البعد الخبروي في شخصية النبي (ص)
الشيخ حسين الخشن
من أبعاد الشخصية النبي (ع) التي لا بدّ أن نوليها أهمية في البحث والدراسة: البعد الخبروي، فما هو مقصودنا بهذا البعد؟ وما هو الدليل عليه؟ وهل يمكن أن نوافق على تكلم النبي (ص) من موقع الخبرة؟
أولاً: مفهوم الخبروية ودائرتها
-
مفهوم الخبروية
المقصود بالخبروية أنّ النبي (ص) أو الإمام (ع) من خلال تجاربه الخاصة في هذه الحياة وما يعاينه من تجارب الآخرين، أو يتناهى إلى سمعه عن تجارب الأمم الماضية، يكتسب خبرة عالية ويمتلك أنظاراً صائبة وتشخيصاً دقيقاً وتحليلاً عميقاً لمجريات الأمور وعواقبها، ما يمكنه من الإدلاء برأيه في كثير من القضايا، لا بصفته رسولاً ومبلغاً عن الله تعالى، بل بصفته خبيراً حكيماً فطناً لا تهجم عليه اللوابس ولا تعوزه المخارج.
الفرق بين التدبيرية والخبروية
وهذا يقودنا للسؤال: عن الفارق بين البعد التدبيري والبعد الخبروي عند النبي (ص) أو الإمام (ع)، فهل مرجعهما إلى شيء واحد أو أنهما يختلفان؟
والجواب: إنّ التدبيرية تختلف عن الخبروية، لجهة أنّه ليس كل حكم أو إرشاد خبروي يتحوّل إلى حكم تدبيري ولايتي ، فالنبي (ص) أو الإمام (ع) إذ يصدر حكماً تدبيرياً، فليس بالضرورة أن ينطلق من موقع الخبرة، بل إنّ بعض الأحكام التدبيريّة قد لا تحتاج إلى خبرة وتخصص، وأحياناً ينطلق النبي في حكمه التدبيري من خلال هدي الوحي، وعمدة الفارق بينهما: أنّ دائرة التدبيرية هي في الأحكام الولايتية التي تتصل بانتظام شؤن المجتمع، بينما الخبرويّة قد لا يكون لها علاقة بذلك، كالكثير من النصائح الخبروية التي تتحدث عن خصائص الأشياء، وينصح النبي (ص) فيها ببعض الأمور الخاصة مما ليس له علاقة بالنظام العام. ويمكن اختصار الفارق بينهما باستخدام تعبير علمي، وهو أنّ النسبة بين التدبيرية والخبروية، هي أقرب ما يكون إلى نسبة العموم والخصوص من وجه، ومادة الاشتراك هي الأحكام التدبيرية المعتمدة على الخبرة، وأما افتراق الحكم التدبيري عن الخبروي، فهو في الأحكام التدبيرية الولايتية التي لا تكون منطلقة من الخبرة، وأمّا افتراق الحكم الخبروي عن التدبيري، فهو الأحكام الخبروية النصائحية التي لا يأمر بها النبي (ص) أو الإمام (ع) بصفته ولياً للأمر.
وبناءً على ما تقدم، فإنّ مخالفة الحكم التدبيري تستتبع عقوبة قانونية فضلاً عن العقوبة الأخروية، أما مخالفة الإرشاد الخبروي فلا تستتبع عقوبة، فهي من قبيل مخالفة الأوامر أو النواهي الإرشادية.
-
دائرة الخبرويّة
إذا أردنا أن نحدد دائرة الخبروية، فيمكن أن نقول: إنّ فكرة الخبرة عند النبي (ص) أو الإمام (ع) واستفادته من التجارب الإنسانية وإعطاءِ رأيٍ ما استناداً إلى ذلك، وهو ما قد يسمى بالاجتهاد أو التقدير والتحليل أو الرأي، إنّ هذه الفكرة لا مجال لقبولها عندما يكون حديث النبي (ص) مرتبطاً بالحقل الديني عقيدة أو شريعة، لأنا نعتقد بالدليل القاطع أنّ النبي (ص) لا يجتهد في أمور الدين، بل يصدر عن عين صافية وهي الوحي، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4]، وقال سبحانه: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة: 44-46]، والأمر عينه ينطبق على الأئمة من أهل البيت (ع)، وفقاً لعقيدة الشيعة الإمامية، فإنّ الإمام (ع) ليس مجتهداً كسائر المجتهدين الذين قد يخطئون وقد يصيبون، بل إنّه ينطق بالحق وقوله هو عين الحقيقة دائماً، وهذا هو مفاد ما قاله الإمام الصادق فيما روي عنه (ع): "حديثي حديث أبي.. إلى أن يقول: وحديث رسول الله (ص): قول الله عز وجل"[1]. وما نقوله عن القضايا الدينيّة نقوله في الإخبارات الغيبية كحوادث آخر الزمان وما يجري عند خروج الإمام المهدي (ع)، وكذلك ما يتصل بأشراط الساعة أو ما يواجه الميت في القبر أو في يوم القيامة.
إنّ محلّ الكلام ليس في استفادة المراد من النصوص القرآنيّة، ففي هذا الحقل لا يعتمد النبي (ص) على الاجتهاد، نعم، هناك كلام مرّ بحثه في الحديث عن القضاء، وهو أن النبي (ص) في هذا الحقل يعتمد على ظواهر الكلام أو الأفعال كحجة فاصلة في بابي الإقرار والدعاوى، لقوله (ص):" إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَه مِنْ مَالِ أَخِيه شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَه بِه قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"[2].
وعليه فما يطرحه البعض عن "عبقرية محمد" لا يمكن أن نوافق عليه، إن أريد منه أنّ ما يصدر عنه (ص) حتى في إطار الدين فهو نتيجة فكر وعبقرية، لأنّ فيه إغفالاً لدور الوحي الأساس في بيان الشريعة.
هذا كله عندما نتحدث عن إطار الغيب والمفاهيم الدينيّة والشرعيّة، وأمّا عندما تخرج المسألة عن نطاق الدين وتدخل في قضايا التاريخ أو الجغرافيا أو الزراعة أو الطبّ أو الفلك أو التحليلات السياسيّة والاجتماعيّة أو التدبيرات الظرفية أو الحديث عن مآلات الأحداث والتطورات التي يمكن حدوثها في مستقبل الأيام، مما تكون إرهاصاتها بينة من الآن، وكذلك بالنسبة للأخبار الواردة في خصائص الأشياء وبيان الحقائق التكوينية أو ما إلى ذلك من الموضوعات الخارجية، مما لا ربط له بالأحكام الشرعية وموضوعاتها ولا بالمسائل الاعتقاديّة ولا يكون لسان بيانها لسان التوقيف والإخبار عن مصدر غيبي، إنّه في هذه المجالات ثمّة إمكانية كبيرة للحديث عن الخبروية والعبقرية.
ثانياً: الدليل على الخبرويّة
لا أعتقد أنّ ثمّة مانعاً من أن يتكلّم النبي (ص) من موقع الخبرة ناصحاً ومرشداً وموجهاً، والمستند في ذلك الوجوه التالية:
الوجه الأول: إنّ الخبرة تنطلق إمّا من التجربة أو من الحكمة والبصيرة النافذة، أو منهما معاً، وكلا هذين العنصرين ( التجربة والحكمة ) متوفران في النبي (ص) بصرف النظر عن علمه الخاص، أمّا الخبرة، فلأنه (ص) إنسان قد خبر الحياة وعرف الناس ومعادنهم وطريقة تفكيرهم، وعايش الأحداث وتقلّب الظروف، ما أكسبه أنظاراً صائبة، وحصيلةً معرفيّة تمكّنه من الحكم على الأمور وتقييم الأشخاص ، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "في التجارب علم مستأنف"[3]. وعن علي (ع): "لولا التجارب عميت المذاهب"[4]. وأما الحكمة، ( والحكمة قد تستقي من التجربة[5] أو من صفاء السريرة أو من نفاذ البصيرة أو من التأمل والتعلم والتسديد الرباني) فهي متوفرة فيه (ص) بأعلى مستوياتها فهو سيد الحكماء، وقد عرفه أهل مكة بهذه الصفة قبل البعثة. وهكذا فإنّ سائر الأئمة (ع) قد تحلّوا بالحكمة والبصيرة النافذة، وربما صدر عنهم مواقف وتحليلات من هذا المنطلق، وعلى سبيل المثال: فعندما يقول الإمام علي (ع) - بحسب ما جاء في الروايات - : "سبب العطب طاعة الغضب "[6]، أو يقول: " سبب التدمير سوء التدبير"[7]. أو يقول: "سبب الفتن الحقد"[8]، ونظائر ذلك من الكلمات فلا دليل على أنّه يتكلّم من موقع غيبي، ولا يحتاج ذلك إلى وحي، بل من المرجح أن يكون معتمداً في ذلك على خبرته وتجربته وحكمته. وهكذا عندما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه "[9]. فلا دليل على أنّه يتكلم من موقع الغيب، فربما كان يتكلّم من موقع الحكمة، والحكمة هي شعبة من نبوّة.
ولا يخفى أنّ الأفكار والآراء الحكميّة كثيراً ما تكون صائبة، وقد يوافق عليها الشرع، وهذا ما يفسر لنا فكرة الإمضاء الشرعي للكثير من المقولات أو المفاهيم أو الأعراف العقلائية، ومن هنا تعرف الوجه في أنّ بعض الحِكم التي تنسب إلى النبي (ص) أو الأئمة (ع) تكون مما قاله أشخاص آخرون قبل النبي (ص) أو الإمام (ع)[10]، فيكون الإمام (ع) قد تبناها كونها فكرة صائبة، وكونه (ص) مسدداً بالوحي لا يمنع من إمضائه وموافقته على بعض الأفكار أو الأعراف، أو تبنيه لبعض الكلمات، واستشهاده بها، وقد وجدنا ولاحظنا أنّ النبي (ص) والأئمة (ع) قد استشهدوا ببعض أشعار العرب[11]، واستصوبوا بعض أفعالهم ومواقفهم، كاستصوابه (ص) لحلف الفضول[12].
الوجه الثاني: إنّ اعتماد النبي (ص) أو الإمام (ع) في بعض الأحيان على الخبرة هو أمر تشهد له العديد من الأدلة والشواهد التاريخية، وهذا الوجه يؤكد ليس إمكانية الأمر بل حصوله ووقوعه، بمعنى أنّه قد صدرت عنهم (ع) أراء وتقييمات من موقع الخبرة، ولا دليل أوْكَدَ وأهمَّ من الوقوع، والنصوص في ذلك كثيرة، إليك بعضها:
-
من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه الإمام الحسن (ع): "إي ْ بُنَيَّ إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ، قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه ونَفْعَه مِنْ ضَرَرِه، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَه، وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَه وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه.."[13]. فإنّ الإمام هنا واضح في أنّه يقدّم لابنه الحسن حصيلة خبرته وتأملاته وتجربته.
-
ومن هذا القبيل قوله (ع) قبيل التحكيم: "عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شر أطفال وشر رجال."[14]. وهنا لا يحيل الإمام (ع) في تقييمه وحكمه على هؤلاء الأشخاص على مصدر غيبي، وإنما يحيل على تجربته الخاصة، فقد صحبهم صغاراً وكباراً فعرف معادنهم.
-
ونظير ذلك قاله (ع) وهو يعظُ الخوارج: "ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة وأخبرتكم أنّ طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنّي أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالاً ورجالاً، فهم أهل المكر والغدر، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم، فعصيتموني.."[15].
-
ما روي عنه (ع) في أمر الحكومة من قوله (ع): " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ، تُورِثُ الْحَسْرَةَ وتُعْقِبُ النَّدَامَةَ، وقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِه الْحُكُومَةِ أَمْرِي، ونَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ، فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ والْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِه وضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِه، فَكُنْتُ أَنَا وإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ:
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ"[16]. وهذا النص واضح في أنه (ع) ومن موقع العالم المجرب والخبير قدم لهم رأيه ناصحاً، ولكنهم أصروا على التمرد عليه.
-
ونظير ذلك ما جاء في خطبة الزهراء (ع):" أصبحت والله عائفة لدنياكم قالية لرجالكم، لفظتُهم قبل أن عجمتُهم ، وشنأتُهم بعد أن سبرتُهم"[17]. فهي تبيّن أن موقفها وكرهها لرجالهم كان بعد ابتلائهم واختبار مواقفهم.
-
ما روي عن علي (ع) في شأن بعض عماله، قال الشريف الرضي: من كتاب له ( ع ) إلى المنذر بن الجارود العبدي ، وخان في بعض ما ولاه من أعماله: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَه، وتَسْلُكُ سَبِيلَه، فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً، ولَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً، تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ، وتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ، ولَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، ومَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِه ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِه أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَه قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ، فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه"[18]. فإنّ كلامه (ع) يدل على أنه اعتمد في تقييم الابن واختياره ليكون عاملاً له على ما عرفه عن صلاح أبيه[19]، ولما انكشف له حاله[20] وفساده عزله.
ومن أمثلة تراثنا الروائي والذي يحتمل أن يكون صادراً عن المعصوم (ع)، استناداً إلى خبرته وليس من باب التلقي عن الوحي، ما ورد في موضوع الدواء والاستشفاء، وهذا ما سوف نتطرق إليه في ملاحق الكتاب.
الوجه الثالث: يظهر من بعض أخبار السيرة وضوح هذا البعد في شخصيته (ع) لدى كثير من الصحابة، والشاهد على ذلك ما رواه المؤرخون حول أنّ النبي (ص) في يوم بدر كان قد اختار منزلاً للحرب من خلال الرأي لا الوحي، واستشار أصحابه في الأمر، فقال (ص) لهم: "أشيروا عليّ في المنزل، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلٌ أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإنّ هذا ليس بمنزل! انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم، فإني عالم بها وبقُلُبِها، بها قلبي [ قليب ] قد عرفت عذوبة مائه، وماءٌ كثير لا ينزح، ثم نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونغور ما سواها من القُلُب.."[21]. نعم وحيث إننا نتحدث عن تجربة نبوية فقد كان ينزل الوحي مسدداً ومصوباً، ولذا فقد روى المؤرخون عن ابن عباس أنّه وعقيب المشورة المذكورة ذلك "نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: الرأي ما أشار به الحباب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يا حباب أشرت بالرأي ! فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ففعل كل ذلك"[22].
يقول ابن أبي الحديد: " وقد كانت الصحابة تراجع رسول الله صلى الله عليه وآله في الأمور، وتسأله عما يستبهم عليها وتقول له: أهذا منك أم من الله؟ وقال له السعدان (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة) رحمهما الله يوم الخندق، وقد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر المدينة: أهذا من الله أم رأي رأيته من نفسك؟ قال: بل من نفسي، قالا: لا، والله لا نعطيهم منها تمرة واحدة وأيدينا في مقابض سيوفنا!
وقالت الأنصار له يوم بدر، وقد نزل بمنزلٍ لم يستصلحوه: أنزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحي أوحي إليك؟ قال: بل عن رأي رأيته، قالوا: إنّه ليس لنا بمنزل، ارحل عنه فانزل بموضع كذا"[23].
إنّ هذا الأحاديث على فرض صحتها تدلّ على أن الصحابة كان واضحاً لديهم أنّه ليس كل ما تحدّث عنه النبي (ص) فهو وحي، بل إنّ النبي (ص) في مجالات الحروب قد يتحرى الخيار أو الموقف أو الرأي الأصلح من خلال الخبرة، فقد قال ابن المنذر هذا الكلام الدال على فهمه لهذا البعد في شخص النبي (ص) ولم يعترض عليه النبي (ص) ولا أحد من الصحابة، بل إنّ النبي (ص) قد أقرّه على فهمه وأمضاه عندما، قال له: بل هو الرأي.
والأخذ بهذه الرواية - على فرض صحتها - لا يضير ولا يخدش بعصمة النبي (ص) أو مكانته، فهو (ص) لم يخطىء في التقدير والرأي، وإنما كان بصدد التشاور مع أصحابه في المنزل، ولذا قال لهم: "أشيروا عليّ في المنزل"، وهذا من قبيل ما تقدم في قضيّة تشاور داوود وسليمان (ع) في الحكم، وليس ثمّة مانع من أن يستشير النبي (ص) أهل الاختصاص والخبرة في قضايا لا علاقة لها في الدين، فيرجع إلى الطبيب في طبّه وإلى الخبير العسكري في مجاله، فهو ليس خبيراً عسكرياً ولا عالماً فلكياً ولا طبيباً. وقد قال الإمام علي (ع): "رأيُ الشيخ أَحبُّ إليّ من جَلدَ الغلام"[24].
ويروى عن قيس بن عباد ، قال : قلت لعلي رضي الله عنه : أخبرنا عن مسيرك هذا ، أعهدٌ عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأيٌ رأيته ؟ فقال: ما عَهِد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولكنه رأي رأيته"[25].
وإنّا نجد أنّ الإمام عليّ (ع) كان يسأل ويستشير في بعض الأمور، فهو الذي سأل أخاه عقيلاً في اختيار زوجة له فأشار عليه بأم البنين، فقد "روي أنّ أمير المؤمنين علياً (ع) قال لأخيه عقيل - وكان نسابة عالماّ بأنساب العرب وأخبارهم - : أنظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوجها فتلد لي غلاما فارساً. فقال له: تزوج أم البنين الكلابية، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها"[26].
وقصارى القول: إنّه ليس ثمّة ما يمنع من أن يستفيد المعصوم من تجارب الآخرين في غير قضايا الدين، وهذا أمر طبيعي، فالنبي (ص) أو الإمام (ع) عندما كان يزاول مهمة الزراعة[27] أو نحوها من الأعمال الحرفيّة لم يكن يعتمد على علم الغيب، بل على ما تعلّمه واستفاده في هذه الحياة من تجارب والديه وأقاربه والمجتمع برمته، وقد أسلفنا أنّ النبي (ص) استعان في المجال العسكري وإدراة الحروب بخبرة بعض الصحابة واستشارهم وعمل على ضوء المشورة، وسيأتي لاحقاً أنّ الأئمة (ع) قد استعانوا بالأطباء في معالجة بعض أمراضهم ولا يبعد أنّهم كانوا يستعينون بهم لمداواة أمراض أبنائهم أيضاً.
ثالثاً: الخبرويّة بين القبول والرفض
هل من معارضٍ لفكرة الخبرويّة أو مانع من تبنيّها؟ وهل يمكن قبول أن يتحدث المعصوم(ع) من موقع الخبرة والاجتهاد؟ والسؤال الذي يجب طرحه قبل ذلك هو هل هناك حاجة ليتكلم المعصوم من موقع الخبرة ما دام يستطيع الحديث من موقع العالم بالأمور من خلال ما علمه الله؟
-
الطريق الغيبي والطريق الخبروي
ولنبدأ بالجواب على السؤال الأخير، فنقول: إنّ ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً برؤيتنا إزاء علم المعصوم، وسعة هذا العلم أو ضيقه، فإنْ أخذنا بالرأي القائل إنّ علم المعصوم (ع) لا يختصّ بدائرة القضايا الدينيّة، وإنّما يمتدُّ إلى ما هو أوسع من ذلك فهو يشمل الموضوعات الخارجيّة وهو مطلِّعٌ على كافة العلوم من دون أن يعلّمه أحد، فبناءً على هذا الرأي لا معنى للحديث عن الاجتهاد والخبروية، لأنّ منْ يملك علماً خاصاً مأخوذاً عن معدن الوحي حول علم الفلك أو جغرافيا الأرض - مثلاً - فمن غير المنطقي أن يتحدث في هذه الأمور من موقع الاجتهاد، وهذا معناه أنّ ما صدر عن المعصوم (ع) في هذه المجالات هو الحقيقة الواقعية المتلقاة عن مصدر الوحي، حتى لو أوحى ظاهر الكلام بغير ذلك.
ولكن قد يقال: إنّ هذا الرأي حول أنّ مصدر كل كلامه وعلمه هو الوحي، لا يلغي الحديث عن الخبرويّة، ولا يمنع من صدور بعض المواقف عنه من موقع الخبروية، وذلك لأنّ علم المعصوم بهذه الأمور بناءً على هذا الرأي هو من قبيل الأهليّة والإمكان، لا الفعلية والوقوع، فهو مؤهل للإطلاع على هذه الأمور فيما لو طلب ذلك من الله تعالى[28]، ولكنه قد لا يطلب ذلك منه تعالى ولا يلجأ إلى هذا الطريق في تبيّن هذا الأمر أو ذاك، وإنمّا ينطلق في الحديث وإعطاء الرأي استناداً إلى خبرته وتجربته الخاصة، وليس بالضرورة أن يستند إلى طريق غيبي.
أمّا لو أخذنا بالرأي الآخر في المسألة والذي تبناه كثير من أعلامنا المتقدمين والمتأخرين أمثال: الشيخ المفيد والسيد المرتضى والكراجكي والعلامة الأمين وغيرهم[29].. وحاصله أنّ علم النبي (ص) والإمام (ع) لا يجب عقلاً ولا شرعاً أن يمتد خارج الإطار الديني في حقليه الأساسيين وهما العقيدة والشريعة، فلا مانع حينئذ من القول بأنّ ما صدر عنه (ع) في هذه المجالات قد صدر من خلال خبرته وتشخيصه التام وإحاطته الكاملة بمجريات الأمور.
وقد اتضح أنّ الحديث عن الخبرويّة يمكن طرحه على الاتجاهين، وإن كان يتوجّه إلى الاتجاه الثاني بشكل أوضح. نعم لو بني في مسألة علم المعصوم على أنه علمه حضوري كما يزعم البعض، فلا وجه لتكلّم الإمام من موقع الخبرة، لأنّ من يكون عالماً علماً حضورياً بالموضوعات الخارجية فلا معنى ليتكلم فيها اجتهاداً.
-
تفسير الغيبة الكبرى على ضوء الخبروية
ويجدر بنا هنا وقبل ذكر الاعتراضات التي يمكن تسجيلها على الخبروية الإشارة إلى أنّ فكرة الخبرويّة مطروحة في كلمات بعض العلماء بشكل أو بآخر، وفيما يلي نتوقف عند كلام للسيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، في تفسيره لسرّ الغيبة الطويلة للإمام المهدي المنتظر (ع) وفي الحكمة من اختيار إمام متولد - حسب عقيدة الشيعة - منذ حوالي اثني عشر قرناً يقول: "إنّ التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطورها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود، لأنّها تضع الشخص المدخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذه الشخصية قدرة أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها وكل ملابساتها التاريخية"[30]، فهذا المقطع من كلامه صريح فيما أسلفناه من إمكانية استفادة المعصوم من تجارب الآخرين وتعميق خبرته من ملاحظة أحداث الماضي والحاضر.
إلاّ أنّ هذا التفسير لطول الغيبة واجه اعتراضاً مفاده: إنّ قضية الإمام المهدي (عج) وطول غيبته هي مسألة غير عادية وتتم في ظل عناية الله الذي يمكنه أن يعده الإعداد الكامل في لحظة واحدة لا أنّه "يختزن التجربة من خلال تتابع الحضارات في جهد شخصي"[31].
وقد أجاب السيد كاظم الحائري (تلميذ السيد الشهيد) على هذا الاعتراض بأنّه لا تنافي بين افتراض أن الإمام مزود بالعلم مباشرة من قبل الله تعالى وبين استفادته من تجارب الاخرين باعتبار أنّ "تسديد الإمام (ع) من قبل الله قد تختلف طريقته فتارة عن طريق الإلهام، وأخرى بهذا النحو الذي ذكره أستاذنا السيد الشهيد وهو التجارب وثالثة بالجمع بينهما"[32].
غير أن الرجوع إلى كلام الشهيد الصدر رحمه الله يدفع الاعتراض من أصله، لأنه ذكر هذا الجواب للذين "لا يريدون جواباً غيبياً.. ويطالبون بتفسير اجتماعي للموقف.."[33]. ولكن وكما ذكر أستاذنا السيد الحائري فإنه ليس ثمّة ما يمنع من أن يستقي المعصوم من هذا الطريق، أعني الاستفادة من تجارب الآخرين.
-
إشكالات وردود
وربما يعترض على فكرة تكلّم المعصوم من منطلق الخبرويّة باعتراضات عديدة، وهذه الاعتراضات هي:
الإشكال الأول: أنّه يستفاد من النصوص الدينيّة أنّ مصدر علومهم كلها ينتهي إلى الوحي، فالنبي (ص) متصل بالوحي فهو يتكلم من خلال ما علّمه الله تعالى مباشرة أو بواسطة جبرائيل (ع)، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4]، والأئمة (ع) يحدثون عن جدّهم رسول الله (ص) وعليه، فلا معنى للخبرويّة في كلامه (ص) أو كلامهم، وإنما يتكلمون عن رسول الله (ص) عن جبريل عن الباري، والأحاديث حول ذلك كثيرة جداً، من قبيل صحيح قُتَيْبَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَه فِيهَا، فَقَالَ: الرَّجُلُ أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وكَذَا مَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا؟ فَقَالَ لَه: مَه مَا أَجَبْتُكَ فِيه مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللَّه (ص) لَسْنَا مِنْ أرَأَيْتَ فِي شَيْءٍ"[34].
ولكن يمكن القول:
أولاً: لا ريب أنّ النبي (ص) متصل بالوحي، والأئمة (ع) أيضاً يستقون من نمير علمه (ص)، لكن الكلام في حدود دائرة الاستقاء من الوحي، ومن قال إنه (ص) يوحى إليه في كافة القضايا الخارجة عن نطاق الدين؟! إنّ هذا لا دليل عليه، أجل، قد يوحى إليه (ص) في ذلك تسديداً وإكراماً وإعجازاً، لكن لا دليل على أنه يوحى إليه في كل الأمور والعلوم والقضايا الاجتماعية والزراعية والطبيّة وغيرها، ولذا ليس لدينا ما ينفي وجود مصدر آخر يشكل مستنداً لآرائه (ص) في النطاق الذي هو محل الكلام، بل إنّ وجود هذا المصدر ( الخبرة والحكمة) ثابت بالوجدان وقام الدليل عليه، كما قدمنا سابقاً. والنهي عن الأخذ بالرأي إنما هو فيما لو أخذ بالرأي في الدين، أو نسب إلى الله تعالى ما لم يوحَ إليه به[35]، وكذلك البدعة إنما تحرم لأنها تلاعب بالدين بالنقيصة أو الزيادة، وكلامنا في الدائرة الخارجة عن نطاق الدين من العلوم والمعارف والسياسات والقضايا الاجتماعية والتكوينية..
ثانياً: أمّا قوله تعالى:{وما ينطق} فلا ينفي الخبروية، لأنّ الرأي الصادر عن خبرة ليس منطلقاً من الهوى في شيء، والحصر الوارد في الآية المباركة {إنْ هو إلا وحي يوحى} هو حصر إضافي في مقابل ما اتهم به من أنه ينطق عن الهوى، أو أنه قد ضل وغوى، كما أسلفنا في مبحث التدبيرية.
ويمكن القول: إنّ الآية المباركة ناظرة إلى دائرة التشريعات والغيبيات بل ربما يقال: إنها ناظرة إلى خصوص ما جاء به (ص) ونزل عليه من القرآن والمعارف الدينية بشكل عام، وأما ما سوى ذلك فهي ساكتة عنه، وهذا ما يشهد له سياقها، قال الطبرسي: " ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ) يَعني : النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والخِطَابُ لقُرَيش ، وهو جَوابُ القَسَمِ ، أي : هو هَاد مُهْتَد راشِدٌ مُرْشِدٌ ، وليسَ كَمَا زَعَمْتُم في نسْبَتِكُم إيَّاهُ إلَى الضَّلالِ والغيِّ . ومَا آتَاكُم بهِ من الدِّينِ والقُرآنِ ليس بمَنْطق صَادِر عن رأْيه وهَوَاهُ . مَا ( هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ ) مِنْ عنْدِ اللهِ ( يُوحَى ) إليه . ( عَلَّمَهُ ) مَلَكٌ ( شَدِيدُ القُوَى ) أي : شَديدٌ قُواهُ ، وهو جبرئيلُ ( عليه السلام ) ، ما آتَاكُم بهِ من الدِّينِ والقُرآنِ ليس بمَنْطق صَادِرعن رأْيه وهَوَاهُ" [36]
ومما يؤيد ما ذكرناه أنّ رسول الله (ص) وهو المسدد والمتصل بالوحي لم يكن لينتظر الوحي في الصغيرة والكبيرة، بل كان يعطي رأيه الخبروي في بعض من الأمور كقضايا الحرب ونحوها، وهذا ما تدل عليه سيرته ويستفاد من بعض الأخبار المتقدمة.
ثمّ إذا كانت الأحكام التدبيرية – كما ذكرنا في مبحث التدبيرية - خارجة عن الهوى ولا ينافي صدورها عنه أنّه متصل بالوحي، فكذلك الأحكام الخبروية بدون فرق.
-
رفض فكرة اجتهاد النبي (ص)
الإشكال الثاني على فكرة الخبروية، وهو من أهم الإشكالات، ويمكن تقريبه بأكثر من بيان:
البيان الأول: العالم لا يجوز له الاكتفاء بالظن
إنّ من كان متصلاً بالوحي ويعلم الأمور - من خلال هذا الطريق - على حقيقتها فلا حاجة له ولا موجب أن يتكلم في القضايا بالاعتماد على طريق الاجتهاد، وإلا كان كمن يحمل فانوساً صغيراً ليضيء الطريق في الليلة الظلماء، مع أنّ بإمكانه أن يستفيد من ضوء الكهرباء بما يكشف له الطريق بشكل واضح وكأنّه يمشي في النهار. قال العلامة الحلي: "الاجتهاد يفيد الظن خاصة، والنبي (ص) قادر على معرفة الحكم من جهة القطع بالوحي من الله تعالى، والقادر على العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن، كمن يقدر على علم القبلة، فإنه لا يجوز له التقليد والرجوع إلى الظن"[37].
ويلاحظ عليه:
-
إنّ محط النظر في كلام العلامة إلى الاجتهاد في الأحكام الشرعية، أو موضوعاتها وهذا خارج عن محل الكلام، لأننا أخرجنا هذا عن دائرة النقاش منذ البداية.
-
بالالتفات إلى محلّ النزاع، فمن غير المعلوم أن النبي (ص) أو الإمام (ع) يملك علم معرفة الأشياء يشكل تام إلا على نحو الكرامة.
-
وعلى فرض أنّه كان متاحاً له أن يعلم فقد لا يرغب في الاعتماد على الطريق الغيبي، ولا يجد ضرورة لذلك، وربما كان له غرض في ذلك، وهو أن يعلّمنا الرجوع إلى أهل الخبرة.
البيان الثاني: الإجماع على رفض اجتهاد النبي (ص)
وقد يقال: إنّ هذا الكلام حول الخبروية مخالف لما عليه مدرسة أهل البيت (ع) وإجماع علماء الشيعة الذي ينصّ على أنّ النبي (ص) أو الإمام (ع) لا يجتهد، بعكس ما عليه الحال في مدرسة الخلافة، والتي ترى أن النبي (ص) قد يجتهد ويعطي رأياً معيناً في القضايا الدنيويّة ثم ينكشف خطأ رأيه.
قال الجصاص:" اختلف الناس في ذلك:
فقال قائلون: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكم في شيء من أمر الدين إلا من طريق الوحي، لقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4].
وقال آخرون: جايز أن يكون النبي عليه السلام قد جعل له أن يقول من طريق الاجتهاد فيما لا نص فيه.
