حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> أصول التفسير
الروايات الناسخة للقرآن الكريم -2
الشيخ حسين الخشن



يبقى أنه قد استدل القائلون بالنسخ بما ورد من وقوع ذلك، فلا بد ّ أن ندرس مدى صحة ذلك من خلال الوقفة التالية:

  1. نماذج للآيات التي قيل بنسخها بالأخبار

ويهمنا هنا أن نذكر بعض النماذج من الآيات التي ادعي أنها منسوخة بالسنة، ونكتفي بذكر نموذجين مع تقييم ما قيل في شأنهما:

الآية الأولى: قوله تعالى: { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 15 ] * والذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما [ 16 ].

في الخبر عن أبي جعفر الباقر (ع): " .. وسُورَةُ النُّورِ أُنْزِلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وتَصْدِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْه فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : * ( واللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } [النساء: 15]، والسَّبِيلُ الَّذِي قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ : * ( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وفَرَضْناها وأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله والْيَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 1-2]"[1]. وعن علي بن إبراهيم في مقدمة تفسيره متحدثاً عن الناسخ والمنسوخ: " ومثله أن المرأة كانت في الجاهلية إذا زنت تُحبس في بيتها حتى تموت والرجل يؤذى، فأنزل الله في ذلك: { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } [النساء: 15]، وفي الرجل: { واللذان يأتيانها منكم فأذوهما فان تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما} [النساء: 16]، فلما قوى الاسلام أنزل الله: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها ماءة جلدة} [النور: 2]، فنسخت تلك"[2].

أقول: لو تمّ ذلك، فهذا من نسخ القرآن بالقرآن، وهو خارج عن بحثنا في هذه النقطة، ولكنْ ما يعنينا أنّ البعض ادعى أنّ الآيتين منسوختان بخبر "آية" الرجم. قال الشيخ الطوسي: "قال أبو علي الجبائي: في الآية دلالة على نسخ القرآن بالسنة، لأنّها نسخت بالرجم أو الجلد، والرجم ثبت بالسنة، ومن خالف في ذلك، قال: هذه الآية نسخت بالجلد في الزنا، وأضيف إليه الرجم زيادة لا نسخاً، فلم يثبت نسخ القرآن بالسنة. فأما الأذى المذكور في الآية، فليس بمنسوخ ، فإنّ الزاني يؤذى ويعنف ، ويوبخ على فعله ، ويذم . وإنما لا يقتصر عليه، فزيد في الأذى إقامة الحد عليه، وإنما نسخ الاقتصار عليه"[3].

وزعم بعضهم أنّ آية الجلد نفسها منسوخة بخبر الرجم، قال الرازي: "وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم. قال الشافعي رضي الله عنه: أمّا الأول فضعيف، لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، وأما الثاني، فضعيف أيضاً لأن عمر رضي الله عنه روى أنّ قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " كان قرآناً فلعل النسخ إنما وقع به، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه والله أعلم"[4].

ويلاحظ عليه:

أولاً: إنّ ما ذكره الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب مبني على صحة نسخ التلاوة دون الحكم، وهذا مرفوض كما أوضحنا سابقاً، حيث قلنا إنه من أغرب أنحاء النسخ، لأنّ من المعقول نسخ الحكم والتلاوة، وكذا نسخ الحكم دون التلاوة، وأما نسخ التلاوة دون الحكم فلا وجه له إطلاقاً.

 ثانياً: إنّ خبر الرجم لو صح فهو أخص من مما جاء في القرآن الكريم من إيذاء الين أتوا الفاحشة أو ما جاء فيه من جلد الزاني، فيكون الأخذ بخبر الرجم - لو تم - من تخصيص القرآن بالخبر، وليس من النسخ المصطلح، وسنذكر لاحقاً أن التخصيص مقبول فيما لو كان الخبر متواتراً أو موثوقاً بصدوره.

الآية الثانية: هي قوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين..} [البقرة: 180]، وقد ادعي أنّها منسوخة بقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (النساء: 11)، وهذا لا يعنينا في المقام، وإنما يعنينا ما ادعاه آخرون من أنها منسوخة بقوله (ص): " لا وصية لوارث"[5]، وليس بآية المواريث.

قال الشافعي: " وما وصفت من أنّ الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث، وأن "لا وصية لوارث" مما لا أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافاً"[6].  وقال ابن فورك في شرح مقالات الأشعري: إليه ذهب أكثر أصحاب الشافعي، وإليه يذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري، وكان يقول: إنّ ذلك وجد في قوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } ،فإنّ هذه الآية منسوخة بالسنة وهو قوله: "لا وصية لوارث"، وكان يقول: إنّه لا يجوز أن يقال إنها نسخت بآية المواريث لأنه يمكن أن يجمع بينهما ... وحكاه أبو الفرج عن مالك قال: ولهذا لا تجوز الوصية عنده للوارث، للحديث فهو ناسخ لقوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر } الآية، قال عبد الوهاب: قال الشيخ أبو بكر: وهذا سهو، لأنّ مالكاً صرّح بأنّ الآية منسوخة بآية المواريث"[7].

وقال الفخر الرازي:" ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة، لأن آية الوصية للأقربين منسوخة، بقوله عليه الصلاة والسلام: " ألا لا وصية لوارث".. إلى أن قال: "قال الشافعي رضي الله عنه: أما الأول، فضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية"[8].

ولنا في المقام وقفتان.

الوقفة الأولى: نسخ الآية بالآية

إنّ ما ادعي من نسخ آية الوصية بآية الميراث غير تام، وذلك:

أولاً: لأنه لا تنافي بين الآيتين، ليحكم بالنسخ، فيمكن اجتماع الوصية مع الميراث، قال الجصاص: " فأمّا إيجاب الله تعالى الميراث للورثة فغير موجب نسخ الوصية، لجواز اجتماع الميراث والوصية معاً، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد أجازها للوارث إذا أجازتها الورثة؟ فلم يكنْ يستحيل اجتماع الميراث والوصية لواحد لو لم يكن إلا آية الميراث"[9].

ثانياً: إنّ آية المواريث قد قيدت وشرطت إنفاذ توزيع التركة وتقسيمها على الورثة بما بعد إنفاذ الوصية، { من بعد وصيّة يوصي بها }، وهذا ما نبّه عليه الجصاص أيضاً، قال: "على أن الله إنما جعل الميراث بعد الوصية، فما الذي كان يمنع أن يعطي قسطه من الوصية ثم يعطي الميراث بعدها؟"[10].

الوقفة الثانية: نسخ الآية بالخبر

وأما نسخ آية الوصية بالرواية فيرد عليه:

أولاً: إنّ الرواية هي من أخبار الآحاد، وقد رماها بعض الفقهاء بالضعف وناقش في أسانيدها[11]، ولا يمكن نسخ القرآن بأخبار الآحاد كما أسلفنا.

 ولكن الجصاص ادعى أن خبر " لا وصية لوارث" "هو عندنا في حيز التواتر، لاستفاضته وشهرته في الأمة، وتلقي الفقهاء إياه بالقبول واستعمالهم له. وجائز عندنا نسخ القرآن بمثله، إذ كان في حيز ما يوجب العلم والعمل من الآيات "[12].

لكننا لا نوافق على مدعاه، لا كبروياً كما تقدم، ولا صغروياً، كما سيظهر ذلك في التعليقات اللاحقة.

ثانياً: إنّ دعوى نسخ الآية بالرواية تعارضها الروايات المستفيضة والصحيحة المروية عن أهل البيت (ع)، والتي يظهر منها أنّ الآية لم تنسخ، ففي صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فَقَالَ: تَجُوزُ، قَال:َ ثُمَّ تَلَا هَذِه الآيَةَ : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ}"[13].

ثالثاً: " أنّ الرواية لو صحت، وسلمت عن المعارضة بشيء فهي لا تصلح لنسخ

الآية، لأنّها لا تنافيها في المدلول. غاية الأمر أنّها تكون مقيدة لإطلاق الآية

فتختص الوصيّة بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع، وبمن لا يرث من

الأقربين"[14].

