدخول إلى أرضٍ انتشر فيها الوباء دون وسائل وقاية، لأنّه تعريضٌ للنفس للهلكة، وتقضي أيضاً بعدم جواز الفرار منها إلى أرضٍ آهلة بالسكان، لأنّ في ذلك مظنة تعريض الغير لخطر العدوى.
-
الأمن الغذائي
وحماية الأمن الغذائي لا تقلّ أهمية عن حماية الأمن الصحي، وفي هذا اللإطار ثمة متسع للحاكم الشرعي - معصوماً كان أو غير معصوم - أن يصدر قرارات وإجراءات تمنع أو تحد من كل ما يمسّ الأمن الغذائي للعامة، ومن هذه الإجراءات ما سيأتي من إمكان اللجوء إلى التسعير، ( نذكر ذلك في النطاق التاسع: تنظيم حركة السوق الاقتصادية ) . وما نريد أن نذكره هنا كمثال على ذلك: ما صدر عنه (ص) من المنع من إخراج اللحوم من منى، ففي صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ إِخْرَاجِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ مِنْ مِنًى؟ فَقَالَ: كُنَّا نَقُولُ لَا يُخْرَجْ مِنْهَا شَيْءٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْه، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ كَثُرَ النَّاسُ فَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِه"[18]. وهذا المعنى موجود في مصادر أهل السنة أيضاً، ففي الخبر عن عائشة، قالت: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي لجهد الناس. ثم رخص فيه"، وفي خبر آخر عن نبيشة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا"[19].
وفي صحيح مسلم بسنده عن سالم عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أنْ تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث".
وروى عن عبد الله بن واقد، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق سمعت عائشة تقول: دفّ[20] أهل أبيات من أهل البادية حضرة[21] الأضاحي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا بما بقي، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إنّ الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون[22] منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟! قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا"[23].
قال النووي ( 676 هـ) في شرحه على صحيح مسلم: " واختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث، فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث، وأنّ حكم التحريم باق، كما قاله علي وابن عمر، وقال جماهير العلماء: يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهى منسوخ بهذه الأحاديث المصرحة بالنسخ لا سيما حديث بريدة، وهذا من نسخ السنة بالسنة، وقال بعضهم: ليس هو نسخاً، بل كان التحريم لعلّة، فلما زالت زال، لحديث سلمة وعائشة، وقيل: كان النهى الأول للكراهة لا للتحريم، قال هؤلاء: والكراهة باقية إلى اليوم، ولكن لا يحرم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس، وحملوا على هذا مذهب علي وابن عمر، والصحيح نسخ النهي مطلقاً وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء، لصريح حديث بريدة وغيره"[24].
وتعليقاً على ذلك نقول: إنّ قد يُرجح كون النهي السابق عن إخراج اللحوم إجراءً تدبيرياً ظرفياً اتخذه النبي (ص) في حالة طارئة حيث تكاثرت الوفود عليه، ما أوجد حاجة ماسة إلى الغذاء والطعام، فاقتضى ذلك أن يتدخل النبي (ص) بصفته ولياً للأمر، للمنع من إخراج لحوم الأضاحي أو ادخارها بعد ثلاث ليال، لأنّ ذلك قد يتسبب بخلق أزمة غذاء بين الحجيج الوافدين. إنّ سبب هذا المنع هو حاجة الناس إليها آنذاك، وهو منعٌ يهدف إلى الاهتمام بقاطني أو زائري المشاعر والأماكن المقدسة. وعليه، فلا تنافي بين هذه الخبر وسائر الأخبار الواردة في المسألة والناهية عن إخراج لحوم الأضاحي من منى[25]، لأنّ تلك الروايات تشير إلى الحكم التشريعي المولوي في المسألة. ومنه يتضح أنه لا مجال لإدراج المقام في باب النسخ، لأنّ النسح المصطلح بحسب الظاهر هو ما إذا كان الناسخ والمنسوخ من الأحكام الشرعية، لا ما إذا كانا تدبيريين، أو أحدهما تشريعياً والآخر تدبيرياً.
هذا ولكن قد يقال: أنّ حكمه (ص) بمنع إخراج اللحوم من منى ليس حكماً تدبيرياً، وإنما هو حكم تشريعي مولوي، وهو يعلّق المنع على الحاجة، فمع الحاجة لا يجوز الإخراج، ومع ارتفاعها، لغنى الناس أو لكثرة الذبائح هناك، فيجوز الإخراج. وهذا يشكّل وجه جمع بين الأخبار، وهو أقرب من الحمل على التدبيرية، وكذلك هو أقرب من الوجه الذي ذكره الشيخ الطوسي[26] للجمع بينها، وهو حمله لخبر الرخصة هذا على صورة إخراج الشخص للحمٍ قد اشتراه في منى، بينما الأخبار الناهية ناظرة إلى صورة إخراجه للحم أضحيته!
النطاق الرابع: حماية النظام البيئي
إنّ مسألة حماية البيئة هي من أبرز التحديات التي تواجه العالم برمته في أيامنا هذه، وذلك بسبب ازدياد أسباب التلوث الذي يرفع من مستوى المخاطر الصحيّة التي تتعرض لها البشرية، ويهدد الحياة على كوكب الأرض، بالإضافة إلى تحدٍ آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه، وهو الاستنزاف المتزايد لموارد الطبيعة، ما يجعلها تعجز عن الوفاء باحتياجات قاطنيها ويخل بالتوازن البيئي، ومن الطبيعي أنّ هذه التحديات والمخاطر تحتاج إلى اعتماد سياسات وخطط مدروسة تهدف إلى تلافي المحاذير المترتبة عليها، ولا ريب أنّ المقررات التدبيرية والإجرءات القانونية الرادعة هي من أبرز الخطوات التي يمكن اتخاذها على هذا الصعيد.
وما تهمنا الإشارة إليه هنا أننا نعثرُ في التراتيب والتدابير النبويّة الكثير من الإجراءات في هذا السياق، وبإمكان المهتم أن يراجع كتابنا "الإسلام والبيئة"، فسوف يجد الكثير من هذه التدابير، منها الدعوة إلى إحياء الأرض مع إعطاء المحيي حقاً في الأرض[27]، وهذه دعوة لها أكثر من بعد وهدف، منها: الحد من مخاطر التصحر، ومنها أن ذلك سيشكل دعوة إلى التنمية الاقتصادية والزراعية ومحاربة الفقر والبطالة، وهذا ما سنتطرق إليه لاحقاً. ومن التدابير النبوية في هذا المجال:
أولاً: ما ورد في تعليل النهي النبوي عن أكلِ الحمر الأهلية يوم خيبر بالخشية من فنائها وانقراضها، ( وبعض الأخبار ذكرت أنّ مبرر نهي النبي (ص) عن ذبح الحمر الأهلية أو البغال هو حاجة الناس إلى ظهورها، وهذا ما سوف تتم الإشعارة إليه لاحقاً )، ولو بلحاظ المنطقة العربية آنذاك، فإنه نهي سلطاني ولايتي.
ومن الأخبار التي تضمنت هذا التعليال: ما رواه الشيخ الصدوق في "علل الشرائع" و"عيون الأخبار" بإسناده عن محمد بن سنان أنّ الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: "كره أكل لحوم البغال والحمر الأهلية، لحاجة الناس إلى ظهورها واستعمالها، والخوف من فنائها لقلتها لا لقذر خلقها ولا لقذر غذائها"[28]. وفي الفقيه للصدوق أيضاً بإسناده إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع): " .. وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن أكل لحوم الحمر الانسية بخيبر لئلا تفنى ظهورها، "[29]. وعن عبد الله بن جعفر في ( قرب الإسناد ) عن عبد الله بن الحسن ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه ، قال : سألته عن لحوم الحمر الأهلية ، أتؤكل؟ فقال: نهى عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنما نهى عنها ، لأنهم كانوا يعملون عليها ، فكره أن يفنوها"[30].
إنّ المستفاد من هذه الأخبار أنّ أكل لحوم الحمر أو البغال ليس محرماً في أصل الشرع، وإنما نهى عنه النبي (ص) نهي تدبير، حفاظاً على الثروة الحيوانية من الانقراض، مع كونها حاجة ملّحة للإنسان، ومن هنا فإنّ بإمكان الحاكم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحفظ الأجناس الحيوانية من خطر الفناء، استهداءً بما فعله النبي (ص).
ثانياً: اتخاذ الإجراءات الملائمة التي تحدّ من الصيد في بعض المواسم، كموسم تكاثر الحيوانات، ومن ذلك النهي عن أخذ الفراخ من أعشاشها، أو صيدها قبل أن تريش، ويلاحظ أنّ القوانين الوضعيّة تمنع من الصيد في موسم توالد الحيوانات والطيور وتكاثرها، وذلك حفاظاً على الثروة الحيوانية من التعرض لخطر الانقراض، وهذا الأمر قد أكّدته النصوص الإسلامية على لسان النبي الأعظم (ص)، ففي الحديث عنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): "لَا تَأْتُوا الْفِرَاخَ فِي أَعْشَاشِهَا ولَا الطَّيْرَ فِي مَنَامِه حَتَّى يُصْبِحَ. فَقَالَ لَه رَجُلٌ: ومَا مَنَامُه يَا رَسُولَ اللَّه؟ فَقَالَ: اللَّيْلُ مَنَامُه فَلَا تَطْرُقْه فِي مَنَامِه حَتَّى يُصْبِحَ، ولَا تَأْتُوا الْفَرْخَ فِي عُشِّه حَتَّى يَرِيشَ ويَطِيرَ، فَإِذَا طَارَ فَأَوْتِرْ لَه قَوْسَكَ وانْصِبْ لَه فَخَّكَ"[31].
