الإيمان والعمل ركيزتا الخلاص الأخروي
الشيخ حسين الخشن
كيف تتم النجاة يوم القيامة؟ هل يحصل ذلك بمجرد الاعتقاد الصحيح أو أن الاعتقاد لا يكفي ما لم يقترن بالعمل؟ ثم ما المقصود بالاعتقاد وما المراد بالعمل؟
الإيمان: عقيدة وعمل
يبدو جلياً لكل من يراجع النص القرآني أنّ ثمة ركنين أساسيين يدور الخلاص يوم القيامة مدارهما، أحدهما يرتبط بالاعتقاد، والثاني بالعمل، وهما:
1 ـ الاعتقاد أو الإيمان بالله ورسوله(ص) واليوم الآخر.
2ـ الامتثال التام للتكاليف الشرعية. وباستجماع المكلف لهذين الركنين يستحق وصف الإيمان، وهو ـ أعني الإيمان ـ أخص من الإسلام، فليس كل مسلم مؤمناً، قال تعالى:{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}(الحجرات:14)، والإخلال بهذين الركنين أو بأحدهما يعرّض الإنسان للمساءلة والمؤاخذة إن لم يكن له عذر مخفف كالجهل القصوري أو غيره، وتجدر الإشارة إلى وجود فارق جوهري بين هذين الركنين، وهو أن الاخلال بالركن الأول لا يستوجب الخروج عن دائرة الإيمان فحسب بل عن دائرة الإسلام أيضاً، وأمّا الإخلال بالركن الثاني فهو لا يستوجب الخروج عن الدين إلا لدى فرقة الخوارج كما سيأتي، ولعل من أوضح الآيات القرآنية التي تشير إلى تقوّم الخلاص بهذين الركنين قوله تعالى في سورة العصر:{والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات..}، إلى العشرات من الآيات التي تؤكد على ارتباط المغفرة أو الثواب أو الجنة بالإيمان والعمل، وهذا ما أكدّت عليه أيضاً الروايات العديدة، كما في قول أمير المؤمنين(ع): "الإيمان: معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان"(نهج البلاغة) إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها ربط الإيمان بالعمل أو أنه لا قيمة لإيمان دون عمل أو لعمل دون إيمان.
لا نجاة دون عمل:
وقد أجمعت المذاهب الكلامية الإسلامية على أنّ الخلاص متوقف على الإيمان وهو الركن الأول، مع الاختلاف في تفاصيل وحدود ما يجب الاعتقاد أو الإيمان به، فالاعتقاد بالإمامة ـ مثلاً ـ داخل في عداد ما يجب الإيمان به لدى الإمامية، بينما نفى الآخرون اعتباره، نعم لا شك في وجود قدر أساسي متفق عليه بين كافة المذاهب الإسلامية وهو الإيمان بالله ورسوله(ص) واليوم الآخر... وأما الركن الثاني فإن اشتراط ركنيته مثار جدل بين المذاهب، ففي حين أنكرت المرجئة تقوّم الإيمان بالعمل واكتفت بتقوّمه بالاعتقاد القلبي، فإن الخوارج بالغوا في ركنيته معتبرين أنه ـ أعني العمل ـ مضافاً إلى كونه مقوّماً للخلاص والإيمان، فإنه مقوّم للإسلام أيضاً، ولذا حكموا بكفر مرتكب الكبيرة.
ويبدو أن هذين الاتجاهين يتسمان بالافراط والتفريط ولذا فهما مرفوضان، أمّا اتجاه الخوارج فواضح البطلان وقد فنده علماء المسلمين، يقول أمير المؤمنين(ع) ـ فيما روي عنه ـ في الرد عليهم: " قد عَلِمْتُم أن رسول الله (ص) رجم الزاني المحصن ثمّ صلى عليه، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهلَه، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا (تزوجا) المسلمات، فأَخَذَهم رسول الله بذنوبهم وأقام حق الله فيهم ولم يمنعم سهم الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله"(نهج البلاغة)، وهكذا فإن اتجاه المرجئة مرفوض أيضاً، وقد فندّه أئمة أهل البيت(ع) ورفضه سائر علماء المسلمين، وقد أوضحنا هذا الأمر في مقال سابق تحت عنوان "عقيدة الإرجاء: خطر كبير يبعث من جديد" وبيّنا أن الارجاء مفهوم دخيل صنعه الملوك لأغراض خاصة.
في ضوء ما تقدم من تقوم الإيمان بالعمل لا بدّ من محاكمة التراث الخبري الذي يلغي دور العمل وينفي دخالته في الخلاص، مكتفياً ببعض الاعتقادات، من قبيل ما روي من أن الإيمان بالأئمة من أهل البيت(ع) أو محبتهم كفيل وحده بإيصال صاحبه إلى برِّ النجاة دونما حاجة إلى اقترانه بالعمل الصالح والاستقامة على جادة الشرع، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) مخاطباً بعض أصحابه: "والله لايدخل النار منكم أحد"(وسائل الشيعة 15/248. وبحار الأنوار8/354)، إن هذه الأخبار وأمثالها لا يمكن قبولها إلاّ على قاعدة "ولكن بشرطها وشروطها" والعمل من شروطها، أو تحمل على نفي الخلود في النار وإن لم تقبل الحمل على هذا المحمل أو ذاك تعيّن رفضها لمنافاتها لصريح القرآن الكريم الذي أكد ـ كما تقدم ـ على أن النجاة لا تنال دون عمل، وقد قال تعالى في هذا الصدد: {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً}(النساء:123 ـ124)، وعن الإمام الباقر(ع):"... يا جابر والله ما يُتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد حجة، من كان مطيعاً لله فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع"(الكافي2/75).