ولكن قد يقال: إنّ الظاهر من الوارث في الخبر هو الوارث فعلاً، وليس الوارث لولا المانع كالقتل، أو لوجود طبقة أقرب منه.

من كتاب: حاكمبة القرآن (دراسة تأصيلية حول علاقة السنة بالكتاب ودورها في تفسيره)

 


[1] الكافي ج 2، ص 28،

[2] تفسير القمي، ج 1، ص 7.

[3] التبيان في تفسير القرآن، ج 3، ص 145، ونحوه في مجمع البيان، ج 3، ص 42.

[4] تفسير الفخر الرازي، ج 3، ص 232 – 233.

[5] روي أنّ النبي (ص) قال ذلك في حجة الوداع، فعن أبي أمامة الباهلي قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث.."، سنن الترمذي ج 3، ص 293، وسنن أبي ماجة، ج 2، ص 905، والسنن الكبرى للبيهقي، ج 6، ص 85.

[6] كتاب الأم، ج 4، ص 104،

[7] البحر المحيط في أصول الفقه، ج 3، ص 186.

[8] تفسير الفخر الرازي، ج 3، ص 232 – 233.

[9] أحكام القرآن، ج1، ص 202.

[10] أحكام القرآن، ج1، ص 202.

[11] قال السيد المرتضى: " ومعول القوم على خبر يرويه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عثمان عن عمرو بن خارجة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لا يجوز لوارث وصية ( 2 ) . وعلى خبر يرويه إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي إمامة الباهلي قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول في خطبته عام حجة الوداع : ألا إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث . وعلى خبر يرويه إسحاق بن إبراهيم الهروي عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار ، عن جابر بن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لا وصية لوارث . فأما خبر شهر بن حوشب فهو عند نقاد الحديث مضعف كذاب ، ومع ذلك فإنه تفرد به عن عبد الرحمن بن عثمان وتفرد به عبد الرحمن عن عمرو بن خارجة ، وليس لعمرو بن خارجة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا هذا الحديث ، ومن البعيد أن يخطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الموسم بأنه لا وصية لوارث فلا يرويه عنه المطيفون به من أصحابه ، ويرويه أعرابي مجهول وهو عمرو بن خارجة ، ثم لا يرويه عن عمرو إلا عبد الرحمن ، ولا يرويه عن عبد الرحمن إلا شهر بن حوشب وهو ضعيف متهم عند جميع الرواة . فأما حديث أبي أمامة فلا يثبت وهو مرسل ، لأن الذي رواه عنه شرحبيل ابن مسلم وهو لم يلق أبا أمامة ورواه عن شرحبيل إسماعيل بن عياش وحده وهو ضعيف . وحديث عمرو بن شعيب أيضا مرسل ، وعمرو ضعيف لا يحتج بحديثه . وحديث جابر أسنده أبو موسى الهروي وهو ضعيف متهم في الحديث ، وجميع من رواه عن عمرو بن دينار لم يذكروا جابرا ولم يسندوه . وما روي عن ابن عياش لا أصل له عند الحفاظ . وراوية حجاج بن محمد عن ابن جريح عن عطاء الخراساني - وعطاء الخراساني ضعيف ولم يلق ابن عياش وإنما أرسله عنه . وربما تعلق بعض المخالفين بأن الوصية للوارث إيثار لبعضهم على بعض وذلك مما يكسب العداوة والبغضاء بين الأقارب ، ويدعو إلى عقوق الموصي وقطيعة الرحم . وهذا ضعيف جدا ، لأنه إن منع من الوصية للأقارب ما ذكروه منع من تفضيل بعضهم على بعض في الحياة بالبر والإحسان لأن ذلك يدعو إلى الحسد والعداوة ولا خلاف في جوازه وكذلك الأول"، الانتصار، ص 599.

[12] أحكام القرآن، ج 1، ص 202.

[13] الكافي، ج 7، ص 10، ومن لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 194، وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 199.

[14] البيان في تفسير القرآن، ص 288 – 299.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon