أهم الاتجاهات التفسيريّة ذات العلاقة بالرواية -1
الشيخ حسين الخشن
الباب الثاني: حجية أخبار الآحاد وأخبار التفسير / المحور الثاني: أهم الاتجاهات التفسيريّة ذات العلاقة بالرواية
-
الاكتفاء بالكتاب / تفسير القرآن بالقرآن
-
الاكتفاء بالسنة دون غيرها في التفسير
-
التفسير بالرأي
-
حاكمية القرآن على السنة
لسنا هنا بصدد دراسة مختلف الاتجاهات المطروحة في تفسير القرآن، وإنما يهمنا التطرق إلى الاتجاهات الوثيقة الصلة بالرواية ودورها إيجاباً أو سلباً في التفسير، والاتجاهات التي هي من هذا القبيل أربعة:
الأول: الاكتفاء بالقرآن.
الثاني: الاكتفاء بالسنة دون غيرها.
الثالث: التفسير بالرأي.
الرابع: حاكمية القرآن على السنة.
وصلة الاتجاهين الثاني والرابع ببحثنا ( دور الرواية في التفسير ) واضحة، وأما صلة الاتجاه الأول ببحثنا فهي واضحة أيضاً، فهو يرفضُ أي دور للرواية في التفسير، ويكتفي بتفسير القرآن بالقرآن، وأما صلة الاتجاه الثالث ببحثنا فهو أنّ ما ورد من النهي عن التفسير بالرأي هو أحد أدلة القائلين بضرورة الجمود في التفسير على المأثور، كما سيأتي. وفيما يلي دراسة تفصيلية لهذه الاتجاهات:
الاتجاه الأول: الاكتفاء بالكتاب / تفسير القرآن بالقرآن:
يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أنه لا مجال لتفسير القرآن إلا بالقرآن ولا يرجع إلى غيره في تفسيره، وقد تبنت بعض المدراس فكرة الاكتفاء بالكتاب في بناء المعرفة الإسلامية بما في ذلك تفسير الكتاب. وقد أوضحنا في المحور الأول بطلان هذا الاتجاه لجهة ما ذهب إليه من عدم حجية السنة في بناء المعرفة الدينية بشكل عام، ورددنا على من أسموا أنفسهم بالقرآنيين، وأهل القرآن، وإذا كان البعض يعتقد أن تفسير القرآن بالقرآن هو الطريقة المثلى أو المتعيّنة في التفسير، فإنّ البعض الآخر يرفض هذه الطريقة لأنّها تعني الابتعاد عن المعصوم في تفسير الكتاب، وسيأتي أنّ بعضهم يفسِّر النهي الوارد عن ضرب القرآن بالقرآن بأنّ المراد به هو تفسير القرآن بالقرآن.
وما يهمني التعرّض إليه هنا هو دراسة المسألة من زواية بيان حجية السنة في تفسير الكتاب، وتفنيد دعوى انحصار تفسير القرآن بالقرآن نفسه، وسوف نتناول هذا الموضوع من خلال وقفتين:
الوقفة الأولى: تفسير القرآن بالقرآن
إنّ البحث عن تفسير الكتاب بالكتاب هو بحث قد يحتاج إلى متسع أكثر، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولهذا نلقي نظرة عامة حول هذا الموضوع، وذلك من خلال النقاط التالية:
-
تفسير القرآن بالقرآن: تعريفه، مبرره، وأهم موارده
أولاً: ما المراد بتفسير القرآن بالقرآن؟
الجواب: إنّ تفسير الكتاب بالكتاب يعني لجوء المفسر في التعرّف على المقصود من الآية التي هي محط نظره إلى نظيراتها من الآيات القرآنية ذات الصلة، بما يبين المراد من الآية المبحوث عنها، أو يذكر بعداً أو عمقاً من أعماقها، أو مصداقاً آخر من مصاديقها، أو يخصص عمومها أو يقيد إطلاقها، أو يفصل ما أجملته، أو يضيء عليها بشكل أو بآخر، ومن هنا فإنّ المفسّر الذي يروم تفسير القرآن بالقرآن لا بدّ أن يمتلك ثقافة قرآنية متكاملة تجعله ملماً عند بحثه التفسيري في موضوع قرآني معين بكافة الآيات التي تناولت الموضوع المذكور وأشباها ونظائرها، حتى لا يأتي تفسيره للآية تفسيراً مبتوراً وناقصاً أو مجانباً للصواب، بسبب تعاملنا التجزيئي مع الآيات.