منازل الجنة على قدر العمل:
قد اتضح ممّا تقدم أن الخلاص الأخروي لا يتحرك بطريقة اعتباطية أو مزاجية، وإنما يتحرك وفق قانون واضح يرتكز على ضرورة توافر المكلف على مبدأي الإيمان والعمل، وهذا القانون لا يحدد أصل المثوبة أو العقوبة فحسب وإنما يحدد درجاتهما أيضاً، فالمثوبة لا تزيد أو تتضاعف اعتباطاً ودونما سبب، وكذلك العقوبة لا تزيد أو تنقص إلاّ بسبب موجب لذلك، ولا شك أن العمل المقرون بالإيمان هو السبب أو المؤشر الأساسي ـ إن لم يكن الوحيد ـ لارتفاع أو انخفاض درجات الثواب والعقاب، فكلما تعمق إيمان المرء أكثر وبذل جهده في العمل الخالص لوجه الله، كلما عظم أجره وارتفعت منزلته عند الله سبحانه، وكلما اهتز إيمانه وضعف عمله كلما سقط من عين الله وانحطت منزلته عنده، فمنازل الجنة يبنيها العمل ويشيدها الإيمان، ودركات النار يُشعلها التمرد والعصيان.
ويشار إلى أن الذي يحدد العمل المقرب إلى الله أو المبعد عنه هو الله وحده، وإن كان هناك أعمال يدرك العقل حسنها أو قبحها، وقد حددت الشريعة الإسلامية الأعمال المقربة والأعمال المبعدة، ونصّت على ضوابط وشروط العمل المقرّب إلى الله، ومن أهمها شرط الإخلاص لله سبحانه.
المبالغة في الثواب والعقاب:
بالالتفات إلى الضابط المذكور الذي يتخذ العمل مؤشراً أساسياً حول ارتفاع أو انخفاض درجات الثواب والعقاب يمكننا أن نرسم علامة استفهام إزاء نوعين من الأخبار:
النوع الأول: هو الأخبار التي تبالغ في تقدير الثواب على أعمال مستحبة مهما علا شأنها فإنّ ثوابها لا يصل إلى الحد الذي قدّر لها، من قبيل افتراض أن زيارة قبر نبي أو إمام تعادل عند الله "أجر مائة ألف شهيد، ومائة ألف صدّيق، ومائة ألف حاج ومعتمر، ومائة ألف مجاهد"(الأمالي للشيخ الصدوق120)، وكذا ما ورد في حديث آخر بأن "من أذّن محتسباً يريد بذلك وجه الله عز وجل أعطاه ثواب أربعين ألف شهيد وأربعين ألف صدّيق ويدخل في شفاعته أربعون ألف مسيء من أمتي إلى الجنة"(من لا يحضره الفقيه:4/18)، إنه وعلى الرغم من إيماننا باستحباب الزيارة أو الآذان وعظيم ثوابهما عند الله سبحانه لا سيما في بعض الظروف الاستثنائية، ورغم إقرارنا بسعة رحمته تعالى وجزيل عطائه وامتنانه، ورغم اقتناعنا بأن مضاعفة الثواب هي محض تفضل من الله وهو واسع كريم ولا يُحدُّ كرمه وفضله، رغم ذلك كله فإننا نقول: بأن الثواب ـ كما ذكرنا ـ ليس اعتباطياً وإنما له معاييره وقوانينه، وأهمها قانون "أفضل الأعمال أحمزها"ـ أي أشقها وأصعبها ـ كما أن مقتضى حكمته وعدله أن يثيب كل إنسان على قدر نشاطه وجهده، فهل يعقل أن يكون ثواب شخص زائر لمرقد نبي أو إمام أعظم عند الله من ثواب مائة ألف شهيد، ومائة ألف حاج ومعتمر؟! أو أن يكون ثواب من أذّن مرة أو مرتين أعظم من ثواب أربعين ألف شهيد، وأربعين ألف صديق..؟! كيف وقد ورد في الروايات أن "فوق كل ذي برّ بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر"(الكافي2/348)، وورد أيضاً ـ في شأن الجهاد ـ بأن أفضل الأعمال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله"(الوسائل15/19)، فكيف تكون الزيارة أو الآذان أعظم أجراً وفضلاً من الجهاد والاستشهاد في سبيل الله بآلاف المرات؟!
ثم ألا يشكل هذا النمط من الروايات التي ترفع ثواب الأذان أو الزيارة إلى هذا الحد تزهيداً في الجهاد والحج والعمرة، بل وتشجيعاً على فعل المعاصي؟! فما دام أن للزيارة من الثواب ما يعادل أجر مائة ألف شهيد، ومائة ألف حاج ومعتمر، فَلِمَ الحج ولِمَ الزيارة.
النوع الثاني: هو الأخبار التي تبالغ في تقدير العقاب على أعمال لا تستوجب هذا القدر من العذاب، وهذا ما نتعرض إليه في مناسبة أخرى إنشاء الله تعالى.