وقال آخرون: جايز أن يكون بعض سنته وحياً، وبعضها إلهاماً، وشيء يلقى في روعه، كما ( قال صلى الله عليه وآله وسلم ): "إن الروح الأمين نفث في روعي : أنّ نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". ويجوز أن يكون بعض ما يقوله نظراً واستدلالاً، وترد الحوادث التي لا نصّ فيها إلى نظائرها من النصوص باجتهاد الرأي. قال أبو بكر رحمه الله[38]: وهذا هو الصحيح عندنا"[39].
ويستدل القائلون أنّ النبي (ص) يجتهد في بعض القضايا ببعض الوجوه:
منها: قوله تعالى: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء 105].
ولكن لا يخفى عدم صحّة استدلالهم هذا، لأنّ الآية لم تقل: فاحكم بما ترى، بل بما أراك الله، وما أراه الله تعالى لا مجال فيه للاشتباه. وأضعف منها الاستدلال بقوله: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2].
ومنها: ما روي عنه (ص) في شأن حادثة تأبير النخل[40]، وهو ما رواه مسلم بإسناده إلى رافع بن خديج قال: "قدم نبي الله (ص) المدينة وهم يؤبرون النخل (أي يلقحونه)، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له فقال (ص): "إنما أنا بشر وإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر"[41]، وفي نصٍ آخر: "إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليّ"[42].
والاعتراض الذي سجّله علماؤنا على هذه الروايات أنّه لا يمكن قبولها، لأنّ افتراض الخطأ في كلام النبي (ص) يتنافى ومبدأ العصمة، ثم عندما يتبيّن خطأه يعتذر بهذا الجواب؟! أيبقى وثوق بكلام النبي (ص) بعد هذا الأمر؟!. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ الله سبحانه قد أنزل على نبيه (ص): {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء 36]، فكيف يتحدّث (ص) بما لا يملك علمه؟! إنّ ما نسب إلى النبي (ص) لا يفعله الإنسان الحكيم فضلاً عن سيد الحكماء، وذلك بأن يتدخل في أمر يفعله الناس وينهاهم عن فعله، وهو لا يملك معرفة ذلك، ثم عندما يتبدى خطؤه يقول أنت أعلم مني به!
وقصارى القول: إنّ من ينكر على أهل السنة أخذهم والتزامهم بمضمون رواية تأبير النخل، لا يمكنه أن يتبنى فكرة الخبروية واجتهاد النبي (ص).
ولكن يمكن التعليق على ذلك:
أولاً: أمّا الإجماع على رفض فكرة الاجتهاد عند النبي (ص) والإمام (ع) فهي مسلمة في قضايا الدين والعقيدة والغيب، أمّا في القضايا الأخرى التي قلنا بإمكانية اللجوء فيها إلى الخبرة، فليس ثمة إجماع على ذلك فيها، هذا لو كان الإجماع في هذه الأمور حجة في نفسه، والصحيح عدم حجيته، لأنه اجماع مدركي اجتهادي.
ثانياً: إنّ الرواية المذكورة حول تأبير النخل لا تُسقط فكرة الخبرويّة رأساً، ويمكن للقائل بالخبروية أن يرفضها، لأنّ القائل بالخبروية يرفض أن يتكلم النبي (ص) بغير علم ودون خبرة، وما تضمنته الرواية حول دعوة النبي (ص) لهم إلى عدم تأبير النخل، كان خطاً بيناً بموازين أهل الخبرة آنذاك، فكيف يعقل أن يكون النبي محمد (ص) وهو في سن تزيد على الخمسين - لأنّ القصة حصلت في المدينة - جاهلاً بأنّ النخل لا ينتج ولا يحمل إلا إذا تمّ تلقيحه، والحال أنّ هذا أمر لا يكاد يخفى على صبيان الحجاز فضلاً عن شبانهم وكهولهم[43]. إنّ هذا لو حصل فهو بطبيعة الحال يؤدي إلى زعزعة مكانة النبي (ص) في النفوس لعلمهم بأنّ خطأه هو في أمر دنيوي وليس أخروياً.
-
لماذا يتكلم المعصوم خارج تخصصه ؟!
والإشكال الثالث: أنه قد أُثر عن النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) تراث كبير في غير قضايا الدين، عقيدة وشريعة، أكان ذلك في مجال الطب[44] أو حول ما عرف بأخبار السماء والعالم وبيان خواص المأكولات والنباتات أو في مجالات أخرى، وحيث إنّ النبي (ص) ليس طبيباً ولا فلكياً ولا مهندساً زراعياً ولا عالماً فلكياً فلا مجال ليتكلم في هذه الأشياء إلا إذا كان قد استمد علمه بها من مصدر الوحي، وإلا لكان ممن يتكلم خارج دائرة ما يعلم أو يعرف، وهذا ما لا يمكن القبول به، فذلك يفقده ثقة الناس ويشكك في مصدر الوحي، ولذا يجدر بنا أن نبني تصورنا عن عالم التكوين كله على ضوء ما جاء في تلك الروايات، ولو أننا لم نجدها منسجمة مع ما توصل إليه العلم فما علينا إلا التسليم بها وعدم التسرع بردها فلربما كشفت الأيام صحتها وتغيّرت نظرة العلم.
ولكن يمكن الجواب على ذلك:
-
إن التراث المشار إليه بحاجة إلى دراسة توثيقيّة تتحرى عن مدى صحة نسبته إلى النبي (ص) أو الأئمة (ع)، واللافت أنّ الطابع العام للكثير من هذا التراث هو ضعف الأسانيد، كما سنرى في التراث الطبي على سبيل المثال.
-
ما ثبت أنّ النبي (ص) قد تكلّم فيه مما يتصل بهذه الحقول، لا بدّ من درسه أيضاً، فلربما كان قد تلقى بعض ذلك عن مصدر الوحي، وذلك على سبيل الإعجاز والكرامة، وتثبيتاً لموقع النبوة وإعطاءَ سندٍ لهذا الدين ولو بعد حين، ولكن في ضوء ما تقدم، اتضح أنه ربما تكلّم عن بعض القضايا بصفته ذا خبرة في هذا الأمر، كما أنه ربما تكلّم في مورد آخر من موقع كونه قائداً وولياً للأمر، وقد عرفت سابقاً أنّ حديثه من موقع الخبرة أو الولاية ليس حديثاً بغير علم، وعليه، فكما جاز لغيره أن يتكلم فيما يملك معرفته من موقع الخبرة جاز له الأمر عينه.
-
وأمّا أنّ ذلك سيؤدي إلى إضعاف ثقة الناس بالنبي (ص) أو الأمام (ع) فهذا إنما يرد فيما لو كان يخطأ في كلامه، وسنلاحظ عما قليل أنّ ثمة مجالاً للقول بأنّ الوحي يتدخل لتحصينه من الخطأ إذا كان وقوعه فيه موجباً لتزلزل موقعه في النفوس ومؤثراً بشكل سلبي على دوره في الأمة.
-
إمكانية الخطأ في الرأي الخبروي
والإشكال الرابع الذي يواجهنا في المقام وهو إشكال محوري أيضاً، وخلاصته أنّ الخبير حتى لو بذل الجهد في تقييم الموقف وأصدر الرأي بعد التدبر والتأمل والمشورة، فإنّ ذلك لا يمنع من وقوعه في الخطأ في التقدير والاجتهاد، فهل نلتزم بذلك في النبي (ص) أو الإمام (ع)؟ وحيث إنّ هذا مما لا يمكن القبول به في حق المعصوم، لأنّ المفروض عقدياً أنّه لا يخطأ في قول ولا في فعل فلا مفرّ حينئذ من إنكار الخبرويّة من أصل.
وهناك أكثر من جواب يطرح في المقام، وبعضها لا بدّ من رفضه، ومنها: ما قيل من أنه (ص) حتى لو كان مخطئاً فإننا ملزمون باتباع خطأه وعدم الرد عليه. فهذا واضح البطلان والشناعة، إذ كيف يُعقل أننا مأمورون باتباعه على الخطا! وربما كان القول بجواز مخالفة اجتهاده في حال ثبوت خطأه أقل وطأة وشناعة منه، ولكن هناك إجابتان أخريان، والأولى منهما لا ضير من الالتزام بها، وهي أكثر مقبولية من الثانية:
الإجابة الأولى ( التدخل الدفعي ):
أنه يمكن الالتزام بأنّ المعصوم يتكلّم من موقع الخبروية، لكن مع الالتزام أيضاً بأن الوحي يتدخل لتسديده كي لا يقع في تقدير أو اجتهاد خاطئ فيما لو كان ذلك يؤدي إلى إضعاف موقعه في النفوس، وذلك حرصاً على مقام النبوة والإمامة من أن تعصف به رياح الشك فيما لو وقع في التقدير الخاطئ، وحفظاً لمنزلة نبيه أو وليه في القلوب والنفوس، وهذا نظير ما يطرحه البعض في قضيّة العصمة من أنّ الله تعالى يتدخل بطريقة معينة فيما لو أطبقت الأمور على المعصوم بحيث كاد يقع في المحظور لحفظه من أن يقع في بعض المعاصي أو الإنزلاقات التي تسقط هيبته، قال تعالى: { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء 73 - 74 ] وقال تعالى في قضية يوسف (ع) :{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [ يوسف 24]، وقال تعالى: { وَلَولا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أنفُسَهُم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء وَأَنْزَل اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء 113][45]. هذا ما نقوله في بادىء الأمر ولنا عودة إلى ذلك لاحقاً.
الإجابة الثانية (التدخل الرفعي):
أن يقال إنّ اجتهاده (ص) كاجتهاد غيره في معرض الخطأ، ولكنْ مع فارق جوهري، وهو أنّ غيره قد لا يلتفت إلى خطأه ويستمر عليه لفترة طويلة إلى أن ينبهه الآخرون عليه أو يكتشف ذلك بعد مدة، وربما لا يتسنى له اكتشاف خطأه، أمّا النبي (ع فهو "لا يُقر على خطأ"[46]، فما اجتهد فيه إنْ كان صواباً تُرك، وإن كان خطأً فإنّ الله تعالى لا يقرّه عليه.
ولنا أن نعلّق على ذلك: إنّ خطأه (ص) في غير الأحكام على أنحاء:
-
إنْ كان في موضوعات الأحكام الشرعيّة كتحديد القبلة مثلاً، فمثل هذا الخطأ لا يقرّه الله عليه، بل يبيّن له الأمر ليتراجع حتى لا يتحول ذلك سنة تحتذى ويتبع النبي (ص) على الخطأ.
-
إنْ كان خطأه في الموضوعات المحرمة شرعاً كالزواج من امرأة يحرم الزواج منها، فإنّ الله تعالى يجنبه ذلك من رأس أيضاً، ولهذا رفضنا القول بكفر الناصبي، لأنه قد ثبت لنا أن بعض الأئمة (ع) قد تزوجوا بنساء ناصبيات ولما عرفوا بالأمر طلقوهن، فلو كان الناصبي كافراً لكان معنى ذلك أنّ الإمام (ع) كان مقيماً على حرام[47]، وهذا غير مقبول ولو مع جهله بنصبها العداء لجدّه أمير المؤمنين (ع)، ولهذا تحفظ غير واحد من الفقهاء على رواية أكل الإمام (ع) للبيض المقلي المقامر عليه[48].
-
وكذلك كل ما يؤدي خطأه فيه إلى شناعة ونفور عقلاءئي عام منه، أو يفرض تكرر وقوعه في مثل هذه الأخطاء ما يسقطه في أعين الناس، فمثل هذا لا بدّ أن يُنزه عنه.
-
وأمّا في غير ذلك مما لا يستلزم وقوعه فيه شناعة ولا ارتكاب محرم ولا تجاوز حقوق الآخرين أو كراماتهم، فربما يقال: إنّ العقل لا يرى ضيراً في صدوره منه، ما دام أنّه لا يؤثر على رسالته لا في الحال الحاضر ولا في المستقبل، اللهم إلا أن يقوم دليل نقلي يثبت تنزهه عن ذلك أيضاً، وليس ما تقدم في الآيات المباركة في الإجابة الأولى مما يصلح لإثبات ذلك، لأنها دلّت على تدخل اللطف الإلهي لتسديده (ص) من الوقوع في الحرام، كما في قصة يوسف (ع)، أو من الإنسياق مع أهواء العتاة والفاسدين، أو الوقوع في مكيدة تؤدي إلى أخذ بريء بجريرة مذنب. فهل يمكن الالتزام بذلك، أم لا مجال لذلك وبالتالي فيكون المعتمد هو ما جاء في الإجابة الأولى؟
الإخبارات المستقبليّة والخبرويّة
الذي يظهر من بعض العلماء المعاصرين الالتزام به، وذلك بشأن الروايات التي تتحدث عن "حوادث مستقبلية، وظواهر اجتماعية"، كحوادث عصر الظهور وما يعرف باسم أخبار الملاحم والفتن أو أخبار المنايا والبلايا، إذ إنه بعد أن قسّم هذه الأخبار إلى دائرتين:
-
دائرة التوقيف وما كان سبيله التلقي عن الوحي الإلهي النازل على رسول الله (ص).
-
"دائرة الخبرة، وما سبيله المعرفة الدقيقة بالظروف والأحوال ثم بالآثار والنتائج من دون أن يكون ثمة حاجة إلى التوقيف"
ويضيف في شرح أخبار الدائرة الثانية: "فإذا كان النبي (ص) أو الإمام (ع) هو الأعرف والأدرى بحقيقة الظروف والأحوال التي تمر بها الأمة، وقد عرف الناس وظروفهم وحالاتهم.. وطبيعة تحركاتهم، فإنه سوف يكون بمقدوره رسم آثارها ونتائجها بحسب ما لها من تدرج طبيعي وفق المعايير الواقعية التي يعرفها (ع) ويدركها أكثر من أي إنسان آخر، ويكون إخباره (ع) بذلك على حد إخبار الطبيب بما ستكون عليه حالة رجل جلس في حر الهاجرة ثلاث ساعات مكشوف الرأس، تصهره أشعة الشمس..".
ثم يذكر نموذجاً لذلك من إخبارات الإمام علي (ع) عن فتنة بني أمية، والتي جاء فيها: " وايْمُ اللَّه لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ - أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ - تَعْذِمُ بِفِيهَا وتَخْبِطُ بِيَدِهَا - وتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وتَمْنَعُ دَرَّهَا - لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ - أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ - ولَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ - حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ - إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّه - والصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِه - تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً - وقِطَعاً جَاهِلِيَّةً - لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى ولَا عَلَمٌ يُرَى ".[49]
ويعقب على ذلك قائلاً: "ولكن ذلك لا يمنع من أن تحدث بعض التحولات والوقائع التي تغيّر سير الأحداث وتعطف اتجاهها وتمنع من تحقق تلك الإخبارات على صعيد الواقع..".
ثم يحاول أن يخفف من وطأة هذا الكلام فيقول: "ولكن ليكن معلوماً: أن حدوث هذه المفاجآت لا يقلل من قيمة تلك الإخبارات التي جاءت نتيجة طبيعية لعملية رصدٍ دقيقة وعميقة لكل الواقع الذي يعيشه الناس ، ويتعاملون معه ويتحركون فيه . . حيث لابدّ من أخذها بعين الاعتبار في كل تخطيط مستقبلي هادف إلى إحداث تغيير جذري لصالح الاتجاهات السليمة والخيّرة على صعيد الأمة بأسرها ."[50].
ولا بدّ أن نفترض أنّ محلّ هذا الكلام هو في الأحداث التي تكون إرهاصاتها بيّنة من الآن وبشائرها أو نذرها لائحة من خلال الراهن من الأحداث المتصلة بزمان المتكلم (ع) بما يمكنه من التنبؤ بحدوثها والتوقع بمآلاتها، ولا مجال لهذا الكلام في الأخبار التي يكون لسانها لسان التوقيف الشرعي والمغيبات، كما في الإخبارات المستقبلية وما يتصل بالنهائيات التي لا مجال للتنبؤ إزاءها من الآن، سواء كانت أحداثاً كبرى أو تفصيلية وجزئية كالتي تتعلق ببعض المدن أو الأشخاص غير المعروفة أسماؤها مما يصعب معها الحمل على الخبروية، فقول النبي (ص) - على سبيل المثال - : "يا عمار تقتلك الفئة الباغية"[51]، لا يحتمل فيه الحمل على الخبروية، وإنما هو إخبار توقيفي، وكذلك نظائره، ولذا يتحتم أن يكون حديث النبي (ص) في ذلك تلقياً عن الغيب، وأن يكون حديث الأئمة (ع) فيها من خلال ما ورثوه عن رسول الله (ص) المتصل بوحي السماء، فهو علم من ذي علم، كما قال الإمام علي (ع) بعد إخباره (ع) عن حال الأتراك، فقد روي أنه قال بشأنهم: "كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ والدِّيبَاجَ، ويَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، ويَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ، حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، ويَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ، فَقَالَ لَه بَعْضُ أَصْحَابِه: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ. فَضَحِكَ ( ع ) وقَالَ لِلرَّجُلِ وكَانَ كَلْبِيّاً : يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ "[52].
ومع أتضاح محل الكلام نقول: قد يعترض على كلامه:
أولاً: إنّ تحدث النبي (ص) أو الإمام (ع) بضرسٍ قاطع عن وقوع شيء ثم لا يقع، معناه أنه يتحدث فيما لا علم له فيه، والحال أنه منهيٌ عن اتباع الظن والكلام فيما لا يملك علمه.
ويمكن ردّه بأنّ حديث المعصوم (ع) حيث كان من منطلق خبرويته فلا يكون حديثاً فيما لا يعلم.
ثانياً: إنّ كلامه لا يتلاءم مع الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأئمة (ع)، لأنّ معنى أن يتحدّث المعصوم(ع) بشيء ويُخبر عن حدوثه، ثم تجري أو تتحرك الأمور بطريقة معاكسة وغير متوقعة فلا يتحقق إخباره، إنّ معنى ذلك أنّه (ع) - في المحصلة - قد أخطأ في الحكم، ولم يتطابق إخباره مع الواقع، (وهذا ما لا ينكره صاحب الكلام المتقدم)، وهذا ما لا يمكن الالتزام به، لأنّه يخدش في العصمة وينسحب التشكيك على الكثير من إخباراته بما يتسبب في تزلزل موقعه (ع) في النفوس، وفقد الثقة في كلامه.
ولهذا فربما يقال: إنّ الأولى أن نشكك في صدق هذه الروايات الناقلة لهذه الإخبارات التي تحكم بوقوع حوادث ثم لم تقع، بدل أن نرمي الرسول (ص) أو الإمام (ع) بالخطأ في التقدير والاستنتاج. وبالتالي يقال تعليقاً على هذه الفكرة نظير ما قاله الشيخ البهائي تعليقاً على كلام الشيخ الصدوق بشأن سهو النبي (ص): إنّ نسبة الخطأ إلى صاحب هذا الكلام أولى من نسبته إلى أمير المؤمنين (ع).
مقياس الخطأ:
هذا ولكنْ يمكن لصاحب القول المذكور أنْ يدافع عن رأيه ويذبّ الإشكال عنه بما حاصله: إنّه لا شكّ في أنّ النبي (ص) أو الإمام (ع) لا يُخطأ، بيد أّنّ الكلام في مقياس الخطأ ومعياره، فهل يتحدد الخطأ بمخالفة الواقع؟ أو بمخالفة العادات والرسوم؟ أو بالخروج عن ضوابط العلم الذي ينطق الإنسان باسمه؟
إنّ الحكم على أحد بالخطأ يستدعي في الدرجة الأولى تحديد معيار الخطأ والصواب، وأخذه بعين الاعتبار، فالخطأ في الشهادة الحسية إنما هو في عدم مطابقة ما شهدت به للواقع، لاشتباه الحواس أو غيره، وأمّا الخطأ في الرأي الخبروي والاجتهاد فهو في مجانبة الرأي للموازين التي تقتضيها قواعد التخصص والخبرة والاجتهاد. فالعالم الفلكلي الذي يبدي رأياً في مجال تخصصه هو مصيب بمقدار ما اعتمد على معطيات علم الفلك في زمانه ويستند إلى أدوات التشخيص المتداولة في وقته، ولا يمكن لعالم الفلك المعاصر أن يخطأ السابقين إلا بمقدار ما تجاوزوا قواعد العلم المكتشفة لهم، والأمر عينه يجري في علم الطب، فلا يمكن لطبيب معاصر يمتلك أدوات عالية الدقة في التشخيص أو في التحليل المخبري ومع ملاحظة هذا التطور والتقدم الهائل في علم الطب، أن يُخطِّأ طبيب القرون السابقة ما دام قد اعتمد قواعد الطب في عصره ولم يقصر في التشخيص ولا في إعطاء العقاقير اللازمة، لأنّ محاكمة الشخص وتخطئته إنّما تكون مخالفته قواعد العلم بحسب ما وصل إليه بالبحث والتجربة أو تقصيره في استخدام ما يلزم من وسائل الفحص أو غيره.