وقد حمل الفقهاء هذا النص على الكراهة، وإن كان ظاهر بعضهم الحرمة، قال العلامة الحلي في المختلف: "مسألة: قال الشيخ: يكره أخذ الفراخ من أعشاشهن، وقال الصدوق وأبوه: ولا يجوز أخذ الفراخ من أوكارها في جبل أو بئر أو أجمة حتى ينهض، فإنْ قصد التحريم صارت المسألة خلافية. لنا: الأصل عدم التحريم"[32].
وتعليقاً على كلام العلامة نقول: إنّ الأصل لا مجال للتمسك به مع وجود الدليل الاجتهادي، وهو الرواية - لو تمّت سنداً[33] وأمكن الوثوق بها - نعم، يمكن القول: إنّ النهي في الرواية يتعيّن حملُه على الكراهة، وذلك لأنّ السيرة جارية على أخذ الفراخ من أعشاشها أو طروقها في الليل، فلو كان ذلك محرَّماً لشاع وذاع. وأيضاً، فإنّ السياق يشهد لذلك، لأنّ طروق الحيوانات ليلاً في أوكارها غير محرم، لما ورد في صحيح أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (ع) عَنْ طُرُوقِ الطَّيْرِ بِاللَّيْلِ فِي وَكْرِهَا؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ"[34]. ونحوه غيره، فهذا يؤيد حمل النهي في الرواية السابقة على الكراهة، إنْ لم نقل إنّه يقتضي ذلك لوحدة السياق، كما ذكر في جامع المدارك[35].
هذا ملخص لما ذكرناه في كتاب الإسلام والبيئة حول هذه المسألة، وما نريد إضافته هنا أنّ المقاربة المذكورة جارية وفق المنهج الأصولي السائد في التعامل مع النصوص الصادرة عن النبي (ص)، والذي ينظر إليها بصفته مبلغاً للحكم الشرعي، مع شبه إغفال للبعد التدبيري في شخصيته، ولكنْ لو أخذنا البعد المذكور بنظر الاعتبار لأمكننا ترجيح أن يكون النهي الصادر عنه (ص) نهيَ تدبير وليس تشريع، وحملُه على ذلك يجعلنا من جهة نحافظ على ظهور النهي في الحرمة ( وإن كانت تدبيرية ) ولا ينافي أصالة الإباحة والحلية.
ثالثاً: النهي عن صيد الحمام في الأمصار
ومن التعاليم ذات الدلالة الخاصة في المقام، ما نصّت عليه الروايات من النهي عن صيد الحمام في الأمصار، فقد روى الصدوق مرسلاً عن أمير المؤمنين(ص) قال: "ونَهَى أمير المؤمنين(ع) عن صيد الحمام بالأمصار"[36]. ونحوه ما في الدعائم[37].
وروي عنه (ع) : " الترخيص في صيد الحمام في القرى دون المدن".
والنهي عن صيد الحمام في الأمصار دون القرى، يمكن تفسيره بأحد وجهين:
الوجه الأول: أنّه ربّما كان تدبيراً يهدف إلى الحفاظ على الحمام في المدن من الانقراض، فإنَّ فتح الباب والمجال أمام الصيد في المدن، يؤدي إلى انقراضه وهجرته منها، بخلافه في القرى والبوادي، فلن يكون له هذا التأثير السلبي الذي يتركه صيده في المدن، كما أنّ إنسان المدينة بحاجة إلى طائر يؤنسه أكثر من إنسان القرية.
والوجه الثاني: هو ما ذكره العلامة المجلسي في البحار بقوله: "وكأن النهي عن صيد الحمام في الأمصار، لكون الغالب فيها الملك"، بخلاف القرى، فإنّ الغالب أنّ الحمام فيها غير مملوك.
ونقل المجلسي عن بعض نسخ الحديث الثاني: "العراء" مكان القرى، والعراء كما قال: "الفضاء لا يستتر فيه بشيء"، وأضاف: "وبالقصر - أي العرى - الناحية والجناب، فالمراد به الصحارى"[38].
أقول: ما ذكره المجلسي في وجه المنع والترخيص قريب، ولكن ذلك لا يمنع من دلالة الحديث على عناية التشريع الإسلامي بحماية الثروة الحيوانية.
النطاق الخامس: حماية المجتمع من الاختراق الثقافي والتحلل الأخلاقي
إنّ حماية الشخصيّة الإيمانيّة من الاختراق الثقافي (الحرب الناعمة) هو أمر حرصت عليه الشريعة في العديد من تعاليمها، وهو دون شكّ يندرج في عداد المبادئ التشريعيّة، ومن هنا نراها حرمت ما يسمى بالتعرّب بعد الهجرة ( التسرب إلى الخارج)، بما هو تعبير تطبيقي لذلك المبدأ، وفحواه أنه لا يُسمح للمؤمن أن يعود إلى حالة من الانقطاع المعرفي والروحي، وهكذا منعت من ترويج أفكار الضلال ( تسرب الفكر المنحرف إلى الداخل)، وهذا أو ذاك يعبّر عن حركة هذه المبادئ وتطبيقاتها، هذه الحركة التي تخضع للكثير من الاعتبارات المتغيّرة، ما يفرض وجود مرونة تشريعيّة، تستدعي أن لا تُملأ هذه المنطقة بأحكام تفصيلية ثابتة من جميع الجوانب، وذلك بهدف إتاحة المجال أمام الحاكم الشرعي لإصدار إجراءات تدبيريّة مواكبة للتغيّر على الصعيد الاجتماعي والثقافي آخذاً بعين الاعتبار ما يستجد من متغيرات، ومنها دخول وسائل الإعلام والتواصل التي جعلت الفكر بمنأى عن المحاصرة، ما يُفقد بعض التدبيرات جدواها بمرور الزمان. وفي رصدنا للتدابير النبويّة نجدُ مجموعة منها تندرج - فيما نرجح - في هذا السياق:
التدبير الأول: إجراءات للحؤول دون الذوبان في الآخر
لا يخفى أنّ النبي (ص) وكذلك بعض الأئمة (ع) قد قاموا باتخاذ سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى منع تماهي المؤمن مع الآخر إلى حد الاندماج والذوبان فيه، بما يفقد الشخصيّة الإيمانيّة استقلاليتها وهويتها الخاصة، وفي هذا السياق يدخل ما أسماه الفقهاء بالنهي عن التشبّه بأهل الشرك أو الكفر أو أعداء الدين، وفي هذا الإطار وردت العشرات من النصوص الروائية[39] المانعة من التشبه بالغير، والآمرة بمخالفة المجوس أو اليهود، فإنّها - فيما يبدو - ترمي إلى حماية الشخصيّة الإيمانيّة من الانسياق مع الآخر إلى حد التماهي بما يعكس تقليداً أعمى أو انهزاماً نفسياً أو يؤسس لذلك.
ونذكر هنا بعض التعاليم التي تدل على ذلك:
-
الأمر بالتلحي بالعمائم: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): "الفرق بين المسلمين والمشركين التلحي بالعمائم"[40]. وقد روى عبد الله بن جعفر في "قرب الإسناد" بإسناده عن جعفر، عن أبيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الفرق بيننا وبين المشركين في العمائم الالتحاء بالعمائم"[41]. وقد علّق الصدوق على الحديث المذكور بالقول: "وذلك في أول الاسلام وابتدائه"[42]. وهو يؤشر على فهمه لكون هذا الحكم مؤقتاً وليس مطلقاً إطلاقاً أزمانياً. وقد ذهب الفيض الكاشاني إلى أنّ التلحي اليوم قد صار من لباس الشهرة فيحرم، قال: "وسنّة التلحي متروكة اليوم في أكثر بلاد الإسلام، كقصر الثياب في زمن الأئمة عليهم السلام، فصارت من لباس الشهرة المنهي عنها"[43].
-
تغيير الشيب، ورد في الحديث عن علي (ع) عن رسول الله (ص): "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود والنصارى"[44]. وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه (ص): "إنّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"[45].
وقد حمل الفقهاء الأمر بتغيير الشيب على الاستحباب، بحجة أنّه ثبت عدم حرمة تغييره وجواز صبغ شعر اللحية والرأس بالحناء، ولكن من المحتمل أنّ يكون ما تضمنه الحديث حكماً تدبيرياً وليس حكماً شرعياً ليحمل على الاستحباب. وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة طائفة أخرى من الأخبار يستفاد منها أنّ ثمة غرضاً آخر وراء تغيير الشيب، وهو إظهار المؤمنين في حالات الحرب بمظهر القوة، وسيأتي ذكر هذه الطائفة.
والتبصر بهذه النصوص وأمثاله يدفع بنا إلى القول: إنّ المقصود الأساس من النهي عن تشبه المسلم باليهود أو المجوس أو المشركين في زيّهم ولباسهم ونحو ذلك هو الحفاظ على الشخصيّة الإيمانية من التماهي مع الآخر في عاداته وطقوسه إلى حد الذوبان به أو التخلي عن مبادئها وقيمها، وغير بعيدٍ أنّ هذا هو العنوان الأصيل والثابت في كل هذه التعاليم، وقد كان إعفاء اللحية مع حفّ الشوارب أحدَ مؤشرات التمايز عنهم، ولكنّ هذا العنوان قد زال وتغير، فلم يعد في حلق اللحى تشبه بالمجوس، ليدعى المسلم إلى مخالفتهم، بل لا يخطر ذلك ببال المسلم الذي يحلق لحيته، ولا سيّما أنّ المجوس أصبحوا شبه منقرضين.
مؤشرات التدبيرية
وثمة مؤشرات عديدة لتدبيرية هذه الإجراءات التي أشرنا إليها:
-
ما ورد في خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله ( ع ) قال: كان أمير المؤمنين ( ع ) يقول: "لا تزال هذه الأمة بخير ما لم يلبسوا لباس العجم ويطعموا أطعمة العجم ، فإذا فعلوا ذلك ضربهم الله بالذل"[46]. فإنّ الظاهر أنّ لبس العجم لا يكون موجباً للذل بشكل تعبدي أو باعتباره نوعاً من العقوبة الإلهيّة للأمة، وإنّما هو جارٍ وفق السنن الإلهيّة، على اعتبار أنّ الأمة التي لا تستطيع أن تلبس مما تنسج هي أمة مكتوب عليها أن تكون ذليلة وتابعة للآخرين
-
إنّ مسألة حرمة التشبه بالكافر إذا كانت تهدف - كما رجحنا - إلى إبعاد المسلم عن التبعيّة للغير فهذه مسألة متحركة تناط بالحاكم فقد يدخل عناصر جديدة في التشبه، ولا مجال لإيكال الأمر إلى آحاد المكلفين لعدم قدرتهم على الإلمام بما قد يكون دخيلاً في وصول المجتمع الإسلامي إلى حالة التبعيّة والمذلة أو لأنّ مصالحهم قد تمنع من الالتزام بذلك فيحتاج ذلك إلى أن يكون الأمر بيد السلطة الشرعية.
-
أننا نلاحظ في المقام أن هذه الروايات في مجملها صادرة عن النبي (ص) وبعضها عن أمير المؤمنين (ع)، أي هي صادرة عمّن تسنى له بالفعل إعمال ولايته العامة في المجتمع والتي تصدر عنها أحكام تدبيرية.
-
وهذا من أهمّ الشواهد القوية على التدبيرية في هذه التعاليم - ما جاء في بعض الروايات من تنصيص على البعد الظرفي في هذه التدابير، من قبيل ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه سُئِلَ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ (ص): "غَيِّرُوا الشَّيْبَ ولَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ"؟ فَقَال (ع): إِنَّمَا قَالَ (ص) ذَلِكَ والدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الآنَ وقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُه وضَرَبَ بِجِرَانِه، فَامْرُؤٌ ومَا اخْتَارَ"[47]. ومن قبيل: صحيح حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ حَضَرْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع وقَالَ لَه رَجُلٌ أَصْلَحَكَ اللَّه ذَكَرْتَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (ع) كَانَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ ومَا أَشْبَه ذَلِكَ، ونَرَى عَلَيْكَ اللِّبَاسَ الْجَدِيدَ! فَقَالَ لَه: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (ع) كَانَ يَلْبَسُ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ لَا يُنْكَرُ عَلَيْه ولَوْ لَبِسَ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ شُهِرَ بِه فَخَيْرُ لِبَاسِ كُلِّ زَمَانٍ لِبَاسُ أَهْلِه، غَيْرَ أَنَّ قَائِمَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ (ع) إِذَا قَامَ لَبِسَ ثِيَابَ عَلِيٍّ (ع) وسَارَ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ (ع)"[48].
-
أنّ الحمل على بيان الحكم المولوي التشريعي سيؤدي إلى التعامل مع تلك الروايات بطريقة تجزيئيّة تفكيكيّة، فيحمل بعضها على الكراهة أو الاستحباب، بينما يُحمل البعض الآخر على الوجوب، مع أنّ اللسان في الجميع هو لسان واحد، فقوله (ص): "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" لا يفرق عن قوله (ص) "واعفوا اللحى ولا تشبهوا بالمجوس" أو "باليهود"، بينما الحملُ على التدبيريّة يجعلنا نحافظ على ظهور تلك الروايات وحملها بأجمعها على الإلزام التدبيري.
التدبير الثاني: ما دلّ على نجاسة الكافر، فإنّ النجاسة فيما يرى بعض الفقهاء لا يراد بها النجاسة المادية، وإنما النجاسة المعنوية، ويذهب بعضهم إلى أنّ الحكم بالنجاسة يحمل في ثناياها دعوة إلى الحذر من مخالطة الآخرين مخافة الاندماج فيهم والتأثر بأفكارهم وعقائدهم، يقول: "وتختلف فلسفة وحكمة نجاسة الكافر عن سائر النجاسات ، فهي في الحقيقة تعليم سياسي أراد الإسلام من أتباعه رعايته ، والهدف منه إيجاد حالة ابتعاد ونفرة عامة عن الخارجين عن مجتمع المسلمين ، لكي لا يبتلي المسلمون بعقائدهم وأفكارهم الفاسدة"[49].
التدبير الثالث: إجراءات لحماية الأمن الأخلاقي
فقد ذكر الجاحظ "وكان علي (رضي الله تعالى عنه) بالكوفة قد منع الناس من القعود على الطريق فكلّموه في ذلك، فقال: أدعكم على شريطة، قالوا: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: غضّ الأبصار وردّ السلام وإرشاد الضلال، قالوا: قد قبلنا فتركهم"[50]. والمنع من الجلوس في الطرقات، مع أنه جائز بحسب الأصل، كان - فيما نرجح - حكماً تدبيرياً يهدف إلى حماية الأمن الأخلاقي، كما يفهم من أمره بغضّ الأبصار.
النطاق السادس: قضايا الحرب والسلم
إنّ إدارة الحرب لجهة الإذن بالشروع بها أو إيقافها، أو غير ذلك مما يتصل شروط الصلح مع العدو .. كلّه بيد الحاكم، والذي يفترض به أن يتحرى المصلحة العامة في قراراته، مستعيناً بأهل الخبرة والاختصاص، وهذا أمر واضح لا ينبغي التشكيك فيه. وفي هذا السياق نلحظ وجود تعليمات مروية عن رسول الله (ص) نرجّح أنّها صدرت عنه بصفته القياديّة:
التدبير الأول: إجراءات تشجعيّة/ من قتل قتيلاً فله سلبه
ورد في الحديث النبوي: "من قتل قتيلاً فله سلبه"[51]، وهذا المضمون يمكن ترجيح كونه إجراءً تدبيرياً ذا طابع تشجيعي، وقد نقل الشهيد الأول هذا المثال واختلاف الرأي في شأنه، حيث نقل عن بعضهم أنّ قوله (ص): "من قتل قتيلاً فله سلبه"، هو: "فتوى، فتعمّ، وهو قول ابن الجنيد"، وأضاف: "وقيل: تصرف بالإمامة، فيتوقف على إذن الإمام، وهو أقوى هنا.."[52]، وقد سبقه القرافي إلى ذكر هذا المثال وبيان اختلاف الرأي فيه[53].
أقول: نسجل في المقام وقفتين:
الوقفة الأولى: إنّ ثمّة رأياً في المقام لا يرى أصحابه أنّ السلب هو من حق السالب، وإنما هو جزء من الغنيمة، قال السيد الخوئي: "قد وقع الخلاف في حكم السلب وأنه هل يختص بالمقاتل السالب أو أنه غنيمة كساير الغنائم يشترك فيها جميع المقاتلين بعد إخراج خمسه؟ والمعروف بين العامة هو الأول لما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله من أنّ "من قتل قتيلاً فله سلبه وسلاحه"، ولكن الرواية لم تثبت من طرقنا ومن ثم كان المعروف بيننا هو الثاني فيجب تخميسه كساير الغنائم عملاً بالاطلاقات"[54].
ومن الممكن أن يقال: إنّ الرواية المذكورة وإن لم ترد في مصادر الشيعة، لكن بسبب تضافر روايتها يحصل الوثوق بها، فقد رواها المحدثون من أهل السنة وروتها المصادر التاريخيّة أيضاً[55]، وكذلك ذكره كبار أئمة اللغة[56]، وقد أرسله الكثير من فقهاء الشيعة وأعلامهم[57] إرسال المسلمات.
الوقفة الثانية: إنّ إباحة السلب فيما يبدو كانت حكماً تدبيرياً، وليس تشريعاً، وذكر الشهيد الأول أربعة وجوه لتقريب التدبيريّة فيها، أو ما أسماه التصرف بالإمامة:
-
"لأنّ القضيّة في بعض الحروب، فهي مختصة بها.
-
"ولأنّ الأصل في الغنيمة أنْ تكون للغانم، لقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء...} [ ]، فخروج السلب منه ينافي ظاهرها.
-
ولأنّه يؤدي إلى حرصهم على قتل ذي السلب دون غيره، فيختل نظام المجاهدة.
-
ولأنه ربما أفسد الإخلاص المقصود من الجهاد"[58].
ثم أضاف: "ولا يعارض بالاشتراط ( بإذن الامام )، لأنّ ذلك إنما يكون عند مصلحة غالبة على هذه العوارض"[59].
أقول تعليقاً على هذه الشواهد:
أمّا الشاهد الأول، فإنّ كون القضيّة في بعض الحروب صحيح، فهذا وارد عنه (ص) في معركة بدر[60]، وكذلك روي أنّه قاله يوم حنين[61]، لكن هذا لا يعدّ شاهداً على التدبيرية أو التصرف بالإمامة، فالمورد لا يخصص الوارد إلا إذا قامت قرينة على ذلك، أجل، قد يقال: إنّ صدور الإذن أثناء المعركة مع تكرار الإذن منه في أكثر من معركة يعدّ شاهداً على التدبيرية، لأنه لو كان حكماً شرعياً لصدر منه ولو قبيل المعركة واكتفي به مرة، فتأمل.
وأما الشاهد الثاني فقد يناقش فيه: صحيح بأنّ الظاهر من الآية أنّ الغنائم هي للغانمين، والسلب من الغنيمة، فإعطاؤه للسالب خلاف الظاهر، لكن هذا - عند المشهور القائلين بجواز تخصيص الكتاب بأخبار الآحاد - لا يوجب حمله على التدبيرية، ولمَ لا يكون مخصصاً لإطلاق الآية؟!
أمّا الشاهد الثالث، فلا بأس به، فإنّ إعطاء السالب حقاً ثابتاً في السلب يؤدي إلى خلل في نظام القتال، لأنّ ذلك يدفع المقاتلين إلى اختيار ذي السلب النفيس، ولا سيما أن السلب غدا في أيامنا ذا قيمة عالية في بعض الأحيان.
وأما الشاهد الرابع، فيلاحظ عليه، أنّ هذا من قبيل الضميمة التي لا تنافي قصد القربة، على أنه لو كان يمنع تشريع أخذ السلب لمنع من تشريع الغنيمة، فإن البعض قد بدفعهم حب الغنيمة إلى القتال.
وقد يذكر شاهد خامس على التدبيرية، وهو أنّ الجند في ذلك الزمان، كانوا متبرعين بالقتال، بينما اليوم قد تغيّر هذا الأمر، فغدا المقاتلون موظفين وأجراء عند الدولة، ولهم رواتبهم الشهرية من مالية الدولة، وقد اعتمدت الدول فكرة الجيش النظامي.
إلا أن يقال: إنّ هذا لا يعني تدبيرية الحكم، بل إنه يعني أنّ لا إطلاق لأدلة السلب لهذه الصورة المستجدة.
وقد رجح الشيخ المنتظري التدبيرية في قضية السلب، قال رحمه الله: " الظاهر من الروايات بعد إرجاع بعضها إلى بعض كون السلب نفلاً منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحكماً سلطانياً منه في الموارد الخاصّة، تشويقاً لأصحابه في أمر الجهاد والمبارزة، وليس في كلامه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يشهد بكونه في مقام بيان حكم كلّي ثابت لجميع الأعصار والموارد حتى يخصص به عمومات تقسيم الغنيمة بين الجميع بالسوية"[62].
وكيف كان فاحتمال التدبيرية إن لم يكن هو الأرجح فلا ريب أنه قائم، وعند دوران الأمر بين التخصيص والتدبير، فالأرجح - كما عرفت - هو الحمل على التدبير.
التدبير الثاني: ضرورات الحرب وتقييد بعض الحريات
لا يخفى أنّ من مقتضيات الحرب في كثيرٍ من الأحيان اتخاذ إجراءات استثنائيّة، تمنع من كل ما من شأنه إضعاف جبهة أهل الحق، حتى لو كانت هذه الإجراءات تحدّ من سلطة الناس على أموالهم أو أنفسهم. ونلاحظ في سيرة النبي (ص) أنه اتخذ بعض هذه الخطوات، ونذكر لذلك بعض النماذج:
النموذج الأول: النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية في حال حاجة الحرب إليها لغرض حمل المقاتلين والعتاد عليها، ففي الخبر الصحيح عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وزُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع أَنَّهُمَا سَأَلَاه عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّه ص عَنْهَا وعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فِي الْقُرْآنِ"[63].
وروى الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الليثي قال: حدثني جعفر بن محمد ( ع ) قال : سئل أبي عليه السلام عن لحوم الحمر الأهلية ، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن أكلها، لأنها كانت حمولة للناس يومئذ. وإنما الحرام ما حرم الله في القرآن"[64]. ونحوهما ما جاء في أحاديث أخرى[65]. وقد تقدم الاستشهاد بطائفة من الأخبار، وهي التي عللت النهي عن ذبحها وأكلها بالخوف من فنائها.
إنّ نهيه (ص) أكل لحوم الحمر الأهليّة يوم خيبر لم يكن نهي كراهة، كما اعتقد كثيرون[66] وإنما نهي إلزام ومنع، ولكنه ليس نهياً تشريعياً بل تدبيرياً:
أمّا أنّه نهي إلزام وليس نهياً يجامع الترخيص، فيشهد له:
أولاً: أن ظاهر النهي هو الإلزام بالترك.
ثانياً: أمر (ص) بإكفاء القدور، فإنّ ذلك لا ينسجم مع الكراهة الشرعية، فمن يتناول المكروه لا يؤمر بإراقته، ولا سلطة لنا عليه بذلك، بل إنّ الإراقة فيها نوع إسراف، وعليه فيكون ذلك شاهداً على الإلزام التدبيري.
وأما أنّه ليس نهياً تحريمياً شرعياً، فيشهد له:
أولاً: قوله (ع): "وإنما الحرام ما حرّم الله في القرآن"، فحيث إن الإمام (ع) يقرّ بعدم الحرمة الشرعية فلا بدّ أن يكون الإلزام بتركه إلزاماً سلطانياً.
ثانياً: مناسبة صدور النهي، وهو ظرف الحرب، وكذلك التعليل بأنها حمولة الناس، فإنّ الحفاظ على ( وسائل التنقل ) في الحرب هو حاجة ملّحة تستدعي صدور إلزام بذلك.
وقد تسأل: لماذا أمر (ص) بإكفاء القدور وإهراق ما فيها كما ذكرت بعض الأخبار؟ فلمَ لا يسري الإلزام التدبيري بحرمة ذبحها بعد أكلهم لما في القدور من لحومها؟ فحيث أمر (ص) بإكفاء ما في القدور فهذا يدلُّ على الحرمة الشرعيّة.
والجواب: إنّ ثمّة جماعة - فيما يبدو - لم تمتثل لأمر النبي (ص)، وأصرّوا على مخالفته، ما دفعه لإصدار أمرٍ بإكفاء القدور بما فيها من لحوم الحمر، عقوبة لهم على مخالفته[67]، أو ردعاً لهم حتى لا يعودوا إلى مخالفة أوامره.
وقد يرد على الخاطر احتمالٌ آخر في تفسير أمرِه بإكفاء القدور، وهو أنّه كان مقدمة لمنع الذبح، أي أنّ القدور التي أمر النبي (ص) بإكفائها لم تكن قدوراً فيها من لحوم الحمر، وأمر بإراقتها، وإنّما هي قدورٌ كانت تُعدُّ لهذا النوع من الطبخ وقد جهزت مقدمة لذبح الحمر فأمر بإكفائها ومنعهم من ذبح الحمر، وربما يشهد به ما في خبر أَبِي الْجَارُودِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَجْهَدُوا فِي خَيْبَرَ فَأَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَوَابِّهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّه ص بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ ولَمْ يَقُلْ إِنَّهَا حَرَامٌ وكَانَ ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى الدَّوَابِّ"[68]، فإن الإبقاء على الدواب لا يكون بإلقاء ما قد ذبح بل بالمنع من ذبح الباقي منها، والإسراع في الدواب، يقصد به الإسراع إلى ذبحها، ولولا نهيه لذبحوها.
النموذج الثاني: منع الناس من ترك البلد الذي أصابه الوباء
وهذا ما ورد في مجموعة من الأخبار والتي تقدمت الإشارة إليها، في التدابير ذات البعد الصحي، وقلنا هناك إنّ ما ورد عن أهل البيت (ع) في موضوع الفرار من الطاعون، يربط المسألة ببعد عسكري، وهو حفظ الثغور خشية أن تخلو من المجاهدين، ففي صحيحة الحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع عَنِ الْوَبَاءِ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْمِصْرِ فَيَتَحَوَّلُ الرَّجُلُ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى أَوْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ فَيَخْرُجُ مِنْه إِلَى غَيْرِه فَقَالَ لَا بَأْسَ إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّه ص عَنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ رَبِيئَةٍ[69]، كَانَتْ بِحِيَالِ الْعَدُوِّ فَوَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ فَهَرَبُوا مِنْه فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ص الْفَارُّ مِنْه كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْلُوَ مَرَاكِزُهُمْ"[70].
التدبير الثالث: إظهار ملامح القوة
إنّ بناء المجتمع العزيز والقوي يستدعي إصدار تدابير خاصة تحافظ على مظاهر القوة والاستعداد في المجتمع، حتى لا يطمع الأعداء بالمؤمنين أو يتملكهم إحساس نفسي بقدرتهم على الغلبة. على أنّ الظهور بمظهر القوة لا يخيب ظنون الأعداء فحسب، بل سيشكل سلاحاً نفسياً مؤثراً بشكل سلبي في الجبهة المعادية، وهذا معنى قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60]. وقد يصلُ الأمر إلى حدّ إعلان حالة الطوارئ العسكرية في المجتمع، والتجنيد الإلزامي وما إلى ذلك.
وفي سيرة النبي (ص) نلاحظ أنه قد أصدر العديد من التدبيرات التي يمكن درجها في هذا الإطار، وإليك بعض النماذج الدالة على ذلك:
النموذج الأول: الهرولة وإخراج الأعضاد في الطواف
من المعروف أنه في السنة السابعة من الهجرة حصلت عمرة القضاء حيث دخل النبي (ص) مكة المكروة وكانت لا تزال تحت سلطة المشركين، وأثناء دخوله إليها أصدر النبي (ص) بعض التعليمات ذات الطابع التدبيري، منها أنه أمر المسلمين بالهرولة أثناء الطواف، فقد روى الشيخ الصدوق عن أبيه رحمه الله قال حدثنا سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله عن ابن فضال عن ثعلبة عن زرارة أو محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الطواف أيرمل فيه الرجل ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما ان قدم مكة وكان بينه وبين المشركين الكتاب الذي قد علمتم ، أمر الناس أن يتجلدوا وقال : أخرجوا أعضادكم وأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله عضديه ثم رمل بالبيت ليريهم انهم لم يصبهم جهد ، فمن أجل ذلك يرمل الناس واني لامشي مشياً، وقد كان علي بن الحسين يمشي مشياً"[71].
وقال أيضاً: "وبهذا الإسناد عن ثعلبة عن يعقوب الأحمر قال : قال أبو عبد الله عليه السلام كان في غزوة الحديبية وَادَعَ رسول الله صلى الله عليه وآله أهل مكة ثلاث سنين، ثم دخل فقضي نسكه، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وآله بنفر من أصحابه جلوس في فناء الكعبة، فقال: هؤلاء قومكم على رؤس الجبال، لا يرونكم فيروا فيكم ضعفاً، قال: فقاموا فشدوا أزرهم وشدوا أيديهم على أوساطهم ثم رملوا"[72].
ونقل في الوسائل عن أحمد بن محمد بن عيسى في ( نوادره ) عن أبيه ، قال : سئل ابن عباس فقيل له : إن قوما يروون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر بالرمل حول الكعبة ؟ فقال: كذبوا وصدقوا ، فقلت: وكيف ذاك ؟ فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دخل مكة في عمرة القضاء وأهلها مشركون ، وبلغهم أن أصحاب محمد مجهودون ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رحم الله امرأً أراهم من نفسه جلداً، فأمرهم فحسروا عن أعضادهم ورملوا بالبيت ثلاثة أشواط ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ناقته ، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمامها والمشركون بحيال الميزاب ينظرون إليهم ، ثم حج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد ذلك فلم يرمل ولم يأمرهم بذلك ، فصدقوا في ذلك وكذبوا في هذا"[73].
وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وننقل كلامه لأهميته، فعن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : يزعم قومك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة ، قال : صدقوا وكذبوا ، قلت : وما صدقوا ، وما كذبوا ؟ قال: صدقوا قد رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا ليس بسنة ، إنّ قريشاً قالت زمن الحديبية : دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف ، فلمّا صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أرملوا بالبيت ثلاثا "، وليس بسنة ، قلت : يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعيره ، وأن ذلك سنة ، فقال : صدقوا وكذبوا ، قلت : ما صدقوا وما كذبوا ؟ قال : صدقوا قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعيره ، وكذبوا ليس بسنة ، كان الناس لا يُدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يُصرفون عنه ، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم"[74]. وفي خبر آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمّى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله سلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم"[75].
وفي خبر آخر عن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا مما يلي الحجر وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جَلَدَهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا، قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلّها إلا الإبقاء عليهم"[76].
وقد أفتى جمعٌ من فقهاء أهل السنة باستحباب الرمل، يقول النووي: "اتفق الشافعي والأصحاب على استحباب الرمل في الطوفات الثلاث للحديث السابق مع أحاديث كثيرة في الصحيح مثله، قالوا: والرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى... قال أصحابنا: ويسنُّ الرمل في الطوفات الثلاث الأول ويسنُّ المشي على الهينة في الآخرة.."[77].
ولكنْ الحمل على الاستحباب لا وجه له، لأنّ ظاهر أمره (ص) هو الإلزام، وحيث إنّ المستفاد من الأخبار المتقدمة أنّ الحكم الأوّلي في الطواف هو تخيّر المكلف بين الإسراع أو الإبطاء فيه، كما جاء في بعض الروايات الواردة عن الأئمة من أهل البيت (ع)[78]، فلا مفر من أن يكون أمر النبي (ص) لأصحابه في عمرة القضاء بالرمل (الهرولة) حول الكعبة أمر تدبيرياً، وقد صدر عنه بوصفه قائداً واجب الطاعة، وهدفه أن يُري عتاة قريش تجلّده وقوته وتجلّد أصحابه وقوتهم. وهذا ما فهمه ابن عباس، حيث أكد أنّه ليس كل ما فعله النبي (ص) هو سنة.
النموذج الثاني: خضاب الشيب
قد تقدم هذا المثال في سياق الاستشهاد على التعاليم التدبيرية الرامية إلى حفظ الهوية المستقلة وعدم الذوبان في الآخر، والغرض هنا هو الاستشهاد بخضاب الشيب من زواية إظهار ملامح القوة في بعض الحالات، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): أنه سُئِلَ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ (ص): "غَيِّرُوا الشَّيْبَ ولَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ"؟ فَقَال (ع): إِنَّمَا قَالَ (ص) ذَلِكَ والدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الآنَ وقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُه وضَرَبَ بِجِرَانِه، فَامْرُؤٌ ومَا اخْتَارَ"[79].
وفي رواية أخرى عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: دخل قوم على علي بن الحسين(ع) فرأوه مختضباً بالسواد فسألوه عن ذلك؟ فمدّ يده إلى لحيته ثمّ قال: "أمر رسول الله(ص) أصحابه في غزوة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا على المشركين"[80].
إنّ المستفاد من هذين الخبرين أنّ الخضاب مباح في نفسه، وللمسلم أن يفعله أو يتركه، ولكنّ النبي (ص) إنما أمر به، لغرض إظهار القوة، لأنه يُظهر المقاتلين على هيئة الشباب، وهذا له دور في إرهاب الأعداء وإدخال الرعب في نفوسهم. ويؤيد ذلك ما في معتبرة إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (ع) قَالَ: فِي الْخِضَابِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: مَهْيَبَةٌ فِي الْحَرْبِ، ومَحَبَّةٌ إِلَى النِّسَاءِ، ويَزِيدُ فِي الْبَاه"[81].
وهذا لا ينافي ما جاء في أحاديث أخرى من وجود ملاكات أخرى في الخضاب، وقد تدعو للقول باستحبابه إذا تمت الأخبار، فقد جاء في بعض الروايات ما يشير إلى أنّ الخضاب هو نوع زينة وتجمل، والتزين والتجمل أمر ندبت إليه الشريعة، وهذا ما رواه الشريف الرضي أنه قِيلَ لَعلي (ع) لَوْ غَيَّرْتَ شَيْبَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ (ع): "الْخِضَابُ زِينَةٌ، ونَحْنُ قَوْمٌ فِي مُصِيبَةٍ"، يُرِيدُ وَفَاةَ رَسُولِ اللَّه (ص)"[82].
ولكن قد يقال: إن هذا السؤال الموجّه لعلي (ع) هو في زمن ولايته، كما يظهر من مناداته بأمرة المؤمنين (ع)، واستمرار الحزن والعزاء على النبي (ص) والمصيبة بموته الداعية إلى اجتناب الزينة إلى ذاك الزمن أمر بعيد.
اللهم إلا أن يقال: إنّ تفسير المصيبة بوفاة الرسول (ص) هو من الشريف الرضي، ولعله مشتبه بذلك، فربما كان الإمام يقصد مصيبته بأحد أصحابه وإخوانه أو أهل بيته.
وبصرف النظر عن ذلك، فإنّ كون الخضاب زينة هو أمرٌ متغير، فربما يغدو منفراً، خصوصاً في بعض أنواع الصباغ، مثل الصباغ باللون الأحمر أو ما هو قريب منه مما يفعله بعض المسلمين في أيامنا.
وقد قدمنا سابقاً أنه ورد في بعض الأحاديث: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود". وهذا فيه إشارة إلى ملاك آخر في الخضاب، وهو عدم مشاكلة اليهود، وقد تقدم الحديث عن ذلك، راجع النطاق الرابع المتقدم.