ثانياً: ما المبرر لهذا التفسير؟
وقد تسأل: ما المبرر والمسوّغ لهذا النوع من التفسير؟ فلمَ نحتاج إلى تفسير الآية بأختها؟
والجواب: إنّ المبرر لذلك هو أنّ القرآن الكريم قد بيّن المعارف بشكل تدريجي حيث قد يصعب فهمها أو تقبلها إذا طرحت بشكل دفعي، كما أنّه كتاب حركي يتابع الأحداث والمستجدات، فقد يقتضي الحال أن يبيّن الأمر من زواية معيّنة، دون أن يفصِّل الكلام، وفي مقام آخر يحتاج المقام إلى بيان جزءٍ آخر من الصورة لمناسبة اقتضت ذلك. وهو أيضاً كتاب تشريعي، ومن عادة المشرعين إصدار التشريعات بالتدريج، تمهيداً للنفوس وتعويداً لها على الانسجام مع ثقافة القانون، ومن هنا فقد يُجمل المشرع الأمر في البداية، ليبينه مفصلاً بعد ذلك، وقد يطلق الحكم، ثم يقيد إطلاقه بعد ذلك، وقد يطرح الحكم بمستواه التمهيدي، ثم يعقِّب في مرحلة لاحقة ببيان المستوى الثاني والثالث وصولاً إلى البيان التام، فلا يمكن لمن يريد معرفة الصورة الكاملة أن يقتصر على آية بعينها أو مستوى بعينه.
ثالثاً: أهم موارد هذا التفسير
وتفصيلاً للكلام في هذا النوع من التفسير، نقول: إنّ ثمة موارد عديدة يمكن إدراجها تحت عنوان تفسير القرآن بالقرآن، من أهمها:
-
توضيح المجمل والمتشابه، فربّ آية أجملت المراد عند بيان أمر من الأمور لحكمة تقتضي ذلك، فجاءت آية أخرى وأوضحت الصورة بشكل تفصيلي، كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [المائدة: 1]، فما يتلى عليكم مجمل، وقد فصلته آيات أخرى، ومنها[1] قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. وهذا النوع من التفسير، أعني الرجوع في المجمل إلى المبيّن وفي المتشابه إلى المحكم هو مما أرشد إليه القرآن نفسه في تحذيره من الاقتصار على الأخذ بالمتشابه دون الرجوع إلى المحكم الذي هو أم الكتاب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [ آل عمران 7].
-
تقييد المطلق، فربما أطلقت الآية النازلة أولاً الحكم، وجاءت الآية اللاحقة لتقيّد إطلاقها، وهذا لها أمثلة قرآنية كثيرة، منها ما جاء في عدة المطلقة ، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، حيث أطلقت لزوم العدة على المرأة، أكانت مدخولاً بها أو غير مدخول، ولكن آية أخرى قد قيّدتْ هذا الإطلاق، وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [الأحزاب:49].
-
بيان حدود المفهوم الوارد في الآية الأولى، على سبيل المثال: إنّ قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] يستفاد منه أنّ مطلق الظلم يمنع الإنسان من الأمن يوم القيامة، ما قد يعني أنّه لن يرى الأمن إلا النادر من الناس كالأنبياء والأولياء (ع)، لأنهم منزهون عن ظلم الآخرين، وأما الغالبية العظمى من بني آدم فقد ارتكبوا ظلماً معيناً، فلن ينجوا يوم القيامة، لكن إذا أخذنا بالاعتبار أن يكون المقصود هو نوع خاص من الظلم، وهو الشرك، الذي هو من أعظم الظلم كما جاء في قوله تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، فإنّ ذلك يسلط الضوء على المراد بالظلم الذي تقصده الآية الأولى، وهذا المعنى - كما سيأتي - هو مفاد رواية عن النبي (ص). وقرينة الإيمان في الآية، أعني قوله: {الذين آمنوا} تشهد لما نقول، فإنّ الشرك هو أكثر ما يفسد الإيمان. وطبيعي أنّ هذا المورد لم ندرجه تحت عنوان المطلق والمقيد، لأن الإطلاق والتقييد إنما هو في الأحكام، لا في بيان الحقائق الأخرى.