والأمر عينه يمكن أن يجري في ميدان القضاء، فإنّ خطأ القاضي عندما يحكم في قضية معينة يكمن في تجاوزه للموازين المعتمدة في القضاء لا في مخالفته للواقع، فالخطأ هو في المنهج وليس في النتيجة، لأنّ المطلوب منه هو الأخذ بهذا المنهج والسير وفق أسسه وضوابطه ومعاييره، وطبيعي أنّ هذه الأسس إنما تُعتمد بصفتها الأقرب إلى إحقاق الحق والعدل، ولكنها قد تخطئه، فالخطأ هنا ليس في النتيجة التي قد لا يملك علمها إلا الله علام الغيوب، وإنما الخطأ في المنهج، ولذا لو أصدر القاضي حكماً معيناً استناداً إلى منام رآه فيمكننا الحكم على قضائه بالخطأ وإن كان المنام صادقاً والحكم مطابقاً الواقع، وذلك لأنه أخطأ في المنهج، واعتمد ما ليس حجة شرعاً. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "من قال في كتاب الله عز وجلّ برأيه فأصاب فقد أخطأ"[53]، فمع أنه أصاب فقد حكم عليه بالخطأ، والوجه في ذلك أنّه لم يعتمد المنهج الصحيح في التفسير، وإنما اعتمد الرأي، وهو ليس منهجاً سوياً وحجة معتمدة، وطبيعي أنّ تعيين الشرع لهذا المنهج دون ذاك إنما هو باعتبار كونه الأقرب إلى إصابة الواقع، فإنّ الواقع هو الغاية المقصودة له.
هذا هو الحال في الإنسان العادي، والأمر عينه يجري على النبي (ص)، فهو إذا كان يتكلم من موقع التلقي عن الوحي فخطأه ليس هو الخطأ عينه فيما لو كان يتكلم من موقع القضاء، وليس هو الخطأ عينه عندما يتحدث من موقع الخبروية، فعندما يصدر الكلام عنه (ص) بصفته مبلغاً عن الله تعالى، فالخطأ في هذا المقام معناه مخالفة ما قاله لما في علم الله تعالى، وهذا - بطبيعة الحال - ما لا يمكن حصوله بعد ضمان الله تعالى لعدم تعرض الوحي للتلاعب، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3-4). وأما إذا كان الصادر عنه حكماً قضائياً، فخطأه هو في تجاوزه الموازين القضائية، كخطأ أي قاضٍ، وهذا ما يستفاد من قوله (ص): " إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَه مِنْ مَالِ أَخِيه شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَه بِه قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"[54]، واستناداً إلى هذا الحديث الصحيح فلا يبدو أنّ ثمة مانعاً من أن يصدر عن النبي (ص) قضاءٌ استناداً إلى آليات القضاء الشرعية ( البينات والأيمان ) ويكون قضاؤه غير مطابق للواقع، ولكنّه مصيب لأنّ مطابق للآليات المعتمدة في إصدار الأحكام، ولم أجد رفضاً لدى علمائنا لاحتمال كهذا وإن كان لم يثبت أنه قد حصل ذلك فعلاً. وإذا كان (ص) يتكلم من موقع الخبرويّة، فخطأه يتحدد على ضوء ابتعاده عمّا تقتضيه الخبرويّة نفسها، أي خطأه هنا - كخطأ أي خبير متخصص - لا يكون بمخالفة الواقع، وإنما هو بتجاوز ما تقتضيه قواعد الخبرة وما يعتمده الخبراء والمتخصصون ويستندون عليه من معايير وأدوات ووسائل في التحليل والتشخيص والتقييم.
إنّ الخبرويّة - إذا ثبت لنا أنّ النبي (ص) أو الإمام (ع) قد يتكلم بالاستناد إليها - تفترض أنّه يتكلّم ويقيّم الأمور من هذا الموقع وهذه الحيثيّة بالذات، وحيث إنّ التحليل والتشخيص اعتمد على أدوات التشخيص الصحيحة والمتداولة آنذاك وعلى قراءة للأحداث هي في غاية الدقة، فهذا يعني أنّ تحليله صائب حتى لو تغيّرت الأمور بعد ذلك وانحرف مسار الأحداث بطريقة معاكسة، لدخول عناصر جديدة في البين، وهكذا يكون حكم الخبير صائباً في حال اعتمد تلك المعايير حتى لو صار لدينا فيما بعد أدوات تشخيص أكثر دقة، وفي حال انقلب مسار الأحداث وحصلت مفاجآت غير متوقعة فلا يعني ذلك تخطأته في رأيه التحليلي.
رابعاً: الخبروية والتشريع
-
هل الرأي الخبروي قسيم للحكم الشرعي؟
اتضح مما تقدم أنّ الخبرة هي مصدر آخر غير الوحي بالإمكان أن يستقي منه النبي (ص) ويتكلَّم على ضوئها، بيد أنّ بعض العلماء رحمه الله رفض هذا التصنيف لكلامه ( كلام تشريعي وكلام خبروي )، معتبراً أن الخبرة تعبر عن الحكم الشرعي، أيضاً، قال: "كما أن ما يتصل بالقسم الثاني من شؤون خبرته وتجاربه هو الآخر معبر عن حكمه ، وحكمه هنا جواز التعبير عنه - وإن أخطأ الواقع لو صح جواز خطئه في الموضوعات ، ولنا التأسي به في الإخبار عن تجاربنا وخبراتنا في حدود ما نعلم منها ، وحتى قوله - لو صح عنه - : "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، فهو إمضاءٌ لهم على جواز إعمال تجاربهم وخبراتهم الخاصة ، فهو لا يخرج عن الدلالة على التشريع"[55].
ويلاحظ عليه: إنّ الكلام ليس في جواز الإخبار عن التجربة، ليقال إنّ جواز ذلك حكمٌ شرعي، وإنما الكلام، وإنما الكلام في موقفه (ص) الصادر من موقع الخبرة، فهذا ليس حكماً شرعياً، لأنه لم يصدر عنه بصفته مشرعاً بل بصفنه من أهل التجارب، ويبدو أن السيد معترف بذلك.
-
هل يلزم الأخذ برأيه (ع) الصادر من موقع الخبرة؟
وهذا يقودنا إلى تساؤب، وهو أنه هل يلزم الأخذ بالكلام الصادر عن المعصوم من موقع الخبرة أم لا؟
يقول الشيخ محمد جواد مغنية: "وكذلك الأنبياء والرسل وأئمة الدين والفقه لا يجب على أحد أن يذعن ويؤمن بقولهم إذا تكلموا في الأمور الطبيعية، كخلق السماوات والأرض وما بينهما من البعد والمسافة ومبدأهما ومنتهاهما، وعناصرهما وقواهمه، فإنّ القديسين قد يخبرون عن الشيء بصفتهم الدينية، وقد يخبرون عنه بصفتهم الشخصيّة، ككل إنسان يقول ما يسمع ويظن، فما كان من النوع الأول يجب أن نسمع له ونطيع، وما كان من النوع الثاني لا يجب التدين به، لأنه ليس إخباراً عن الدين وشؤونه"[56].
ويلاحظ على كلامه:
أولاً: أنّه لو كانت القضايا الطبيعية خارجة عن دائرة اختصاص المعصوم، فلماذا يتحدث فيها متجاوزاً حدود اختصاصه ومتدخلاً فيما لا يملك علمه؟! والحال أن كل إنسان منهي شرعاً عن الخوض فيما لا يعلم {ولا تقف ما ليس لك به علم..} [الإسراء: 36]. كيف وقد ذمّ الله بعض الناس لأنّهم يجادلون فيما ليس لهم به علم، قال سبحانه: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم..} [ آل عمران: 66].
ثانياً: إنّ ما ذكره لا يتلاءم ما هو المعروف لدى علماء الإمامية من عصمة الأنبياء والأئمة (ع) خارج إطار التبليغ، لأن ذلك يزلزل موقعه في القلوب، وربما تزول الثقة به وبكلامه كما يقولون.
ثالثاً: إنّ المخرج في مثل هذه الموارد التي يروي فيها كلام عن المعصوم يرتبط بالأمور الطبيعية الخارجة عن إطار الدين، ثم نرى أنّه لا ينسجم مع الواقع مثلاً، إنّ المخرج ليس في أن نرفض كلام المعصوم بحجة أنه تكلم خارج دائرة اختصاصه، بل الأولى أن نشكك في أصل صدور الرواية عنه، فيما لو ثبت لنا معارضتها للقرآن الكريم أو للدليل العقلي أو للحقيقة العلمية.
أجل قد يقال: إنّ غاية ما يريد الشيخ مغنية (رحمه الله) قوله هو أنّ التدين بما جاء في هذه الروايات لا يجب، باعتبار أنّ مضامينها هي أمور خارجة عن نطاق الدين فلا يكون الاعتقاد بها لازماً".[57] أجل، لا يجوز تكذيب الكلام أو ردّه إلا إذا تبيّن منافاته . وبعبارة أخرى: حيث إنّ دائرة الخبرويّة لا علاقة لها بالتكليف الشرعي فلا معنى للحديث عن لزوم الأخذ به شرعاً، أجل لا يجوز تكذيبه أو رده.
ولكن يبقى سؤال يطرح في المقام، وهو أننا وأمام تراث روائي كبير لا علاقة له بالأمور الشرعية، وإنما يدور حول قضايا تكوينية من قبيل ما يتصل بالسماء والأرض وبداية الخلق وتطور الكائنات، أو ما يتصل بالمجال الطبي، فهل يصلح الاعتماد عليها كأساس في بناء تصورات إزاء المخلوقات ونشأتها ويعتبر ما ورد عنهم في باب الأدوية والعاقير هو العلاج الصحيح والنافع للمريض ببعض الأمراض، بحيث يكون لنا طبّ ديني، كما هو حاصل فعلاً؟ هذا ما سوف نجيبه عنه في وقفة لاحقة
-
هل الأصل هو الخبروية أو التوقف؟
بما أنّ دائرة الآراء الخبروية لا علاقة لها بالتشريع - كما أسلفنا - فيكون التمايز بين مجال الخبروية ومجال التوقف بيّناً وجلياً، ولكن ذلك لا يمنع من حصول الاشتباه بينها، وذلك كما لو فرض أنّ النبي (ص) أو الإمام (ع) نصح بعض الأشخاص بتناول بعض المأكولات - مثلاً - فهنا يقع السؤال: هل أنّ الإمام يتحدث من موقع التلقي من مصدر غيبي، أم أنّه يتحدّث من موقع الخبرويّة والتجربة التي عايشها، وكذلك الحال في الحديث عن الأحداث المستقبليّة فإنّها تحتمل الوجهين، الأمر الذي يُبقي السؤال عن تحديد الأصل في المسألة ضرورياً، أعني أنّ الأصل في كلام النبي (ص) أو الإمام (ع) هل هو الخبروية أو التوقف والنقل عن الغيب؟
والظاهر أنّه ليس لدينا ما يؤكد أصالة التوقف والغيبية في المقام، ولو أننا وافقنا على أصالة التشريع عند دوران الأمر بين التشريع والتدبير، على اعتبار أنّه (ص) بُعث لبيان الشرعيات كما ذكر الشهيد الأول فيما سلف، بيد أنّه لا دليل على أصالة الغيبية والتوقف هنا، ولذا فالكلام الصادر عنه (ع) إذا كانت الغيبية واضحة فيه من خلال مضمونه أو تعبيراته، فلا مشكلة في البين، تماماً كما لو كانت الخبروية واضحة فيه أيضاً، وأمّا في صورة الشك، بحيث لم يدر أنّ هذا الكلام صادر عن النبي (ص) أو الإمام (ع) من موقع اتصاله بالغيب [58]أم أنّه صادر عنه من موقع خبرته بالأمور، فهنا لا مجال للحمل على الغيبية ولا دليل عليه. هذا إن لم يقولنّ قائل: إنّ الخبروية هي الأقرب، لأنّ المسألة بما أنّها خارجة عن التشريع فلا يعلم باستنادها إلى الغيب، ولا ضرورة الاطلاع الغيبي عليها، إلا بناءً على القول بسعة علمه لكل الموضوعات والأمور التي لا علاقة لها بالتشريع والغيبيات.
وأما مؤشرات الغيبية والتوقف، فمنها ما يتصل بالتعبير واللسان، ومنها: ما يتصل بالمضمون، فما يتصل بالتعبير من قبيل أن يقول النبي (ص) حدثني جبريل عن الباري عزّ وجل أو هو نظير ذلك، وأما ما يتصل بالمضمون فمن قبيل الحديث عن أشخاص بأسمائهم سوف يكون لهم دور في المستقبل أو حديثه عن علامات آخر الزمان أو علامات الظهور ( ظهور الإمام المهدي ) أو نحو ذلك، وربما كان ذكر الثواب في هذا المقام هو أحد مؤشرات الغيبية، بينما ذكر الآثار الةوضعية هو أقرب إلى الإرشادية أو الخبروية.
من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)
[1] الوسائل الباب 8 من أبواب صفات القاضي الحديث 26.
[2] الكافي ج 7 ص 414، وتهذيب الأحكام ج 6 ص 229، وعنه وسائل الشيعة، الباب 2 ، من أبواب كيفية الحكم، ح1،2،3.
[3] كنز الفوائد للكراجكي ص 172، ودستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم، من كلام أمير المؤمنين (ع)، ص 18، وأورده ابن أبي الحديد في عداد "الحكم المنسوبة لأمير المؤمنين (ع)" شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 259.
[4] الإرشاد للمفيد ج 1 ص 304، وكنز الفوائد للكراجكي ص 172، وعنه بحار الأنوار ج 68 ص 342.
[5] كما في الحديث عن رسول الله (ص): "لا حليم إلا ذو عثرة ، ولا حكيم إلا ذو تجربة"، انظر: سنن الترمذي ج 3 ص 255،
[6] عيون الحكم والمواعظ ص 281.
[9] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 680. والخبر صحيح السند.
[10] على سبيل المثال: يقال إنّ أوّل من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، هو قس بن ساعدة، انظر: مجمع الأمثال للميداني ج 1 ص 117، فإنْ صحّ ذلك فيكون النبي (ص) قد تبناها وأمضاها.
[11] في نهج البلاغة نجد أن الإمام (ع) استشهد ببعض الأشعار، كما في قول الشاعر:
وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد.
[12] روي عن رسول الله (ص) :"قال لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب ان لي به حمر النعم ولو ادعى به في الإسلام
لأجبت"، ( قال القتيبي ) فيما بلغني عنه وكان سبب الحلف ان قريشا كانت تتظالم بالحرم فقام عبد الله بن جدعان والزبير
ابن عبد المطلب فدعواهم إلى التحالف على التناصر والاخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش"، انظر: السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 367.
[14] تاريخ الطبري ج 4 ص 34، وشرح نهج البلاغة ج 2 ص 88 .
[15] تاريخ الطبري ج 4 ص 62.والإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 127.
[16] نهج البلاغة ج 1 ص 86، بيان: قصير هو مولى جذيمة المعروف بالأبرش. وكان حاذقاً، وكان قد أشار على سيده جذيمة أن لا يأمن للزباء ملكة الجزيرة فخالفه وقصدها إجابة لدعوتها إلى زواجه فقتلته فقال قصير " لا يطاع لقصير أمر " فذهب مثلا ، يريد بالناصح نفسه أي أنهم أجمعوا على مخالفته حتى شك في نصيحته وظن أن النصح غير نصح وأن الصواب ما أجمعوا عليه . وتلك سنة البشر إذا كثر المخالف للصواب اتهم المصيب نفسه . وقوله "ضن الزند بقدحه" أي أنه لم يعن له بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقي من خلافهم وهكذا المشير الناصح إذا اتهم واستغش عشت بصيرته وفسد رأيه. وأخو هوازن هو دريد بن الصمة . ومنعرج اللوى اسم مكان وأصل اللوى من الرمل الجدد بعد الرملة . ومنعرجه منعطفه يمنة ويسرة، أنظر شرح الشيخ محمد عبدة.
[17] أنظر: معاني الأخبار ص ،354، وبلاغات النساء ص 20. قولها: " عائفة"، بمعنى كارهة، وكذلك قولها: " قالية"، فـ قلاه بمعنى كرهه، قال تعالى: { ما ودعك ربك وما قلى } [الضحى: 3]، وسبرتهم، بمعنى امتحنتهم، وكذلك، عجمتهم، فهي بالمعنى نفسه.
[18] نهج البلاغة ج 3 ص 132، والغارات للثقفي ج 2 ص 897.
[19] وهو الجارود وكان صحابياً جليلاً ، سكن البصرة ، وقتل بأرض فارس ، وقيل : بل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن، أنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 55، وقد شهد له الإمام (ع) بالصلاح.
[20] قال الرضى رضي الله عنه: المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه ، تفال في شراكيه"، انظر: نهج البلاغة ج 3 ص 132.
[21] المغازي للواقدي ج 1 ص 53، وتاريخ الطبري ج 2 ص 144،
[22] المغازي ج 1 ص 54، ورواه الطبري في تاريخه ج 2 ص 144، والأغاني ج 4 ص 384، والكامل في التاريخ ج 2 ص 122، وغيرها من المصادر التاريخية وغيرها ، وهذا الرأي للحباب بن المنذر هو من جملة آرائه الصائبة، وقد كان لهذا الرجل كما ذكر في ترجمته آراء صائبة في الجاهلية، والإسلام ، منها رأيه المذكور في يوم بدر، ومنها: رأيه يوم السقيفة، ومنها رأ يه منها في يوم السقيفة، وفي شرح النهج : قال أبو جعفر النقيب - بعد قرائتي عليه خبر الجوهري - : إنّ حبّاباً قال لأبي بكر وعمر : نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وإخوانهم وآباءهم - : صدقت فراسة الحبّاب ، فإنّ الذي خافه وقع يوم الحرّة وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر" ، أنظر: قاموس الرجال ج 12 ص 108 .
[23][23] شرح نهج البلاغة ج 11 ص 181.وهذا قد ذكره المفيد في الإرشاد ج 1 ص 97.
[24] نهج البلاغة ج 4 ص 19.
[25] سنن أبي داوود ، ج 2، ص 406.
[26] عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 357.
[27] في الحديث سألت جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) عن الفلاحين فقال : هم الزارعون كنوز الله في ارضه وما في الأعمال شئ
أحب إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيا إلا زارعا إلا إدريس ( عليه السلام ) فإنه كان خياطاً" تهذيب الأحكام ج 6 ص 384.
[28] وهذا ما تساعد عليه بعض الروايات التي يستند إليها أصحاب هذا الرأي ومضمونها :" لو شاء علم".
[29] يقول الشيخ المفيد:".. وليس من شرط الأنبياء (ع) أن يحيطوا بكل علم، ولا أن يقفوا على باطن كل ظاهر، وقد كان نبينا محمد (ص) أفضل النبيين وأعلم المرسلين، ولم يكن محيطاً بعلم النجوم ولا متعرضاً لذلك، ولا يتأتى منه قول الشعر ولا ينبغي له، وكان أمياً بنص التنزيل ولم يتعاط معرفة الصنائع، ولما أراد المدينة استأجر دليلاً على سنن الطريق، وكان يسأل عن الأخبار، ويخفى عليه منها ما لم يأت به إليه صادق من الناس.." (مصنفات الشيخ المفيد ج6 ص34-59-69، ج4 ص67).
وقال السيد المرتضى عن معنى قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} (الأحقاف: 9): "والمراد بالآية: إنني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم من المنافع والمضار الدنيونية، كالصحة والمرض والغنى والفقر والخصب والجدب، وهذا وجه صحيح واضح لا شبهة فيه" (رسائل االشريف المرتضى ج3 ص105) وقوله أيضاً: "الإمام في كل زمان يجب بحكم إمامته كونه عالماً بجميع علوم.. وليس يجب بحكم إمامته أن يكون عالماً بالماورائيات والكائنات من ماضيات ومستقبلات، وإذا خص الله الإمام بشيء من العلوم فعلى سبيل الكرامة والتفضيل والتعظيم" (رسائل الشريف المرتضى ج1 ص394).
وهكذا نجد أنّ السيد محسن الأمين ينفي علم الأئمة (ع) بغير الأحكام، وحتى علمهم بالأحكام، فهو تدريجي (راجع معادن الجواهر ج1 ص383، وراجع فلسفة الولاية للشيخ مغنية ص29، وروح التشريع للشيخ عبد الله نعمة ص2-32، .
[32] الإمامة وقيادة المجتمع ص 166. الطبعة الثانية ، دار البشير قم إيران، 2006.
[34] الكافي ج 1 ص 58، باب البدع والرأي والمقاييس.
[35] كما يدل عليه قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)} [الحاقة]،
[36] جوامع الجامع ج 3 ص 448.
[37] نهاية الوصول إلى علم الأصول ج 5 ص 172.
[39] الفصول في الأصول، ج 3 ص 239.
[40] أورد النووي هذا الخبر تحت عنوان: " وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي"، شرح صحيح مسلم، ج 15، ص 116.
[42] كنز العمال، ج11 ص465.
[43] راجع الندوة ج1 ص347.
[44] لدينا مئات الروايات في هذا المجال كما سنشير.
[45] تكاد كتب التفاسير تجمع على أن الآية نزلت في رجل مسلم سرق متاعاً، ورمى بذنبه بريئاً، وحاول قوم السارق وأقاربه إقناع النبي ( ص ) بمختلف الأساليب أن صاحبهم بريء، وكاد النبي (ص) يستجيب لكلامهم ويبرىء المجرم ، ولكنّ اللَّه سبحانه لطف به (ص) وعصمه من الوقوع في الخطأ وفضح السارق، فنزلت الآية، وقيل إن السارق كان من اليهود وقيل من الأنصار، وهذا المعنى يشهد له السياق.
[46] عدم إقرار النبي (ص) على خطأ منقول عن الشافعي، انظر: مغني المحتاج للشربيني ج 4 ص 488، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن محاريبه (ص) التي صلى بها لا يجوز الاجتهاد في تحديد مواجهتها للقبلة، لأنه (ص) لا يقر على خطأ، انظر:حواشي الشرواني والعبادي ج 1 ص 498، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج 1 ص 440، وذكر ذلك في موارد أخرى، انظر: المحلى ج 11 ص 178، وقال الفخر الرازي: " إذا جوزنا له (ص) الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز أن يخطئ، وقال قوم: يجوز بشرط أن لا يقر عليه"، المحصول 6 ص 15، ويقول النووي: " وقد اتفق الأصوليون على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقر على خطأ في الأحكام" شرح صحيح مسلم ج 12 ص 5. ولكن الصحيح أنه لا يخطا في الأحكام لا أنه يخطأ ولكنه لا يقر.
[47] في موثق زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (ع) فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتَكَ الشَّيْبَانِيَّةَ خَارِجِيَّةٌ تَشْتِمُ عَلِيّاً (ع) فَإِنْ سَرَّكَ أَنْ أُسْمِعَكَ مِنْهَا ذَاكَ أَسْمَعْتُكَ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ غَداً حِينَ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ كَمَا كُنْتَ تَخْرُجُ فَعُدْ فَاكْمُنْ فِي جَانِبِ الدَّارِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ كَمَنَ فِي جَانِبِ الدَّارِ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَكَلَّمَهَا فَتَبَيَّنَ مِنْهَا ذَلِكَ فَخَلَّى سَبِيلَهَا وكَانَتْ تُعْجِبُه"، الكافي ج 5 ص 351. والتهذيب ج 7 ص 303.
[48] رأى جمع من الأعلام أنّ الإمام (ع) لا يمكن أن يرتكب الحرام الواقعي جهلاً منه بالموضوع، ذكروا ذلك تعليقاً على رواية أكل الإمام (ع) للبيض المقلي، وهي ما رواه الكليني عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عبد الحميد بن سعيد قال: "بعث أبو الحسن (عليه السلام) غلاماً يشتري له بيضاً فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلمّا أتى به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال: فدعا بطشت فتقيّأ فقاءه".الكافي ج 5 ص 123. يقول الشيخ الأنصاري (رحمه الله): "وما ورد من قيء الإمام عليه السلام البيض الذي قامر به الغلام، فلعله للحذر من أن يصير الحرام جزءا من بدنه، لا للرد على المالك. لكن يشكل بأن ما كان تأثيره كذلك يشكل أكل المعصوم عليه السلام له جهلا، بناء على عدم إقدامه على المحرمات الواقعية غير المتبدلة بالعلم لا جهلا ولا غفلة، لأنّ ما دلّ على عدم جواز الغفلة عليه في ترك الواجب وفعل الحرام دلّ على عدم جواز الجهل عليه في ذلك، اللهم إلا أن يقال: بأنّ مجرد التصرف من المحرمات العلميّة والتأثير الواقعي غير المتبدل بالجهل إنما هو في بقائه وصيرورته بدلا عما يتحلل من بدنه عليه السلام، والفرض اطلاعه عليه في أوائل وقت تصرف المعدة ولم يستمر جهله. هذا كله لتطبيق فعلهم على القواعد، وإلا فلهم في حركاتهم من أفعالهم وأقوالهم شؤون لا يعلمها غيرهم "، المكاسب المحرمة ج 1 ص 379. وعلّق السيد الخوئي (رحمه الله) على كلامه قائلاً: "إنّ الاعتراض على الرواية مبني على كون علم الأئمّة (ع) بالموضوعات حاضراً عندهم من غير توقّف على الإرادة، وقد دلّت عليه جملة من الروايات،أنظر: انظر: الكافي ج 1 ص 256 - 258. كما أنّ علمهم بالأحكام كذلك. وأمّا بناءً على أنّ علمهم بالموضوعات تابع لإرادتهم واختيارهم - كما دلّت عليه جملة أُخرى من الروايات، انظر: الكافي ج 1 ص 256 – 258، فلا يتوجّه الإشكال على الرواية، لإمكان صدور الفعل عنهم (عليهم السلام) جهلا قبل الإرادة . ولكن الذي يسهل الخطب أنّ البحث في علم الإمام من المباحث الغامضة والأولى ردّ علم ذلك إلى أهله، كما ذكره المصنّف ( رحمه الله ). على أنّ الرواية المذكورة ضعيفة السند"، مصباح الفقاهة (موسوعة السيد الخوئي) ج 35 ص 579. وقال المحشي على المصباح: "وهي ضعيفة لجهالة عبد الحميد بن سعيد وضعيفة بسهل. وهكذا فقد ضعّف الشيخ حسين الحلي الرواية وعلّق قائلاً: "فلعله كان تورعاً منه (ع) من بقاء الحرام في جوفه، لكني في شك من هذه الرواية، فإنها تتضمن جهله (ع) موضوعاً بالحرام وإقدامه عليه جهلاً به، وذلك مما لا أصدقه عليه، فهذه عقيدتي فيهم سلام اللَّه وصلواته عليهم أجمعين" انظر: دليل العروة الوثقى ج 2 ص 319. وأعتقد أنّ ما قدّمه السيد الخوئي من حلٍّ وتبعه عليه بعض تلامذته ( إرشاد الطالب ج 1 ص220.)، برد الرواية سنداً ثم افتراض أنّ المشكلة إنّما تأتت بناءً على أنّ علمهم بالموضوعات حاضرٌ دون توقف على الإرادة، وأمّا لو قلنا بأن علمهم موقوف على الإرادة، فلا يرد أي إشكال، لأنّ الإمام في مورد الرواية قد يكون شاء وأراد أن لا يعلم، لا يجدي نفعاً، وذلك، لأنّه من جهة سند الرواية، فثّمة مَنْ وثقها واعتمد عليها في إثبات بعض الأحكام الشرعية، ولم يعترض بأنّ في مضمونها ما ينافي العقيدة، على أنّ ثمّة روايات صحيحة وردت في مجالات أخرى، تتضمن هذا المعنى، أعني عدم علم الإمام (ع) بالموضوعات التي لا يتغير الحكم فيها بين صورتي الجهل والعلم، من قبيل: ما تقدم في موثقة زرارة في موضوع زواج الإمام (ع) من المرأة الشيبانية الناصبية، هذا بصرف النظر عمّا ذكرناه من وجه لعدم الحرمة. ومن قبيل ما جاء في صحيحة أبي خديجة في قُصّةِ الشخص الذي جاء الإمام (ع) وقال له "حلل لي الفروج"، الأمر الذي أصاب الإمام(ع) بالصدمة من طلبه، قبل أن يتدخل بعض الأشخاص ليفسر كلام السائل للإمام (ع)، أو من قبيل حديث اللمعة التي بقيت جافة في ظهر الإمام (ع) بعد اغتساله، حتى أُخبر بالأمر فمسح بيده عليها ( راجع كتاب فقه العلاقة مع الآخر - قراءة في فتاوى القطيعة، وهناك موارد كثيرة حول الجهل بالموضوعات مع عدم ارتكابه أي حرام جهلاً، وذلك من قبيل ما ورد في رواية علي بن أبي حمزة من سؤاله عن الكيمخت، أو سؤاله عن المقصود بالأرماني، أو عن موضوعات أخرى. إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع للأخبار والروايات. ومن جهة ثانية، فإنّ كلام السيد الخوئي ينظر إلى قضية علم الإمام (ع) فحسب، ولا يأخذ عصمته بعين الاعتبار، فالإشكال في الرواية ليس في مجرد الجهل بالموضوعات، ليطرح هذا الحل لو صحّت أدلته، وإنّما الكلام في الجهل الذي ترتب عليه ارتكاب الحرام الواقعي من قبل الإمام (ع) كالزواج بامرأة لا تحلّ له، أو أكلِ ما هو حرام، فهل ينسجم ذلك مع عقيدة العصمة؟ فهل يمكن للمعصوم أن يتزوج امرأة ويدخل بها ليتبين لاحقاً أنّها محرمة عليه؟! أو يقتل شخصاً لكونه في نظره ظالماً ليتبين أنه مظلوم وبريء؟! أو يتوضأ بالماء ليتبين بعد سنوات أنه نجس أو مغصوب؟! هذا ما علينا بحثه في محله وأن نقدّم إجابات شافية عليه. ويمكن القول: إن ارتكاب الإمام للحرام الواقعي في مثل المقام مستبعد جداً حتى بناءً على عدم الاستحالة، ووجه البعد هو أنّ تعرّض الأئمة (ع) لارتكاب الحرام الواقعي في مجال الأعراض والفروج، ولا سيّما مع تكرر هذا الأمر من أكثر من إمام لا يليق بإمامتهم (ع).
[49] أنظر: نهج البلاغة ج 1 ص 183، بيان: قوله: الناب الناقة المسنة . والضروس السيئة الخلق تعض حالبا . وتعذم من عذم الفرس إذا أكل بجفاء أو عض. وتزبن أي تضرب. ودرها لبنها. والمراد خيرها، التابع من متبوعه ، أي انتصار الأذلاء وما هو بانتصار. شوهاء قبيحة المنظر . ومخشية مخوفة مرعبة" ، أنظر شرح الشيخ عبده في هامش المصدر المذكور.
[50] دراسات في علامات الظهور للسيد جعفر مرتضى، ص 30 - 31.
[51] سنن أبي داوود، ج 5، ص 333، والمعجم الكبير للطبراني، ج 5، ص 221، والطبقات الكبرى لابن سعد، ج 3، ص 252.
[52] نهج البلاغة ج 2 ص 19.
[53] أنظر: سنن أبي داوود ج 2 ص 177، وسنن الترمذي ج 4 ص 269.
[54]الكافي ج 7 ص 414، وتهذيب الأحكام ج 6 ص 229، وسائل الشيعة، الباب 2، من أبواب كيفية الحكم، ح1،2،3.
[55] الأصول العامة للفقه المقارن، ص 231.
[56] الفقه على المذاهب الخمسة ص358، ج2 ص100.
[57] أنظر للتفصيل حول ذلك: أصول الاجتهاد الكلامي.
[58] اتصال الإمام (ع) بالغيب والوحي هو بتوسط النبي الأكرم (ص).