إشكال ورد
هذا ولكن ربما يعترض على هذه الأمثلة بأنه لا علاقة لها بالحكم التدبيري، وإنّما المسألة تندرج في إطار تغيّر الحكم بتغيّر الموضوع، فالوجه في اختلاف حكم النبي (ص) بتغيير الشيب عن حكم الإمام (ع) الذي حكم بأنّه لا ضرورة لتغييره، هو تغيّر الموضوع، فما يستفاد من كلام علي (ع) أنّ موضوع حكم النبي (ص) الداعي إلى تغيير الشيب هو صورة ما إذا كان المجتمع الإسلامي ضعيفاً وفي حالة حرب، أمّا إذا أصبح قوياً فينتفي موضوع تغيير الشيب. وهكذا الحال في تحريم الحمر الأهلية، فإنّ ما صدر عن النبي (ص) ليس حكماً تدبيرياً وإنّما هو حكم تشريعي لكنه مقيّد بصورة الحاجة الماسة إلى ظهور الحمر وغيرها من النعم للاستفادة منها في معركة أو غيرها، والأمر عينه ينطبق على الهرولة في الطواف، وغيرها من الأمثلة المتقدمة، وبعبارة أخرى: إنّ الإمام يريد أن يبيّن لنا أنّ ما صدر عن النبي (ص) هو حكم الضرورة، بينما الحكم في صورة الاختيار هو جواز تغيير الشيب أو حلية أكل لحوم الحمر الأهلية.
ويلاحظ على ذلك:
أولاً: إنّ مفاد الاعتراض المتقدّم أنّ النبي (ص) في الأمثلة المذكورة إنما كان بصدد بيان الحالة الاستثنائية الثانوية وهي حالة الضرورة، وهذه خلاف ظاهر كلامه، فإنّه عندما يقول "غيّروا الشيب"، فكلامه ظاهر في بيان الحكم الأولي ولو أنه كان بصدد بيان حالات الضرورة لاستخدم تعبيراً آخر أكثر دلالة على المعنى، بل ولأشار في ثنايا كلامه إلى الحكم الأولي الاختياري، وأن ما يقوله ليس سوى حكم المسألة في صورة الاضطرار. إنّ حكم الضرورة حكم استثنائي، والأحكام الاستثنائية لا تصدر عن المشرّع الحكيم إلا بعد بيان حكم المسألة على وفق القاعدة الأولية، مع أنّه لم يصدر عنه بيان ذلك، وإنما صدر عن الأئمة المتأخرين (ع).
ثانياً: إنّ في الروايات المذكورة العديد من المؤشرات والقرائن على التدبيرية، إنْ لجهة المؤشرات التعبيرية، أو لجهة المورد، حيث إنّ الأخبار تعالج حالات طارئة وذات بعد نظامي وعسكري، ومعلوم أنّ هذا المجال هو مجال خصب لإصدار التدبيرات المناسبة في سبيل حفظ قوة المجتمع والانتصار على العدو أو تحقيق توازن القوة والردع معه. وقد أورنا العديد من القرائن الخاصة على التدبيرية عقيب كل تدبير أو نموذج مما تقدم الحديث عنه.
التدبير الرابع: التعامل بالمثل
من التدابير التي تقتضيها ظروف الحرب: التعامل مع الأعداء بالمثل، والتعامل بالمثل هو مبدأ عقلائي ويجري العمل به بين الدول، ولا يبعد اندراجه - في الجملة - تحت قاعدة العدل والإنصاف، كما يمكن الاستدلال والاستشهاد عليه، بالعديد من الأدلة، منها قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [ البقرة: 194]، أو قوله سبحانه { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 7]،
وبالإمكان اعتماد هذا المبدأ في المجالات الاقتصادية[83] والدبلوماسية[84] والحربية، والغرض من التمسك به في المجال الأخير أن يُمنع الآخرون من التمادي في الغيّ والعدوان، فمن ينتهك الحرمات ولا يمكن ردعه إلا بالمثل فلا ضير من التعامل معه على هذه الأساس، فلو كان العدو لا يتورّع عن قصف المدنيين، ويستخدم ذلك سلاحاً لتأليب الرأي العام في الجبهة الداخليّة ضد المجاهدين، ولا يمكن ردعه عن ذلك إلا بقصف مدنييه، فيمكن المعاملة معه بالمثل، وإن كان قصفهم من حيث المبدأ محرماً. وطبيعي أنّ تطبيق هذا المبدأ وتعيين مصاديقه، إنما يكون بيد الحاكم الشرعي، ولا يترك إلى آحاد الناس.
وإنّنا نرجح أن يكون الأخذ بفكرة السبي في الإسلام من جملة الأحكام التدبيرية تطبيقاً لهذا المبدأ، وبيان ذلك أننا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتحدث عن قضية السبي كخيار في التعامل مع أسرى العدو، وإنما تحدث عن خيارين آخرين: وهما المن والفداء، قال تعالى : {حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ} [محمد: 4] وأما قضيّة السبي التي مارسها المسلمون في الزمن السابق فكانت - فيما نرجح - إجراءً تدبيريا اعتمده مع الآخرين على قاعدة التعامل بالمثل، لأن السبي كان أسلوباً شائعاً ومألوفاً في ذلك الزمان عند كافة الشعوب ، وأما اليوم، فإنّ المسألة تكون بيد الحاكم الشرعي، بحسب ما يشخص من المصلحة العامة للمسلمين، ومن الواضح أنّ السبي في زماننا لم يعدْ خياراً واقعياً ومقبولاً في ظلّ القوانين الدوليّة الرافضة لمسألة السبي والاسترقاق، وبالتالي فليس فيه مصلحة للمسلمين، ولا حاجة لاستخدامه، مادام أنّ الآخر لا يأخذ بمسألة السبي في حروبه مع المسلمين ، ومما يؤكد ذلك أنّ الاسلام ينحاز الى حرية الانسان انحيازا مطلقاً، ولذا فقد حارب الرق على طريقته الخاصة من خلال اعتماد أسلوب تدريجي للقضاء على أقذر تجارة عرفتها البشرية ، وهي بيع الانسان لأخيه الانسان[85].
التدبير الخامس: الأمر بقتال بعض الفئات
ومن الأحكام السلطانية في باب الجهاد: الأمر بقتل المشركين، وذلك حسبما ذكر الإمام الخميني في "قاعدة لا ضرر"، قال رحمه الله تعليقاً على قوله (ص): "اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم"[86]. قال: "والظاهر أنّ هذا أمر سلطاني متوجه بالجيوش"[87]. أي إنه يقصد أنّ الأمر بالقتل هو في ظرف قيام الحرب وليس بياناً لحكم شرعي، ليستفاد منه جواز قتل المشركين بقول مطلق.
وقد رجح بعض الفقهاء هذا المعنى، في تعليقه على ما ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع) عن رسول الله (ص): " لَسْتُ آخُذُ الْجِزْيَةَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ"[88]. حيث رجح أنّ عدم أخذ الجزية من غيرهم هو حكم سلطاني وليس حكماً إلهياً، وبالتالي يجوز للحكام من بعده (ص) تغيير الموقف في المسألة إذا رأوا مصلحة في ذلك، بأن لا يقاتلوا المشركين بل يأخذوا الجزية منهم، ما يعني أنّ نظام الذمة لا ينحصر العمل به بأهل الكتاب، معتبراً أنّ ظاهر الحديث يساعد على هذا الفهم[89]، وربما كان نظره إلى قوله (ص): "لست آخذ"، حيث نسب الأخذ إلى نفسه لا إلى الله سبحانه، وهذا أحد قرائن التدبيريّة، كما أسلفنا.
ويشهد له ما رواه الشيخ بإسناده عن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن وهيب عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الجزية فقال:" إنّما حرّم الله تعالى الجزية من مشركي العرب"[90]، ما يستفاد منه عدم المنع من أخذها من سائر المشركين.
يقول المنتظري: "وكيف كان، فالحكم بوجوب قتل من لم يسلم من غير أهل الكتاب بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع، فاللازم إحالة أمرهم إلى إمام المسلمين وحاكمهم فيراعى ما هو الأصلح"[91].
وتدبيرية حكم الجزية يعني أنّه يمكن أن لا تؤخذ الجزية حتى من أهل الكتاب، والأخذ بهذا الفهم يحتاج إلى مراجعة سائر نصوص الجزية، مع ملاحظة النظرة الإسلامية إلى نظام الحكم بشكل عام، وقد يكتشف الباحث أنّ نظام الذمة بكل عناصره ومرتكزاته ومنه مسألة الجزية، ليس هو النظام الوحيد في إدارة العلاقة مع سائر الجماعات الدينية في الدولة الإسلامية.