-
التدرج في بيان الحكم، فقد تقتضي الحكمة بيان الحكم الشرعي على مراتب، تأهيلاً للناس وإعداداً لهم للأخذ بالحكم في مرحلته الأخيرة، كما هو الحال في قضية الخمرة، حيث نزل تحريمها - كما هو معروف - بشكل تدريجي من خلال عدة آيات[2]، حيث إنّ الإدمان على الخمرة كان عادة منتشرة عند العرب، ولا يمكن قلعها بسهولة، وإنما تحتاج النفوس إلى إعداد تدريجي، فكان أن نزل من الآيات في بادئ الأمر قوله تعالى: { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقا حسناً} [النحل: 67]. فالسكر، هو الشراب المسكر جعل في مقابل الرزق الحسن في إشارة إيمائية إلى كون السكر ليس حسناً، ثم وفي مرحلة لاحقة وفي المدينة المنورة نزلت الآية الثانية لتقترب بالنفوس خطوة إضافية من جو التحريم، وهي قوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، فهي في الوقت الذي تشير إلى بعض منافع الخمرة، فإنّها تشير إلى أنّ الأضرار هي أكثر من المنافع، ثم تلا ذلك في المرحلة الثالثة نزول آية تضيّق على الناس أمر شربه مانعة أياهم من الاقتراب من الصلاة وهم سكارى، ما يفرض عليهم عدم معاقرة الخمر في غالب الأوقات، وهي قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}[النساء: 43]، ليلي ذلك في المرحلة الأخيرة الحسم القرآني في المسألة، وهو قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91].
رابعاً: فوائد هذا التفسير
ولا يخفى أنّ لتفسير القرآن بالقرآن فوائد جمة، ومن أهمها:
-
ما تقدم من أنّ له دوراً محورياً في بيان الصورة الكاملة للمفهوم القرآني، وأنه يسهم في توضيح المجمل من الآيات حتى لا يأتي فهمها مبتوراً وناقصاً. وتوضيحاً لهاتين الفائدتين نشير إلى أنّ آيات القرآن التي تتحدث عن الاختيار أو الجبر مثلاً، إذا لم تنظم في سلك واحد مترابط، فسيأتي فهمها غير مطابق للواقع، وهذا ما وقع فيه البعض، فإنه عندما قرأ آية يلوح منه الجبر أخذ بها واعتقد بالجبر الكلي وسلبِ حرية الإنسان، وفي المقابل، فإنّ البعض عندما قرأ آية ظاهرة في الاختيار أخذ بها واعتقد بالاختيار المطلق، ولو أنهم قرأوا الآيات قراءة موضوعية واستعانوا على تفسير بعضها بالبعض الآخر لتوصلوا إلى نتيجة ثالثة، وهي الاعتقاد بالأمر بين الأمرين، كما تبنت ذلك مدرسة أهل البيت (ع)[3].
-
رفع ما قد يتخيّل في بادئ النظر من تنافٍ أو تعارض بين الآيات المباركة، فإنّ الناظر في بعض الآيات نظرة تجزيئية قد يخال أو يتوهم وجود شيء من التنافي بينها، بيد أنّه وبضم بعضها إلى البعض والتدبر في دلالتها ومراميها ونكاتها يكون سيرتفع هذا التوهم، وعلى سبيل المثال: فإنّ المستفاد من قوله تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } [النساء: 3]، مشروعية تعدد الزوجات مع لزوم العدل بينهن، وفي حال عدم القدرة على العدل بينهن فعليه الاقتصار على واحدة، وهذا المعنى قد يخال البعض أنه يتنافى مع ما يستفاد من قوله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما } [النساء: 129]، فإنّ هذه الآية تنفي إمكانية العدل، كما يستفاد من نفي استطاعة ذلك ولو مع الحرص الشديد، وعليه، قد يتساءل البعض، مع وجود استحالة أو شبه استحالة للعدل بين الزوجات، فكيف يباح التعدد في الآية الأولى وبتعميم واضح وجلي { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع }؟!
ولكنْ التأمل والتدبر في الآيتين يقودنا إلى الإذعان بعدم وجود تهافت بينهما، لأن ما تنفيه الآية الثانية من القدرة على العدل بين الزوجات، هو غير ما تطلبه الآية الأولى، فالعدل المنفي في الآية الثانية { لن تستطيعوا أن تعدلوا } هو العدل المطلق والتام بما في ذلك العدل على صعيد المشاعر القلبية، فهذا ليس مستطاعاً، لا أن جنس ومطلق العدل بينهن غير مقدور، ولذا أردفت الآية بطلب المستطاع فقالت: { فلا تميلوا كل الميل } لتبيّن للرجال أنه وفي حال عدم قدرتكم على تحقيق العدل التام والشامل بينهن، فلا تجوروا بالميل إلى إحداهن ميلاً مجحفاً بحق الأخرى. وإشكال التهافت بين الآيتين قد طرحه أحد ملاحدة عصر الإمام الصادق (ع)، على المتكلم الشهير هشام بن الحكم، ولما عجز هشام عن تقديم جواب على الإشكال، شدّ الرحال إلى المدينة المنورة ليضع المعضلة بين يدي الإمام الصادق (ع)، ويأخذ منه الجواب الشافي، فقد روى الكليني في صحيحة نُوحِ بْنِ شُعَيْبٍ ومُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ فَقَالَ لَه: ألَيْسَ اللَّه حَكِيماً؟ قَالَ: بَلَى، وهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) ألَيْسَ هَذَا فَرْضاً قَالَ بَلَى قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: (ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أَيُّ حَكِيمٍ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا؟! فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَه جَوَابٌ، فَرَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَقَالَ: يَا هِشَامُ فِي غَيْرِ وَقْتِ حَجٍّ ولَا عُمْرَةٍ، قَالَ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ لأَمْرٍ أَهَمَّنِي، إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ سَأَلَنِي عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهَا شَيْءٌ، قَالَ: ومَا هِيَ؟ قَالَ: فَأَخْبَرَه بِالْقِصَّةِ، فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): أَمَّا قَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) يَعْنِي فِي النَّفَقَةِ وأَمَّا قَوْلُه: (ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) يَعْنِي فِي الْمَوَدَّةِ، قَالَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْه هِشَامٌ بِهَذَا الْجَوَابِ وأَخْبَرَه قَالَ واللَّه مَا هَذَا مِنْ عِنْدِكَ"[4].
خامساً: علاقة هذا التفسير بالتفسير الموضوعي
لا يخفى أنّ ثمة صلة وثيقة بين تفسير القرآن بالقرآن وبين التفسير الموضوعي للقرآن، وإذا أردنا الدقة في بيان العلاقة بين هذين النوعين من التفسير لقلنا إنّها نسبة العموم والخصوص المطلق، فكلّ تفسير موضوعي هو من تفسير القرآن بالقرآن[5]، ولكن ليس كل تفسير للقرآن بالقرآن، هو تفسير موضوعي، ففي الحالات التي يكون رجوع المفسر إلى سائر الآيات التي تسلط الضوء على الآية التي هي محطّ النظر مؤدياً إلى تكوين رؤية قرآنية عامة عن الموضوع المبحوث عنه ، فهذا سيكون من تفسير القرآن بالقرآن مع كونه تفسيراً موضوعياً، وأمّا في الحالات التي يكون الرجوع فيها إلى الآيات الأخرى هو لمجرد تسليط الضوء على دلالة جزئية في الآية المبحوث عنها، أو لتوضح المجمل أو تقييد المطلق فهذا ليس من مصاديق التفسير الموضوعي، مع كونه من تفسير القرآن بالقرآن.
-
تفسير القرآن بالقرآن بين الأرجحيّة واللزوم
يرى غير واحد من العلماء والمفسرين أنّ هذه الطريقة في التفسير هي من أفضل وأحسن أنواع التفسير، يقول السيد الخوئي: "أحسن التفسير تفسير القرآن بالقرآن حيث يمكن فهم معنى الآية من خلال آيات أخرى"[6].
وقال السيد الطباطبائي في بيان منهجه في التفسير: " نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى : {إنا نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء..} [النحل: 89]"[7].
وقال ابن تيميّة: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ؛ فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ"[8].
ويقول الشنقيطي في مقدمة تفسيره: " واعلم أنّ من أهم المقصود بتأليفه أمران: أحدهما: بيان القرآن بالقرآن، لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا... والثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبينة في هذا الكتاب.."[9].
وما ذهب إليه هؤلاء الأعلام من مشروعية بل وأفضليّة هذا النوع من التفسير هو أمر صحيح ولا ينبغي التشكيك فيه، وتستفاد أفضليته من عدة وجوه:
-
إنّ من البديهي أن يكون المتكلم الواحد هو خير من يفسّر مراده ويوضح ما أشكل على الآخرين فهمه من كلامه[10]، فمن أولى وأعلم بتفسير كلام الله غير الله تعالى؟!
