حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> أصول فقه
أخبار الأخذ بقول الإمام الحي
الشيخ حسين الخشن



 ولا بدّ لنا أن نذكر الأخبار الواردة في ذلك ومن ثم نلاحظ دلالتها وما قيل فيها:

  1. خبر الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): "إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ عَنْ أَوَّلِكُمْ وحَدِيثٌ عَنْ آخِرِكُمْ بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ؟ فَقَالَ خُذُوا بِه حَتَّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ، فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ فَخُذُوا بِقَوْلِه، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): إِنَّا واللَّه لَا نُدْخِلُكُمْ إِلَّا فِيمَا يَسَعُكُمْ وفِي حَدِيثٍ آخَرَ خُذُوا بِالأَحْدَثِ"[1].
  2. قال الكليني: وفي حديث آخر: "خذوا بالأحدث"[2]
  3. وروى أيضاً عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْكِنَانِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يَا أَبَا عَمْرٍو أرَأَيْتَكَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِفُتْيَا ثُمَّ جِئْتَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتَنِي عَنْه فَأَخْبَرْتُكَ بِخِلَافِ مَا كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ؟ قُلْتُ: بِأَحْدَثِهِمَا وأَدَعُ الآخَرَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ يَا أَبَا عَمْرٍو أَبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُعْبَدَ سِرّاً، أَمَا واللَّه لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ إِنَّه لَخَيْرٌ لِي ولَكُمْ وأَبَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَنَا ولَكُمْ فِي دِينِه إِلَّا التَّقِيَّةَ".[3]
  4. مرسل الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ أرَأَيْتَكَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ الْعَامَ ثُمَّ جِئْتَنِي مِنْ قَابِلٍ فَحَدَّثْتُكَ بِخِلَافِه بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ قَالَ قُلْتُ كُنْتُ آخُذُ بِالأَخِيرِ فَقَالَ لِي رَحِمَكَ اللَّه"[4].
  5. وقد سئل (ع) - على ما رواه محمد بن مسلم - : "ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (ص) لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: "إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن"[5].

والسؤال: كيف نفهم هذه الروايات بناءً على صحتها[6] بعد استبعاد بل رفض كون تأخر الزمان في نفسه مما له مدخلية في إصابة الدليل وكاشفيته عن الواقع، وبعد استبعاد النسخ الحقيقي عن مدلولها، لأنّ النسخ قد أغلق بابه بوفاة رسول الله (ص)؟

قال الفاضل التوني: "وهذه الروايات الثلاثة دالة على أنّ الواجب الأخذ بالرواية الأخيرة، ولا أعلم أحداً عمل بها غير ابن بابويه في الفقيه .."[7]. وقال الشيخ يوسف البحراني:" يستفاد من الروايات الأخيرة أن من جملة الطرق المرجحة عند التعارض الأخذ بالأخير، ولم أقف على من عدّ ذلك في طرق الترجيحات فضلاً عمن عمل عليه غير الصدوق ( ط ) في الفقيه في باب ( الرجل يوصي للرجلين )، حيث نقل خبرين مختلفين ثم قال : " ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لأنّ الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس "[8].

وقال الفيض الكاشاني تعليقاً على هذه الأخبار:" والأخير هو مقتضي وقته، فإنّ لكل وقت مقتضى بالإضافة إلى العمل، وليس ذلك بنسخ، فإنّ النسخ لا يكون بعد النبي (ص) والأخذ بقول الحي أيضاً كذلك، لأنّه أعلم بما يقتضي الوقت العمل به"[9].

 الوجوه المطروحة في فهم الأخبار

هناك من ضعّف هذه الأخبار وأعفى نفسه من اعتمادها في عملية الترجيح بين الأخبار المتعارضة، ولكنّ البعض وثقها وبالتالي كان لزاماً عليه أن يبدي رأياً في كيفية التعامل معها، وتوجد في المقام عدة نظريات في التعامل معها:

النظرية الأولى: الترجيح بين الحجتين

هذه النظرية التي تبناها الصدوق وقد قال بها بعض المعاصرين، وهو السيد تقي القمي في أصوله واعتمدها في فقهه كما يلاحظ في كتابه مباني منهاج الصالحين[10].