ولكنْ قد تذكر بعض الآيات القرآنية كدليلٍ على مشروعيّة قتل المشركين، ومن أبرزها قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
ويلاحظ على الاستدلال بالآية الشريفة بأنّ سياقها يدلّ على أنّ الكفر ليس سبباً مستقلاً للقتل والقتال، والقرائن السياقية الدالة على ذلك هي:
أولاً: إنّ السياق وتحديداً ما جاء بعد هذه الآية بعدة آيات، عنيت قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] يشرح السبب في أن لا يكون لهؤلاء المشركين عهد عند الله، والسبب هو أنّهم إذا تمكّنوا منكم لغدروا بكم. وهذه قرينة واضحة على أنّ هؤلاء إنّما يقاتَلون ولا يُصغى إلى عهودهم، لأنّهم مترصّدون للمؤمنين ويكيدون لهم، فلو كان هناك جماعة مسالمة من أهل الكتاب أو غيرهم ولا يكيدون للمؤمنين ولا يتربّصون بهم شرّاً، بل ربما تعاطفوا معهم، كما هو حال الكثيرين من المسالمين القاطنين في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، فهؤلاء لا تشملهم الآية.
ثانياً: كما أنّ الآية السابقة عليها، وهي قوله: { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [ التوبة 4] توحي بأن الذين صدر الأمر بقتالهم هم الذين لم يفوا بالعهد وظاهروا على محاربة المسلمين.
ونكتفي بهذا القدر في بحث المسألة، ونرجأ الحديث التفصيلي إلى محله[92].
النطاق السابع: الضرائب والماليات
لا يخفى أنّ الاقتصاد هو عصبُ الحياة بكل أبعادها، كما أنّ الاستقرار الاقتصادي هو عنصر مهم لا غنى عنه في استقرار الحياة الاجتماعية والسياسية والأمنية، ويعدّ الاهتزاز الاقتصادي مدخلاً كبيراً للقوى المهيمنة وأداة خطرة بيدها للضغط على الحكومات والشعوب التي لا تنصاع لسياساتها، وغير خافٍ أيضاً أنّ النظام الاقتصادي والماليّ ليس جامداً، بل إنه يشهد الكثير من الحيويّة والتطورات المستمرة والتي تستدعي مواكبة قانونية وتشريعية ملائمة.
ونحن نرى أنّ المشرِّع الإسلامي وإدراكاً منه لهذه الحقيقة فقد جعل رزمة من الأحكام التشريعيّة التي تُعدّ من المبادئ الثابتة في الاقتصاد الإسلامي، وتعدّ علامات فارقة تميز هذا الاقتصاد عن غيره، من قبيل تحريم القمار والربا والغش والاحتكار وغير ذلك[93]، وفي الوقت عينه أبقى دائرة مرنة لم يملأها بالأحكام الثابتة، ليعطي الحاكم صلاحيّة اتخاذ الإجراءات الملائمة، حماية للاقتصاد العام ورعاية للعدالة الاجتماعيّة.
من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)
[1] صحيح البخاري، ج 4، ص 34، وسنن ابن ماجة، ج 2، ص 1337.
[2] تاريخ مدينة دمشق، ج 42، ص 479.
[3] نهج البلاغة ج 3، ص 94.
[4] القضاء في الفقه الاستدلالي للسيد الحائري ص67. ويشير إلى الولايتية أيضاً كلام الشهيد الصدر، انظر: بحوث في علم الأصول، ج 5، ص 90.
[5] فقه القضاء، ج 1، ص 154.
[6] نهج البلاغة، ج 3 ص 105.
[7] الفتاوى المنتخبة ج 1 ص 152.
[8] نهج البلاغة، ج 3، ص 70.
[9] بحوث في علم الأصول، ج 5، ص 90، وفي تقريره الآخر قال: "وجب الاحتياط إما وجوبا صادراً منه عليه السلام بملاك الولاية باعتباره إماما مسؤولا عن حفظ جهات الرعيّة في عصره وموليا لعثمان بن حنيف على البصرة، وعليه، فيكون هذا الحكم بالاحتياط خاصّا بولاته ، ولا يعمّ جميع ولاة المسلمين غير المنصوبين من قبله بما هو إمام . وإمّا وجوباً صادراً منه بما هو مبيّن للشريعة، فيكون حكماً كليّا على كلّ حاكم يلي أمور المسلمين في كلّ زمان وكلّ مكان "، مباحث الأصول، ج 3، ص 405.
[10] قال ابن حزم الظاهري: "ولا يحل أن يهرب أحد عن الطاعون إذا وقع في بلدٍ هو فيه... ولا يحل الدخول إلى بلدٍ فيه الطاعون لمن كان خارجاً عنه حتّى يزول" المحلى، ج 5، ص173. أمّا في الفقه الشيعي، فقد ذهب إلى هذا الرأي، الفيض الكاشاني، حيث قال:
إن الفرار من الطاعون منهيٌّ عنه، وذكر السيد عبدالله الجزائري شارح النخبة: أنَّ أصحابنا قالوا بحرمة الفرار من الطاعون، وزاد بعضهم فامتنع عن الصلاة على الميت .
في المقابل، ذهب السيد كاظم اليزدي إلى جواز «الفرار من الوباء والطاعون، وما في بعض الأخبار من أن الفرار من الطاعون كالفرار من الجهاد، مختص بما كان في ثغر من الثغور، لحفظه".
وذهب السيد نعمة الله الجزائري إلى أبعد من الجواز، فقال بوجوب الفرار، وألّف رسالةً في ذلك أسماها «مسكّن الشجون في حكم الفرار من الطاعون»، ومستنده في القول بالوجوب، هو الأخبار المتضافرة الآمرة به، كما نقل عنه.
[11] سرغ "هي قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز وقال البكري : سرغ مدينة بالشام افتتحها أبو عبيدة بن الجراح ، رضي الله تعالى عنه ، هي واليرموك والجابية والرمادة متصلة"، عمدة القاري، ج 24، ص 120..
[12] صحيح البخاري، ج 8، ص 64،
[13] الجامع الصحيح، ج 2، ص 231.
[14] مسند أحمد، ج 5، ص 238.
[15] قال ابن الأثير: " الربيئة، وهو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه"، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 179.
[17] معاني الأخبار، ص 254.
[18] الكافي، ج 4، ص 500، علل الشرائع، ج 2، ص 439، من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 493، تهذيب الأحكام، ج 5، ص 226.
[19] سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1055.
[20] "الدافة بتشديد الفاء، قوم يسيرون جميعاً سيراً خفيفاً ودف يدف، بكسر الدال، ودافة الأعراب من يرد منهم المصر، والمراد هنا من ورد من ضعفاء الاعراب"، شرح صحيح مسلم، ج 13، ص 130.
[21] حضرة الأضاحي، أي عند حضور الأضاحي، وفي وقتها. قال النووي: " حضرة الأضاحي: بفتح الحاء وضمها وكسرها والضاد ساكنة فيها كلها وحكى فتحها وهو ضعيف وإنما تفتح إذا حذفت الهاء فيقال بحضر فلان"، شرح صحيح مسلم، ج 13، ص 130.
[22] يجملون، أي يذيبون الشحم ويستخرجون الودك.
[23] صحيح مسلم، ج 6، ص 80.
[24] شرح صحيح مسلم، ج 13، ص 130.
[25] من قبيل خبر معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لا تخرجن شيئا من لحم الهدي" الاستبصار، ج 2، 275.
[26] الاستبصار ج 2 ص 275.
[27] بناءً على الأرجح من أن الأذن بالإحياء هو إذن تدبيري.
[28] علل الشرائع، ج 2، ص 563، ووعيون أخبار الرضا (ع)، ج 2، ص 104.
[29] من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 335، وجاء في الفقيه تتمة، وهي: "وكان ذلك نهى كراهة ، لا نهى تحريم"، وتنرجح أنه من كلام الصدوق وإن خالها غير واحد أنها من تتمة قول الإمام (ع).
[30] قرب الإسناد، ص 275، وسائل الشيعة، ج 24، ص 104، الباب 4، من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 10. والرواية معتبرة.
[31] الكافي، ج 6، ص 216، وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 14.
[32] مختلف الشيعة، ج 8، 353.
[33] هي ضعيفة، وقال المجلسي: مجهول، مرآة العقول، ج 21، ص 356.
[34] الكافي، ج 6، ص 216، تهذيب الأحكام، ج 9، ص 14.
[35] جامع المدراك، ج 5، ص 112.
[36] من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 321.
[37] دعائم الإسلام، ج 2، ص 169، ونقله عنه في البحار، ج 16، ص 119،
[38] بحار الأنوار، ج 62، ص 275.
[39] وقد ذكرنا هذه الأخبار في مبحث التدخين، راجع: في فقه السلامة الصحيّة - التدخين نموذجاً، ص 240 وما بعدها. وكذلك في مبحث حلق اللحية وهو لم يطبع
[40] من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 266. والتلحي هو إدارة العمامة تحت الحنك ويقابله الاقتعاط وهو شدها من غير إدارة، وقد روي في بعض مصادر السنة النهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط"، كما ذكر العيني في عمدة القاري، ج 3، ص 101، ورواه الصدوق عنهم، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 266، هذا ولكنّ قال المباركفوري: "وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط فلم يذكر ابن قدامة سنده ولم يذكر تحسينه ولا تصحيحه عن أحد من أئمة الحديث ولم أقف على سنده ولا على من حسنه أو صححه فالله أعلم كيف هو "، تحفة الأحوذي، ج1، ص 294.
[42] من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 266.
[43] الوافي، ج 20، ص 740.
[44] نهج البلاغة قصار الحكم.
[45] صحيح البخاري ج7 ص57، صحيح مسلم ج6 ص 156.
[46] المحاسن للبرقي، ج 2، ص 410.
[47] نهج البلاغة، ج 4، ص 5.
[48] الكافي، ج 1، ص 411، وج 4، ص 444، وعنه وسائل الشيعة ج5 ص17، الحديث 7 الباب 7 من ابواب أحكام الملابس.
[49] ام الشرعية للشيخ منتظري، ص 24.
[50] البيان والتبيين، ص 267.
[51] نص الحديث موجود في كافة المصادر الحديثية السنية، وفي رواية خبر أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: "من قتل كافراً فله سلبه"، سنن الدارمي، ج 2، ص 229، وفي صحيح البخاري: "من قتل قتيلا له عليه بينه فله سلبه "، صحيح البخاري، ج 4، 58،ونحوه في صحيح مسلم، ج 5، ص 148، ولم نجده في مصادر الحديث الشيعيّة، ولهذا فلم يعتمد بعض الفقهاء على الرواية لأنها" "لم تثبت من طرقنا "، شرح العروة الوثقى ( كتاب الخمس) ، ج 25، ص 31.
[53] قال القرافي: "قوله صلى الله عليه وسلم: " من قتل قتيلاً فله سلبه"، اختلف العلماء في هذا الحديث، هل تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فلا يستحق أحد سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك، وهو مذهب مالك، فخالف أصله فيما قاله في الإحياء، وهو أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتوى فينبغي أن يحمل على الفتيا عملاً بالغالب، وسبب مخالفته لأصله أمور: منها أنّ الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين لقوله عز وجل { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } []، وإخراج السلب من ذلك خلاف هذا الظاهر، ومنها: أنّ ذلك إنما أفسد الإخلاص عند المجاهدين فيقاتلون لهذا السلب دون نصر كلمة الإسلام، ومن ذلك أنه يؤدي إلى أن يقبل على قتل من له سلب دون غيره فيقع التخاذل في الجيش، وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين فلأجل هذه الأسباب ترك هذا الأصل."، الفروق، ج1، ص 209 - 210.
[54] شرح العروة الوثقى ( كتاب الخمس) ، ج 25، ص 31.
[55] السيرة النبوية لابن هشام، ج 4، ص 898، والمغازي للواقدي، ج 1، ص 99، وج 2، ص 908، وغزوات الرسول وسراياه، لابن سعد، ص 151،
[56] معجم مقاييس اللغة، ج 3، ص 92، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 187.
[57] رواه ابن شهر آشوب في المناقب، ج 1، ص 383، وأورده ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي، ج 1، ص 403، ونسبه الطبرسي إلى النبي (ص) بطريقة جزميّة، انظر: جوامع الجامع، 1، ص 63، وص 223، وقد انتشر الاستدلال به في الكتب الفقهية، انظر: الخلاف، ج 4، ص 188، والمبسوط، ج 2، ص 66، وتذكرة الفقهاء، ج 9، ص 209، إلى غير ذلك، وأورد الراوندي رواية مرسلة، قال الحسين بن علي عليهما السلام : [ كان علي عليه السلام ] يباشر القتال بنفسه ولا يأخذ السلب"، النوادر، ص 138، ولعله تنازل عن حقه أو تنزهاً عن سلب القتيل.
[58] بعض هذه الوجوه مذكورة في كلام القرافي المتقدم في حاشية سابقة.
[60] ففي المغازي للواقدي: " حدثني عبد الحميد بن جعفر قال : سألت موسى بن سعد بن زيد ابن ثابت : كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر في الأسرى والأسلاب والأنفال فقال : نادى مناديه يومئذٍ : من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أسر أسيراً فهو له ! فكان يعطي من قتل قتيلاً سلبه"، المغازي، ج 1، ص 99،
[61] المغازي للواقدي، ج 2، ص 908.
[62] دراسات في ولاية الفقيه، ج 3، ص 175.
[63] الكافي، ج 6، ص 246، والاستبصار، ج 4، ص 73، وعنهما وسائل ج24 ص118 الأطعمة المحرمة ح1.
[64] علل الشرائع ج 2، ص 563.
[65] وسائل الشيعة، الحديث 6 من الباب وكذا الحديث 7.
[66] قال الشيخ الحر في عنوان الباب: " باب كراهة لحوم الحمر الأهلية ، وعدم تحريمها" وسائل الشيعة، ج 24، ص 117، وقال صاحب الجواهر: "{ و } المشهور بيننا شهرة كادت تكون إجماعا كما اعترف به غير واحد إن لم تكن كذلك أنه { يكره الخيل والبغال والحمير الأهلية } في الثلاثة ، بل عن الخلاف الاجماع على ذلك ، كما عن الإنتصار والغنية أنه من متفردات الإمامية في الأول والثالث ، للأصل والنصوص المستفيضة أو المتواترة أو المقطوع بمضمونها"، جواهر الكلام، ج 36، ص 264.
[67] كما يرى ذلك صاحب السوق في ظلّ الدولة الإسلاميّة، ص 64.
[68] الكافي، ج 6، ص 246، وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 41.
[69] قال ابن الأثير: " الربيئة، وهو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه"، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 179.
[71] علل الشرائع، ج 2، ص 412.
[73] وسائل الشيعة، ج 13، ص 352، الباب 29 من أبواب الطواف، الحديث 5.
[74] سنن أبي داوود، ج 1، ص 423، ومسند أحمد، ج 1، ص 297، بيان: " ( موت النغف ) بفتح النون والغين المعجمة وفاء دود يسقط من أنوف الدواب واحدتها نغفة ، يقال للرجل إذا استحقر واستضعف ما هو إلا نغفة ( والمشركون من قبل قعيقعان ) اسم جبل بمكة والجملة حالية"، انظر: عون المعبود، ج 5، ص 237.
[75] صحيح البخاري،ج 2، ص 61، وج 5، ص 86،
[76] صحيح مسلم، ج 65، ولاحظ صحيح مسلم، ج 5، ص 86.
[77] المجموع للنووي، ج 8 ص 41.
[78] ففي خبر سعيد الأعرج " عن المسرع والمبطئ في الطواف، فقال: كل واسع ما لم يؤذ أحدا "، من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 411.
[79] نهج البلاغة، ج 4، ص 5.
[82] نهج البلاغة ج 4 ص 109.
[83] فلو حال الآخرون دون تصدير بعض البضائع إلى أسواقهم فيمكن للدولة الإسلامية أن ترد بالمثل.
[84] فلو تصرف اللآخرون بطريقة معينة مع دبلوماسيي الدولة الإسلامية فلها أن تتعامل بالمثل، أكان التصرف هو الطرد أو تقليص عددهم أو ما إلى ذلك.
[85] وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحث آخر نأمل التوفيق لنشره قريباً.
[87] بدائع الدرر ص 112، والأصح في التعبير أن يقال : " متوجه إلى الجيوش".
[88] الكافي، ج 3، ص 568. وعنه تهذيب الأحكام، ج 4، ص 113. وهو ضعيف السند بالإرسال.
[89] قال: " وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب " هل هو حكم إلهيّ كلّي فلا يجوز التخلف عنه ، أو أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما أنه كان حاكماً على المسلمين في عصره لم ير أخذها صلاحاً إلا من أهل الكتاب فلا ينافي ذلك أخذ الأئمة والحكام بعده ولو من غيرهم إذا رأوا في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين ؟ كل محتمل، بل لعل ظاهر التعبير هو الثاني". دراسات في ولاية الفقيه ج3 ص379.
[90] تهذيب الأحكام، ج 6، ص 172. وقد عدّه العلامة الحلّي صحيحاً، مختلف الشيعة، ج 4، ص 445. ولكنّ بعض الفقهاء حكم بضعفه، القضاء في الفقه الإسلامي، ص 331. وقال الشيخ المنتظري: "في السند وهيب، وهو مجهول أو ضعيف"، دراسات في ولاية الفقيه، ج 3، ص 383. أقول: ووهيب يراد به ظاهراً وهيب بن حفص، وهذا وثقه النجاشي، قال رحمه الله: "وهيب بن حفص أبو علي الجريري ، مولى بني أسد ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام ، ووقف ، وكان ثقة ، وصنف كتبا : كتاب تفسير القران وكتاب في الشرائع مبوب . أخبرنا الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر ، عن حميد ، عن الحسن بن سماعة عنه"، رجال النجاشي، ص 431، نعم وقع الكلام في طريق الشيخ إليه، وهو عند السيد الخوئي "صحيح وإن كان فيه ابن أبي جيد ، فإنه ثقة على الأظهر "، معجم رجال الحديث، ج 20، ص 237.
[91] دراست في ولاية الفقيه، ج 3، ص 388.
[92] نشير هنا إلى أننا قد بحثنا هذا الموضوع في مجال آخر، انظر: كتاب العقل التكفيري، عنوان: "الكافر لا يقتل لكفره بل لحرابته".
[93] وطبيعي أنّ سلبيات هذه الممارسات والأفعال ومضارها لا تقف عند حدود الجانب الاقتصادي بل تمتد إلى الجانب الاجتماعي والأخلاقي والروحي.