-
إنّ القرآن الكريم إذا كان بياناً لغيره من الأمور والحقائق، فبالأولى أن يكون بياناً لنفسه، قال الله تعالى: { إنا نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } [النحل: 89] . يقول الطباطبائي: "وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وقال تعالى: { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185] . وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليكم نورا مبيناً..} . وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقانا ونورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشد الاحتياج"[11].
-
أنّ الدعوة القرآنية إلى التدبر في آيات القرآن، { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيه ِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، تمثّل في الواقع دعوة إلى التأني في تفسير الكتاب وفهم آياته وعدم التسرع في إبداء الرأي، ولا شكّ أنّ النظرة التجزيئية إلى بعض الآيات ومحاولة استنطاقها وتفسيرها بعيداً عما نزل من آيات أخرى في الموضوع ذاته تعبّر عن مجانبة المفسر لمبدأ التدبر في القرآن، وهو ما قد يُظهر الآيات الكريمة مختلفة ومتباينة.
-
إنّ هذا المنهج في التفسير تستفاد أفضليته وأهميته من بعض الأخبار، منها ما ورد عن النبي (ص):"أنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً"[12]. ومنها ما ورد عن علي عليه السلام:" كِتَابُ اللَّه تُبْصِرُونَ بِه، وتَنْطِقُونَ بِه وتَسْمَعُونَ بِه، ويَنْطِقُ بَعْضُه بِبَعْضٍ، ويَشْهَدُ بَعْضُه عَلَى بَعْضٍ، ولَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّه، ولَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِه عَنِ اللَّه"[13].
إنّ هذا كله يؤشر ويدلل على أفضليّة هذا النوع من التفسير، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يقف الأمر عند حدود الأفضليّة والأرجحيّة، كما صرحت الكلمات المتقدمة وغيرها[14]، مع ما تعنيه الأفضلية من عدم وجود ملزم للمفسر باعتماد هذا الطريق، أم يتجاوز ذلك إلى حدّ تعيّن اعتماد هذا التفسير والأخذ بنتائجه؟
والجواب: أنّ الأمر - باعتقادي - لا يقف عند حدود الأفضلية، بل يمكن القول إنّ تفسير القرآن بالقرآن هو مسار يتعين على المفسر الأخذ به، ولا يعذر بتركه في أكثر من مجال من مجالات التفسير، وذلك لبعض الوجوه، وهي بالإضافة إلى بعض ما تقدم:
الوجه الأول: إنّ القرآن الكريم كما لا يخفى قد تناول الموضوع الواحد في أكثر من مقام، وهذا ما اقتضته طبيعة الدعوة وضرورة التدرّج في التشريع ونزول الآيات تباعاً على فترة عقدين ونيف، الأمر الذي يفرض على كل من يريد أن يفسر آية من القرآن أن يقرأها أولاً في السياق القرآني العام الذي يضيء على دلالتها وأبعادها بشكل أو بآخر، وأن لا يفصلها عن سائر الآيات التي تناولت الموضوع عينه، حتى لا يأتي فهمه مبتوراً، وإذا كان لا يمكن للقاضي أو المحامي التعامل بانتقائية أو تجزيئية مع النصوص القانونية، فيستند إلى نصٍّ قانوني مع بتره من سياقه أو دون أن يأخذ سائر النصوص ذات الصلة بعين الاعتبار، فكذلك الحال في المفسر لكتاب الله تعالى. وسيأتي مزيد توضيح لذلك عما قليل.
الوجه الثاني: إنّ هناك آيات قرآنية تُلزم بضرورة اعتماد هذا النوع من التفسير، وتحذر من التفسير التجزيئي الذي يَقْصُر المفسر فيه نظره على آية بعينها دون أن يأخذ سائر الآيات التي توضح المقصود منها بعين الاعتبار:
الآية الأولى: قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[ الحجر 90 - 93]، فهذه الآية تنهى عن تعضية[15] القرآن الكريم، كما يفعل المقتسمون الذين أنزل [16]جعلوا القرآن متفرقاً ومجزئاً فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه الآخر. قال الطبرسي في بيان معنى التعضية: "فرقوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه"[17]، ومن أشكال التعضية الإيمان ببعض الآيات والكفر بالبعض الآخر.
الآية الثانية: قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة: 85]. وتفسير آية من القرآن والأخذ بها بعيداً عما تتضمنه آية أخرى تسلط الضوء على المراد بالآية الأولى هو من مصاديق الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر.