النظرية الثانية: الترجيح بلحاظ الحكمين الواقعيين

أنّ الأخذ بالأحدث يناسبُ الترجيح بين الحكمين الواقعيين وليس بين الحجتين في مقام الإثبات، كما هو مفروض باب التعارض، فكأنّ الإمام (ع) يفسِّر سبب صدور الخبريْن المتعارضين عنهم (ع)، يقول المازندراني: " وهذا الحديث على تقدير حجّيته دلّ على أنّه لو حدّث المعصومُ رجلاً بحديث ثمّ حدّثه بعد ذلك بحديث يخالف الأوّل وجب عليه الأخذ بالثاني، والوجه فيه ظاهر لأنّ صدور أحد الحديثين إنّما يكون للتقيّة والدفع عنه، فإن كانت التقيّة في الأوّل كان الثاني رافعاً لحكمها فوجب عليه الأخذ بالثاني ، وإن كانت في الثاني وجب الأخذ به أيضاً ، وأمّا لو بلغ هذان الحديثان إلى الغير على سبيل الرواية عنه ( عليه السلام ) فلا يجب على ذلك الغير الأخذ بالثاني على الإطلاق لجواز أن يكون عالماً بأنّ الثاني صدر على سبيل التقيّة مع ارتفاع التقيّة عنه ، فإنّه يأخذ بالأوّل كما إذا علم أنّ المعصوم أمر بالمسح أوّلاً ثمّ أمر بالغسل ثانياً ، فإنّه يأخذ بالمسح إذا انتفت التقيّة عنه وأن يكون نسبة التقيّة إليهما سواء عنده فإنّ حكمه هو التخيير أو الوقف كما مرّ في الخبرين السابقين"[11].

 ويقول الفيض الكاشاني:" وجه الأخذ بالأخير أنّ بعض الأزمنة يقتضي الحكم بالتقيّة للخوف الذي فيه، وبعضها لا يقتضيه لعدمه، فالإمام عليه السّلام في كل زمان يحكم بما يراه المصلحة في ذلك الزمان، فليس لأحدٍ أن يأخذ في العام بما حكم به في عام أول، وهذا معنى قوله عليه السّلام في الحديث الآتي "إنا واللَّه لا ندخلكم إلا فيما يسعكم"[12].

واخذ عنه هذا المعنى الشيخ يوسف البحراني، قال: "والعمل بهذا الوجه بالنسبة إلى زمانهم ( عليهم السلام ) لا إشكال فيه . وذلك لأنّ الظاهر أنّ الاختلاف المذكور ناشئ عن التقيّة لقصد الدفع عن الشيعة، كما يشير إليه قوله ( عليه السلام ) في الخبر الثاني من الأخبار المشار إليها : " إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم". وحينئذ فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير أنه لو كانت التقيّة في الأول من الخبرين، فالثاني رافع لها فيجب الأخذ به ، وإن كانت التقية في الثاني وجب الأخذ به لذلك ، وأمّا بالنسبة إلى مثل زماننا هذا فالظاهر أنه لا يتجّه العمل بذلك على الاطلاق ، لجواز أن يحصل العلم بأنّ الثاني إنما ورد على سبيل التقية والحال أن المكلف ليس في تقية ، فإنه يتحتم عليه العمل بالأول ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقية بل صار احتمالها قائما بالنسبة إليهما ، فالواجب حينئذ هو التخيير أو الوقوف بناء على ظواهر الأخبار ، أو الاحتياط كما ذكرناه"[13].

وتفسير صدور أحد الخبرين على وحه التقية بالمعنى المتقدم له مؤشرات في الأخبار كما لاحظنا.

ولكن الخبر الأول والأهم في المقام - لأنه الصحيح في نظر البعض وأما البقية فلم تصح سنداً - لا يتعيّن فهمه على ضوء هذه النظرية، بل يحتمل التفسير الآتي في النظرية الثالثة.

 النظرية الثالثة: الحمل على التدبيريّة

 وثمة وجه آخر نطرحه ونميل إليه في تفسير هذه النصوص، وهو ورودها في دائرة الأحكام التدبيرية ذات الطابع المرحلي، وهذا ما يشهد به أخذ عنصر الحياة في الإمام، فالأخذ بقول الإمام الحي لا وجه له ظاهراً إلا أنّه الحاكم الفعلي الذي تلزم إطاعته، والظاهر أنّ هذا هو ما فهمه الشيخ الصدوق من هذه الأخبار، حيث إنّه في باب الوصيّة ذكر خبرين متعارضين ورجح أحدهما على الآخر، ثم قال: "ولو صح الخبران جميعاً لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق (ع)، وذلك لأنّ الأخبار لها وجوه ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس"، فإنّ قوله: "وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس" يتناسب مع كون نظره إلى ما ذكرنا من الأحكام التدبيرية.

 وكون مورد الأخبار هو الحديثان لا يمنع من هذا الحمل لأن الحديث يعكس أمر الإمام (ع).