الآية الثالثة: قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران: 7]. إنّ لزوم ردّ المحكم إلى المتشابه، يمثّل دعوة إلى تفسير القرآن بالقرآن، ونهياً عن الأخذ بالمتشابه دون الرجوع إلى المحكم، ما يشكل دليلاً ولو جزئياً على الفكرة العامة.
-
نماذج روائيّة من تفسير القرآن بالقرآن
إنّ ملاحظة المصادر المتخصصة في التفسير بالمأثور تبيّن لنا أنّ ثمة طائفة كبيرة من الأخبار واردة عن النبي (ص) والأئمة (ع) ويمكن إدراجها في عداد تفسير القرآن بالقرآن، وهي من الوفرة بحيث إنّه لو تمّ جمعها لشكلت مادة وفيرة من تراث النبي (ص) وأهل البيت (ع) في هذا المجال، وتكمن أهميتها أنها لا تشكل سنداً على مشروعية تفسير القرآن بالقرآن وأهميته فحسب، بل في أنها تعطينا مفاتيح خاصة لهذا النوع من التفسير ومجالاته. والتدبر فيها يمكّننا من التعرف على أهم معالم منهجهم (ع) في مجال التفسير، وحيث إنّ هذا الأمر خارج عن موضوع دراستنا فسنكتفي بإيراد بعض النماذج الواردة عنهم (ع) في هذا الحقل:
النموذج الأول: في حديث عبد الله بن مسعود لما نزلت: { الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّنا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله { إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]"[18].
النموذج الثاني: روى الصدوق في معاني الأخبار بسند ينتهي إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في قوله تعالى : { صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة: 7]، قال: أي قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة ، فإنهم قد يكونون كفاراً أو فساقاً. قال : وهم الذين قال الله : { ومَنْ يُطِعِ اللَّه والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}[النساء:69]"[19].
النموذج الثالث: وفي مجمع البيان: روي أنّ رجلاّ دخل مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فإذا رجل يحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: فسألته عن الشاهد والمشهود ، فقال : نعم ، أمّا الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، فسألته عن ذلك، فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة ، وأمّا المشهود فيوم النحر . فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار ، وهو يحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود . فقال : نعم ، أما الشاهد فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وأما المشهود فيوم القيامة أما سمعت الله سبحانه يقول : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً } [الأحزاب: 45]؟ وقال: { ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَه النَّاسُ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]، فسألت عن الأول ، فقالوا : ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثالث فقالوا : الحسن ابن علي ( عليهما السلام )"[20].
النموذج الرابع: وروى الصدوق بسنده عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) ، فقلت : قوله عز وجل : { يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75]؟ فقال ( عليه السلام ): "اليد في كلام العرب القوة والنعمة ، قال الله : { واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص: 17]، وقال : { والسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ }[الذاريات: 47]، أي : بقوة ، وقال : { وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه }[المجادلة: 22]، أي قواهم ، ويقال : لفلان عندي أياد كثيرة . أي فواضل وإحسان، وله عندي يد بيضاء. أي نعمة"[21].
النموذج الخامس: وروى البيهقي "أنّ عمر رضي الله عنه أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه فقال ليس عليها رجم فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه فسأله فقال: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } [البقرة: 233]، وقال: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15]، فستة أشهر حمله، حولين تمام لا حد عليها أو قال: لا رجم عليها قال: فخلى عنها، ثم ولدت"[22].
النموذج السادس: ما جاء في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قالا: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي ، وكم هي؟ فقال : إنّ الله عز وجل يقول: { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر ، قالا : قلنا : إنما قال الله عز وجل : { فليس عليكم جناح} [النساء: 101] ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السلام: أو ليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة : { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه عليه السلام وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي صلى الله عليه وآله وذكره الله تعالى ذكره في كتابه"[23].
إلى غير ذلك مما ورد عنهم في هذا المجال، ويلاحظ أن الأخبار المتقدمة تتضمن لساناً تعليمياً يرشد ويحثُّ على اعتماد هذه الطريقة في تفسير آيات القرآن، ما يعني أنّ هذا الأسلوب لا يختص بهم (ع).
من كتاب: حاكمبة القرآن (دراسة تأصيلية حول علاقة السنة بالكتاب ودورها في تفسيره)
[1] أشار إلى ذلك المفسرون، انظر: جوامع الجامع، ج 1، ص 469.
[2] التدرج القرآني في تحريم الخمر هو أمر مشهور وذكره المفسرون، وإن اختلفوا في مراتب التدرج، أنظر: تفسير مقتنيات الدرر،ج 2، ص 57، وتفسير الميزان، ج 2، ص 193 – 194، والتفسير الكاشف، ج 1، ص 328، ويستفاد التدريج على مرحلتين من بعض الروايات، فمن ذلك ما رواه عن سعيد بن يسار ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: " وقد أنزل الله لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) في كتابه ما قد قرأتموه : * ( ومِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْه سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً ) * فكان المسلمون [يشربون] بذلك، ثم أنزل الله آية التحريم، هذه الآية: إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأَنْصابُ والأَزْلامُ ) * - إلى – مُنْتَهُونَ" يا سعيد، فهذه آية التحريم، وهي نسخت الآية الأخرى"، تفسير العياشي، ج 2، ص 263. بينما ذهب غير واحد من المفسرين إلى نزول آيات أربع في التحريم، والمعروف في المراحل الأربع هو ما ذكره الفاضل المقداد، قال: "وأمّا المفسّرون فقالوا نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكَّة: "ومِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً" وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثمّ إنّ عمرو معاذا ونفرا من الصّحابة قالوا: يا رسول اللَّه أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت: « فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ » فشربها قوم، وتركها آخرون، ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ « قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت: « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى » » فقلّ من يشربها ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيها هجاء الأنصار، فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكا إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله فقال عمر: اللَّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت: « إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأَنْصابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ » إلى قوله: « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»" كنز العرفان، ج 2، ص 305. وقال السيد الطباطبائي وهو يطرح نموذجاً على التدرج في بيان الأحكام: "آيات حرمة الخمر: فقد قال تعالى: { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا }: النحل - 67 والآية مكية ذكر فيها أمر الخمر وسكت عنه إلا ما في قوله ورزقا حسنا من الايماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن، ثم قال: { قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم}: الأعراف - 33 والآية أيضاً مكية تحرم الاثم صريحاً لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقاً في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم ثم قال: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }: البقرة - 219 والآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الاثم الذي حرمته آية الأعراف ولسان الآية كما ترى لسان رفق ونصح ثم قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} : المائدة - 91 والآية مدنية ختم بها أمر التحريم"، تفسير الميزان، ج 4، ص 185. وهو هنا لم يذكر في سياق آيات التحريم قوله تعالى: { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43]، ولكنه ذكر ذلك في محل آخر، انظر: الميزان، ج 2، ص 194. دون أن يغير في رأيه بشأن فهمه لسائر الآيات، وربما يرى البعض أن آية { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} لا علاقة بالخمر، وذلك بسبب ما دلّ عليه الخبر من أن المراد بالسكر فيها هو سكر الخمر، ففي صحيحة أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ * ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى ) * فَقَالَ سُكْرُ النَّوْمِ"، الكافي، ج 3، ص 371. ولكننا نرجح أن يكون ذلك من التفسير بالمصداق، ويؤيده ما رواه الصدوق عن أبي جعفر عليه السلام " في قول الله عز وجل: { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} قال: منه سكر النوم "، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 480. ويظهر من بعض مفسري الشيعة وفقهائهم رفض فكرة التدرج في الخمر، وأن التحريم لم يكن في مرحلة حلالاً ثم حرّم، قال الفاضل المقداد: "اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع وما أبيحت في شريعة قط وكذا كل مسكر، وأوردوا في ذلك أخباراً عن أئمتهم عليهم السّلام". كنز العرفان، ج 2، ص 304. ثم نقل عن سائر المفسرين التحريم التدريجي، وقد نقلنا كلامه. أقول: ما ذكره الفاضل المقداد من حرمة الخمرة في كل الشرائع ومنها الشريعة الإسلامية لا ينفي فكرة التدرج، فإن التدرج هنا لا يعني أن الشريعة قد حللته بادئ الأمر ثم أخذت بتحريمه، ناسخة حكمها بالحلية، وإنما غاية ما يعنيه مبدأ التدرج هو أن الحكم بالتحريم قد تمّ بيانه على مراحل، نعم غاية الأمر أن من شرب الخمر قبل صدور التحريم فهو معذور، ولا يعاقب لأنه لا عقاب بدون بيان.
[3] في الحديث عن الإمام الصادق (ع): " قَالَ: لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: ومَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ: مَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَه عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَه فَلَمْ يَنْتَه فَتَرَكْتَه فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَه كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَه بِالْمَعْصِيَةِ "، الكافي، ج 1، ص 160. وروى نحوه في التوحيد للصدوق، ص 362.
[4] الكافي، ج 5، ص 3363، وعنه تهذيب الأحكام، ج 7، ص 420.
[5] هذا بناءً على أن االتفسير الموضوعي إنما يستهدف تقديم رؤية القرآن الكريم حول موضوع من الموضوعات، قال بعضهم في بيانه وتعريفه: "التفسير الموضوعي وهو يعنى بتفسير آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات والمفاهيم ، أي حسب التبويب والتقسيم الموضوعي للقرآن الكريم . وتتلخّص هذه الطريقة في جمع الآيات المتعلَّقة بالموضوع الواحد في مكان واحد ، ثمّ تصنيفها على حسب التسلسل الموضوعي ، ثمّ القيام بعمليّة جمع بين الأصناف لاستنباط نظرة واحدة متكاملة وفكرة جامعة شاملة من مجموع هذه الآيات"، تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص 50، وطبيعي أن اعتماد المفسر الموضوعي على القرآن في عمله التفسيري لا يمنع من استشهاده بالأخبار.
[6] صراط النجاة، ج 1، ص 469.
[7] تفسير الميزان، ج 1، ص 11.
[8] مجموعة الفتاوى، ج 13، ص 363.
[9] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج 1 ، ص 5، الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، بيروت دار الكتب العلمية، الأولى، 1417هـ - 1996م.
[10] لا تقل: إنّ ما ذكرتموه في هذا الكلام أعلاه يصلح حجة للقرآنين النافين لوجود مرجعية تشريعية غير القرآن، لأننا نجيب على ذلك: بأنّ أعلمية المتكلم وأولويته في تحديد المراد من كلامه، لا تعني عدم وجود طريق آخر لمعرفة مراد المتكلم، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى، فإنّ قول النبي ( ص) أو ورثة علمه (ص) في تفسير الكتاب في حال ثبوت صدوره عنهم فهو كلام يصدر عن معين الوحي عينه الذي صدر عنه القرآن الكريم، لأن النبي (ص) لا يقول في تفسير القرآن الكريم برأيه، وإنما من خلال ما أوحى إليه ربه تعالى.
[11] تفسير الميزان، ج 1، ص 11.
[12] سنن الترمذي ج 4 ص 269، المعجم الأوسط ج 5 ص 208، وفي رواية أخرى عنه (ص): "ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"، إكمال الدين وإتمام النعمة للصدوق ص 257.
[13] نهج البلاغة، ج 2، ص 17.
[14] يقول الشيخ السبحاني عنه: "إن هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية"، الإيمان والكفر في الكتاب والسنة، ص 210.
[15] قال الطبرسي: "والتعضية: التفريق ، مأخوذ من الأعضاء ، يقال عضيت الشئ أي : فرقته وبعضته"، مجمع البيان، ج 6، ص 128.
[16] قال الطبرسي: "أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على اليهود والنصارى وهم المقتسمون * ( الذين جعلوا القرآن عضين ) * إذ قالوا بعنادهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه . "، جوامع الجامع، ج 2، ص 311.
[17] مجمع البيان، ج 6، ص 131.
[18] صحيح البخاري، ج 1، ص 14.
[19] معاني الأخبار، ص 36.
[20] مجمع البيان، ج 10، ص 316، ورواه محمد بن طلحة الشافعي ( 652 هـ) في كتاب مطالب السؤول في مناقب الرسول، ص 339، عن تفسير علي بن أحمد الواحدي المسمى بالوسيط.
[21] التوحيد، ص 153، ومعاني الأخبار، ص 16.
[22] السنن الكبرى للبيهقي، ج 7، ص 442. وروى بعدها رواية أخرى تظهر أن القضية حدثت مع عثمان، وتدخل الإمام علي (ع)، والقضية مروية في مصادر أخرى، أنظر: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني، ج 7، ص 349، وص 350، والاستيعاب لابن عبد البر، ج 3، ص 1103، ورواها الشيخ المفيد في الإرشاد، ج 1، ص 206.
[23] من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 434.