وبناءً على ما ذكرناه تخرج المسألة عن باب التعارض، فلا وجه لما فعله بعض العلماء من اعتماد الأحدثية كميزان أو معيار من مرجحات باب التعارض بين الأخبار[14]، فإن هذا الأمر يواجهه إشكال آخر وهو أنّ الأحدثيّة ليست مفهومة باعتبارها دليلاً أو طريقاً على تعيين الحكم الصادر عن الإمام(ع) واقعاً، إذ تأخر الزمن وتقدمه لا علاقة له بما هو حق أو ما هو صادر عنهم. يقول السيد الشهيد رحمه الله:"  فإن كلمات الأئمة عليهم السلام تنظر جميعاً إلى وقت واحد وتكشف عن حكم شُرِّع في صدر الإسلام فلا أثر لمجرد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفيّة والطريقيّة التي هي ملاك الحجية والاعتبار"[15]

 فالترجيح بالأحدثية يعني أننا أمام معيار تعبدي في الترجيح لا ينسجم مع القواعد العقلائية، على أن ظاهر الروايتين أنّ الرواي قد سمع الحديثين المختلفين من الإمام (ع) فهو يقطع بصدورهما عنه (ع)، وعليه فلا معنى لتكون الأحدثيّة معياراً لمعرفة الصادر عنه (ع).

ونكتفي بهذا القدر من الحديث حول مسألة الترجيح بالأحدثية، وللتوسع في ذلك مجال آخر من البحث.[16]

أخبار التفويض

وقد يقال: إنّ أخبار التفويض أيضاً ناظرة إلى البعد التدبيري، وهي مجموعة من الأخبار، منها رواه الكليني بسند صحيح عن أَبِي إِسْحَاقَ النَّحْوِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه ع فَسَمِعْتُه يَقُولُ: إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّه عَلَى مَحَبَّتِه فَقَالَ * (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه، فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : * (وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]،  وقَالَ عَزَّ وجَلَّ : * (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله) [النساء: 80]، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: وإِنَّ نَبِيَّ اللَّه فَوَّضَ إِلَى عَلِيٍّ وائْتَمَنَه فَسَلَّمْتُمْ وجَحَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّه لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا وأَنْ تَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، ونَحْنُ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ مَا جَعَلَ اللَّه لأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلَافِ أَمْرِنَا"[17].

وذلك بأن يقال: إنّ التفويض هنا هو بمعنى تفويض أمر السلطة والولاية[18]، وهذا ما يناسبه " الخلق العظيم" ويناسبه قوله: " فَسَلَّمْتُمْ وجَحَدَ النَّاسُ"، فإنّ ما جحده الناس هو ولاية علي (ع) السياسية[19]. نعم قد يقال: إنّ قوله (ع) "أن تقولو إذا قلنا.."، يناسب التشريع أو هو أعم منه ومن ولاية التدبير. وقد ذكر المجلسي أن أحد معاني التفويض هو "تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما يعلموا وهذا حق لقوله تعالى : {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وغير ذلك من الآيات والاخبار، وعليه يحمل قولهم عليهم السلام : " نحن المحللون حلاله والمحرمون حرامه "، أي بيانهما علينا، ويجب على الناس الرجوع فيهما إلينا"[20].

أقول: إن لم تساعد القرائن على حمل أخبار التفويض على إرادة ولاية التدبير أو هداية الناس، واستظهر أن المراد بها تفويض التشريع، فليس المقصود أن له (ص) ولاية التشريع ليحلل ويحرم كيف ما أراد، وإنما المقصود كما تقدم في المحور الأول، أنّ الله تعالى لما أكمل نبيه (ص) فوض إليه أن يحكم في دينه، وقد أمضى تعالى بعض ما سنه نبيه (ص). وهذا المعنى لو أردنا أن نسمّيه تشريعاً فلا مشاحة في الاصطلاح بيد أن ذلك لم يثبت لغير النبي (ص).

من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)



[1] الكافي ج 1 ص 67. ومختصر بصائر الدرجات ص 94.

[2] وسائل الشيعة حديث 7- 9، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

[3] الكافي ج 2 ص 218.

[4] الكافي ج 1 ص 67.

[5] م. ن. ح4.

[6] الروايات المتقدمة لا تخلو من إشكالات سنديّة، أما الأولى فلأن في سندها المعلى بن خنيس، وهو مختلف فيه، فقد ضعفه النجاشي صريحاً فقال: "ضعيف جداً، لا يعول عليه"[6]، ويبدو أنّ رأي السيد الخوئي تغير في الرجل فقد كان يوثقه ويأخذ برواياته، ثم أصبح يضعفه، قال رحمه الله: " وهو وإن كنّا نعتمد على رواياته إلَّا أن الصحيح أن الرجل ضعيف لا يعوّل عليه"[6]، والثانية مرسلة وكذا الرابعة ، وأما الثالثة ففيها أبو عمرو الكناني، وهو مجهول، وقد وصف المجلسي الخبر بالمجهول، انظر: مرآة العقول ج 9 ص 172. "بخبر أبي عمرو، انظر: المحكم في أصول الفقه لسيد محمد سعيد الحكيم ج6 ص443، بل صرّح الصادق الروحاني بأنّه "ضعيف بأبي عمرو الكنائي لأنّه لم يوثقه أحد" (زبدة الأصول ج4 ص443)، ولكن السيد الخوئي عبّر عنها بصحيحة أبي عمرو الكنائي، مصباح الأصول ج3 ص416 وبملاحظة معجم رجال الحديث نجد انّه لا توثيق للكنائي (راجع: معجم رجال الحديث ج22 ص287)، ولذا لا نعرف وجه تصحيح الرواية في مصباح الأصول، اللهم إلا إذا حصل سهو في نقل عبارة السيد الخوئي كأن يكون تعبيره في صحيح هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني، قال السيد الشهيد:" أما الرواية الأولى فهي ضعيفة بأبي عمرو الكناني الَّذي لم يثبت توثيقه . نعم قد نقل السيد البروجردي - قده - في جامع أحاديث الشيعة سنداً آخر لها عن صاحب الوسائل عن البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام مثله (راجع وسائل الشيعة ج16 ص207)  وهذا سند صحيح يمكن أن يتم على أساسه الحديث إلَّا أن الظاهر سقوط أبي عمرو في هذا السند سهواً فهشام بن سالم ينقل الرواية عن أبي عمرو الكناني أيضا ، والقرينة على ذلك توجه الخطاب إلى أبي عمرو في كلام الإمام عليه السلام مرتين . ولو تنزلنا عن ذلك وقع التهافت في النقل بين السندين بعد استبعاد كونهما روايتين"، انظر: بحوث في علم الأصول ج 7 ص 363.

أقول: ولعل السهو أو الاشتباه حصل من صاحب الوسائل، فإنّ الرواية كما يقول محققو الوسائل لم توجد في المحاسن المطبوع للبرقي، فقول الحر في ذيل الحديث 12 من الباب 24 من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ورواه البرقي في المحاسن عن علي بن نضال، والذي قبله عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) مثله" اشتباه، وذلك في قوله: "والذي قبله".

ولهذا يمكن القول: "إنّ روايات الترجيح بالأحدثية لا تتم سنداً، ولا يمكن دعوى حصول الوثوق بها لا سيما بملاحظة ما سيأتي من أنّها لا توافق القواعد العقلائية. ولم يحضرني الآن كتاب القمي في الأصول لأرى على ماذا اعتمد في توثيق روايات الأخذ بالأحدث، وما إذا كان هذا المرجح في طول الأخذ بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، أجل في بعض ملحقات كتابه مباني منهاج الصالحين تحدث عن ضعف مستند الرأي المشهور بالترجيح أولاً بموافقة الكتاب وثانياً بموافقة العامة، وبعد ذلك قال:" وعلى هذا الأساس لا يبقى مجال للترجيح بالموافقة مع الكتاب ولا بالمخالفة مع العامة، فيبقى للترجيح كون أحد المتعارضين أحدث من الآخر.."، أنظر: مباني منهاج الصالحين ج 8 ص 584.

[7] الوافية 331.

[8] الحدائق الناضرة ج 1 ص 105.

[9] الأصول الأصيلة 84.

[10] أنظر: مباني منهاج الصالحين ج10 ص 512 -513. ولاحظ ج 8 ص 584.

[11] شرح أصول الكافي ج 2 ص 332.

[12] الوافي ج 1 ص 285.

[13] الحدائق الناضرة ج 1 ص 105.

[14] آراؤنا في أصول الفقه ج3 ص227.

[15] بحوث في علم الأصول ج 7 ص 365.

[16] وليلاحظ ما ذكره بعض العلماء: الكافي في أصول الفقه ج2 ص951.

[17] الكافي، ج 1، ص 265، وللخبر سندان، الأول منهما مجهول والثاني صحيح. ولاحظ: مرآة العقول ج 3 ص 141. وأما تضعيف بعضهم للرواية بحوث فقهية مهمة، ص 528، فهو في غير محله وقد غفل عن أن الكليني رواها بسند آخر.

[18] كما رجحه الشيخ مكارم في كتابه بحوث فقهية مهمة، ص 528.

[19] بحوث في الفقه المعاصر، ج 1، ص 33.

[20] بحار الأنوار، ج 25، ص 349.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon