العلاقات الاجتماعية مع الآخر: مبادئ وأسس
الشيخ حسين الخشن
إنّ من أهم ما يجدر بنا تناوله في هذه البحوث، تسليط الضوء على حقوق الآخر، وكيف ينظر الإسلام إلى العلاقة معه؟ وما هي ضوابطها وحدودها؟ ومعلومٌ أنّ طبيعة العلاقات مع الآخر الديني أو اللاديني هي ذات أهمية خاصة لما لها من تأثير ليس على المجتمع الإسلامي والفرد المسلم - في عقيدته وسلوكه وأخلاقه - ودوره الريادي في خلافة الله على الأرض فحسب، بل وعلى استقرار السلم العالمي برمته.
والسؤال البديهي الذي لا بدّ من طرحه في مستهل الكلام: هل يدعو الإسلام إلى القطيعة مع الآخر واجتنابه والتمايز عنه في مواطن السكن وأنماط العيش وسلوكيات الحياة ليعيش المسلمون في مجتمع منعزل عن الآخرين، أم أنّه يدعو إلى التعايش مع الآخر والانفتاح عليه ونسج خيوط العلاقة معه بما يحفظ للمسلم هويّته ويَحُول دون انجرافه مع الآخر فكراً وسلوكاً؟
ولكن هل بقي مجال للتعايش بين بني الإنسان في ظل منطق التكفير الذي يسود بين الجماعات الدينية المختلفة؟ ثم ألم تُستهلك كل هذه الكلمات، أعني كلمات التعايش والحوار والتقارب حتى غدت مستفزة في بعض الأحيان؟ ألم تصادر العصبيات المقيتة واقعنا، وتفسد أحلامنا وآمالنا في العيش في عالم أجمل وأفضل؟!!
-
الرؤية العامة حول العلاقة مع الآخر
ولسنا هنا في هذا التمهيد بصدد بيان تفاصيل العلاقة مع الآخر، فهذا ما سوف تتكفل به فصول ومحاور هذا الكتاب، بل يهمنا - بملاحظة الشواهد القرآنيّة والنبويّة والتاريخيّة الآتية - محاولة تكوين الرؤية العامة التي تحكم العلاقة المذكورة.
ولا ريب أنّ تكوين هذه الرؤية العامة ضرورية قبل أن يغرق الباحث أو الفقيه في دراسة تفاصيل المسائل، وإن كان فقهنا ـ مع الأسف ـ لم يدرج على ذلك، فقد أوغل الفقيه في دراسة تفاصيل المسائل المبحوث عنها قبل أن يعمل على اكتشاف النظرية العامة التي تشكّل الإطار العام المتكامل الذي ينتظم تحته كلّ التفاصيل، ومن هنا تأتي الفتاوى متناثرةً ومبعثرةً لا رابط بينها ويغلب عليها الاستثناءات والتخصيصات.
أجل، إنّ الفقيه وفي بناء تلك الرؤية العامة يحتاج إلى أن يأخذ بعين الاعتبار النصوص الواردة في تفاصيل المسائل المختلفة، بالإضافة إلى النصوص العامة، ولذا قد يكون من الملحِّ بل والضروري للفقيه أن يكون له إلمام عام بنصوص الشريعة بشتى أبوابها وفصولها، لأنّ الشريعة مجموعٌ مترابط ومتكامل، ولا يمكن تكوين الصورة الكاملة عنها بمجرد الإلمام بباب دون آخر، ولهذا، فإننا لا نؤمن بالاجتهاد التجزيئي غير المبني على مثل هذا الإلمام العام والمتكامل عن الشريعة ونصوصها.
بالعودة إلى السؤال المطروح أعلاه بشأن القطيعة أو التعايش مع الآخر نقول: إنّا قد وجدنا أكثر من إجابة بل أكثر من اتجاه في التعامل معه:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي التزم به في تاريخنا الماضي[1] وفي واقعنا المعاصر من ينظّر لفقه القطيعة عن الإنسان الآخر، وربما بالغ بعضهم في ضرورة عزله وإبعاده عن المسلمين وجعله في بلدان ومعازل سكنية خاصة، ويرى هؤلاء أنّ القطيعة مع الآخر تعود بالنفع على المسلم وتسهم في حفظ هويته الدينية، إنْ من حيث العمق والمضمون وما يؤمن به من الأفكار ويحمله من اعتقادات أو يقوم به من ممارسات، أو من حيث الشكل والظاهر وما يختص به من طريقة لبسه وتزيّنه أو نحو ذلك، والسؤال: هل هذا النمط من التفكير سليم من الناحية الشرعية وواقعي من الناحية العملية؟
والجواب الإجمالي: إننا لا نوافق على هذا الطرح، ونعتقد أنّ الدعوة إلى الابتعاد التام عن الآخر أو إبعاده عن دائرة المجتمع الإسلامي لا تملك حجّةً شرعيةً، والإسلام لا يوافق على "التطهير" الديني، كما لا يوافق على "التطهير" العرقي أو غيره.
الاتجاه الثاني: هو الاتجاه الذي دعا أصحابه إلى الانصهار أو الاندماج بالآخر والتماهي معه والالتحاق بتجربته وتبني فكره وأسلوبه في الحياة، وقد تعزز هذا الاتجاه مع بداية انهيار الدولة العثمانية وصولاً إلى مرحلة سقوطها التام ومن ثم قيام الدولة الحديثة التي وضع المستعمر الغربي بنيانها ورسم حدودها، وقد تبنى هذا الاتجاه مجموعة من النخب الثقافية والسياسية المتأثرة بالفكر الغربي والتي وصل بعضها إلى الحكم في العديد من البلدان الإسلامية كتركيا وإيران[2].
وهذا الاتجاه أيضاً مرفوض، لأنّه انطلق من عقدة نقصٍ وانهزام نفسي أمام الآخر وشعور بتفوّقه المادي والتقني، ومآله إلى اضمحلال الهوية وفقدان الثقة بالذات وضياع الشخصيّة الإسلامية، وقد وجدنا أنّ أتباع هذا الاتجاه لا يضيرهم التنازل عن الكرامة، ولا يشعرون بالمهانة لانتهاك مقدساتهم ناهيك عن تخليهم عن شريعتهم وتغاضيهم عن ممارسة المنكرات، وتجاوزهم لحدود الله تعالى.
الاتجاه الثالث: وفي مقابل إفراط أولئك وتفريط هؤلاء، برز اتجاه ثالث وسطي ومعتدل[3]، وهو اتجاه يعتقد أصحابه أنّ الإسلام لا يريد للمسلم أن يعيش حبيس بيته منعزلاً عن الآخرين، ولا يطلب منه أن يبني بينه وبينهم جُدراناً عالية، ماديةً كانت أو نفسية، وإنّما يدعو أتباعه إلى الانفتاح على الآخرين والتعايش معهم، ولكنّه يريده تعايشاً يحفظ فيه المسلم هويته من التلاشي ودينه من الضياع. إنّ المسلم المحصّن فكرياً ودينياً لا يسمح لعلاقته بالآخر أن تمتد إلى نوع من الذوبان بثقافة الآخر، ولن يُشكل الانفتاح خطراً على هويته الفردية والاجتماعية.
ومما يعزز هذا الاتجاه ملاحظة واقع التنوّع الديني في غالب بلدان العالم المعاصر، وهو تنوع كان ومن المرجح أن يبقى ويستمر، وبصرف النظر عن أنه ليس مطلوباً تغييره أو تبديله، فإنّ موازين القوى الفعلية ولأسباب مختلف لا تسمح بتغييره، ومعه تكون الدعوة إلى عزل الآخرين أو عزل المسلمين عنهم ومنع اختلاطهم بهم غير عملية ولا ذات جدوى، لأنّ مخاطر الاختلاط والتلاقي إن لم تَطَلْ المسلم في الشارع والمدرسة وأماكن العمل فإنّها ستطاله في بيته من خلال وسائل الاتصال الحديثة.
على أنّ هذا النمط من التفكير يستبطن في طيّاته قلة الثقة بالمسلمين أو بالمبادئ والقيم الإسلامية، بافتراض أنّها تهتز في نفس المسلم أمام أدنى احتكاك مع الآخرين.
وعليه، يكون الأجدى، بدل أن نحوط الفرد المسلم بجدران خارجية تحول دون تواصله مع الآخر، أن نعمل على تحصينه ثقافياً وروحياً من الداخل وتعزيز ثقته بدينه، ليستطيع مواجهة التحدّيات الفكرية والأخلاقية الضاغطة بكلِّ صلابة الإيمان وروحيّة التقوى.
وقصارى القول: إنّ الرؤية العامة التي يمكن استنتاجها من مجموع النصوص العامة والخاصة والتي سنشير عمّا قليل إلى بعضها وسنذكر معظمها في ثنايا هذا الكتاب، هي أنّ الذي يحكم علاقة المسلمين بغيرهم في الظروف الطبيعية هي علاقة التعايش والتعاون والتجاور والتزاور، لا علاقة التقاطع والتدابر والتناحر والتقاتل، أما الرؤية التي تدعو إلى القطيعة الاجتماعية مع الآخر، فليست مسلمة ولا صحيحة، وإنما هي رؤية اجتهادية لا نوافق عليها ونراها مجافية لنصوص الشريعة وللتجربة النبوية.
وإذا كانت العلاقات بين الجماعات الدينية أو القومية المختلفة لا تدار على أساس منطق الانصهار والاندماج[4] بالآخر، فهي وبكل تأكيد لا تدار على أساس منطق الاستعلاء والقهر والغلبة، بحيث تستعلي جماعة على أخرى أو تقهرها، وإنما لا بدّ أن تدار على أساس التعايش واحترام التنوع والتعدد، بما يضمن لكل جماعة دينيّة أو قوميّة الحفاظ على خصائصها الدينية والثقافية.
وإنّ من بديع ما نستنبطه من النصوص الإسلامية ومما جسدته التجربة الإسلامية المعصومة، أنّه في الوقت الذي نرى أنّها تدعو إلى تشكيل مجتمع إسلامي متضامن متعاون ومتآخ، فإنها قد فتحت الباب - في المجتمعات المتنوعة دينياً - أمام بناء مجتمع إنساني أوسع تحكمه المشتركات في الدين والأخلاق والقيم، ولا سيّما إذا كان الآخر من أهل الكتاب، فاختلاف الدين لا يبرر العداوة ونشر الكراهية ضد الآخر الديني، ولا يمنع من بناء المجتمع الواحد، ووحدة العقيدة ليست شرطاً للتعايش السلمي بين الناس في مجتمع واحد.
وإذا كان المجتمع الأول تجمعه الأخوة الدينية { إنّما المؤمنون أخوة } [الحجرات: 10]، فإنّ المجتمع الثاني، يرتكز على عناصر الأخوة الإنسانية، فإنّ الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، كما قال تعالى: { يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء: 1]، وإلى هذين المجتمعيْن أشار الإمام علي (ع) في عهده إلى مالك الأشتر، قال (ع) في تبرير دعوته إلى اللطف بالرعية وعدم التعدي عليهم: ".. فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"[5].
-
العلاقة مع الآخر: إقرار بالتنوع ودعوة إلى التعايش
وإذا كان بالإمكان بناء مجتمع تعددي يضمّ شرائح دينية مختلفة، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي أسس العلاقة مع الآخر وقواعدها في ضوء النظرية الإسلامية والقرآنية؟
والجواب: إنّ المتدبر والمتأمل في آيات القرآن الكريم يدرك أنه قد أرسى أُسُسَ هذه العلاقة على عدة مبادئ وقيم:
أولاً: الإقرار بالتنوع
إنّ الاختلاف بين الناس ليس جديداً ولا طارئاً، بل إنّ عمره من عمر الإنسان، وهو في حدّه الطبيعي لا يعدّ أمراً مذموماً في الرؤية القرآنية، وإنما هو آية من آيات الله تعالى، قال تعالى: { وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ }[الروم: 22]، وهو أيضاً تجسيد لمشيئة الله تعالى، قال جلّ وعلا: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}[هود: 118].
وإذا تحرّك التنوع وفق قانون التدافع والتنافس فهو ليس أمراً جائزاً وممدوحاً فحسب، بل هو شرط لديمومة الحياة الاجتماعية والإنسانية، وربما كان دافعاً للتنافس الحميد بما يسهم في إثراء واقع الحياة وتقديم الأفضل، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32]. وإنّ قانون التدافع يشكِّل القوة التي تحول دون انتشار الفساد في المجتمعات، قال تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة: 251]، والتدافع الجهادي بما يختزنه من مواجهة الظالمين والمعتدين، له دور في حفظ التنوع الديني وحماية أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
ونلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يقصر اعترافه بالتنوع على التنوع في الألسنة والألوان ( أي التنوع العرقي والقومي)، بل وهذا هو الأهم أنه اعترف وأقرّ بالتنوع الديني أيضاً، وميز أتباع الشرائع السماوية، وأسماهم تكريماً لهم بأهل الكتاب، وفي إشارة إلى هذا التنوع قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 62]، وهذه الآية المباركة إذ تؤكد حقيقة خارجيّة، وهي تعدد الشرائع السماوية، فإنّها توحي بأنّ هذه الشرائع هي طرق إلى الله تعالى وأصحابها ما داموا قد آمنوا بالله تعالى وعملوا صالحاً فهم مثابون عند الله تعالى، لكن شريطة[6] أنْ لا يكون قد اتضح لهم وجود دين لاحق وقامت عليهم الحجة بلزوم اتباعه، والذي يحسم الأمر في ذلك، وفيما إذا كانوا فعلاً من أهل الإيمان والعمل الخالص هو الله تعالى، ومن هنا جاءت آية أخرى لتؤكد أن الذي يفصل بين أتباع هذه الأديان هو الله تعالى في يوم الدين، قال تعالى في آية أخرى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17].
ثانياً: إدارة التنوع
والتنوع أو الاختلاف إنّما يكون نعمة إذا نجحنا في إدارته بطريقة سليمة، وإلا غدا نقمة على الإنسانية جمعاء، ونرصد في القرآن عدّة قواعد أساسية وجوهرية تشكل منهجاً بديعاً في كيفية إدارة التنوع الديني والقومي والعرقي وغيره، ونكتفي في المقام بذكر قاعدتين أساسيتين هما من قبيل المقدمة والنتيجة:
القاعدة الأولى: التعارف والتحاور: إنّ القرآن الكريم دعا الجماعات البشريّة المختلفة إلى التعارف، لا إلى التعارك والتنازع، والتعارف هو مبدأ قرآني أصيل وبديع، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات: 13]. وإذا أخذ الناس بهذا المبدأ فإنه بكل تأكيد سوف يؤسس لحالة من السلم الاجتماعي، لأنّ التعارف بطبيعته يبدد الكثير من الأوهام عن الآخر ويرفع الكثير من الجهل بما لديه وبما يفكر فيه، وهذا في نفسه شيء عظيم الثمرة، فإنّ من المعلوم أنّ أكبر عامل للتمزق والتناحر والتقاتل بين الناس هو جهل بعضهم بالبعض الآخر، وعدم سعيهم لإيجاد مساحات وقواعد مشتركة ينطلقون منها لإدارة الاختلاف.
وطبيعي أنّ الوسيلة البديهية للتعارف هي الحوار مع الآخر والجلوس معه على طاولة واحدة، ومن هنا جاء الحثّ القرآني على الأخذ بهذه الوسيلة في إدارة الاختلافات مع الآخر[7] الديني، مسيحياً كان أو يهودياً أو غيرهما، قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً} [آل عمران: 64]. وهذه الآية الكريمة بدعوتها إلى الكلمة السواء تمثل رائعة قرآنية فريدة في التأسيس لكيفية إدارة الاختلاف العقدي مع الآخر، حيث تقول لنا إنّ الاختلاف بيننا وبينه في قضايا العقيدة أو غيرها لا يدار بأسلوب السيف والعنف، ولا بالشتم والسب بل بالحوار، والحوار لا يكون إلا مع المختلف، فالآخر مختلفٌ معنا وعنا ولأنه كذلك فإننا نحاوره، حيث ننطلق وإياه من أرضية مشتركة نتكئ عليها في إدارة الحوار فيما نختلف فيه.
وفي مسألة الحوار لم يجعل القرآن الكريم قيوداً، فكلّ المفاهيم قابلة للحوار حتى لو كانت بنظرك من الحقائق والمسلمات، وكل الناس يحاوَرون ولو كانوا من أعتى الفراعنة، ومن جهة أخرى، فقد دعا إلى إدارة الحوار على قاعدة راقية ولعلها غير مسبوقة، وهي ما جاء في قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24]. والتي تعني أنّ على المتحاورين دخول الحوار دون أحكام مسبقة على نتيجة الحوار، وإنما يدخلانه بذهنية أن هناك حقيقة ضائعة وعليهما أن يتشاركا في رحلة اكتشافها من خلال الحوار. وفي أسلوب الحوار أكّد على مراعاة أسلوب الجدال بالتي هي أحسن، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت: 46]. وهذه المبادئ أو الوسائل تحتاج إلى بيان تفصيلي خارج عما نحن بصدده.
القاعدة الثانية: التعاون والتعايش: إنّ الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستقيم أو تستمر إلا على مبدأ التعايش والتعاون، وإنّ ما وصلت إليه الحياة البشرية من تطور وتقدم على الأصعدة كافة، مدين لهذا التعاون والتعايش.
ويمكن لنا أن تعتبر أن التعاون والتعايش هما ثمرتان من ثمار مسار التعارف والتحاور المشار إليه في القاعدة الأولى، وهذا توضيحٌ لهاتين الثمرتين:
الثمرة الأولى: التعاون، فإن الاختلاف مع الآخر لا يمنع من التعاون معه لما فيه خير الإنسان، ومن المعلوم أنّ المساحات المشتركة مع الآخر ولا سيما الآخر الديني، والتي يمكن الانطلاق منها في رسم خطط للتعاون على الصعيد الإنساني والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي كثيرة جداً.. قال تعالى: { وتعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى ولَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]
الثمرة الثانية: التعايش، وهذا يتطلب إيجاد صيغة خاصة تدير عملية التعايش، وقد لا يحتاج الباحث إلى كثير عناء ليكتشف وفرة النصوص والشواهد الدينية التي تدعو وتحثّ على صنع مناخ التعايش والتلاقي مع الآخرين، ولا سيّما من أتباع الشرائع السماوية، فالإسلام لم يلغِ أهل الكتاب، بل اعترف بهم وبحقوقهم المتنوّعة، وبالأخصّ الدينية منها، كحرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر والعبادات كما سيأتي في محله. وقد أقرّ النبي (ص) التعايش مع الآخر الكتابي في وثيقة المدينة، وكان مجتمع المدينة مجتمعاً متنوّعاً من الناحية الدينية، قبل أن يتسبب اليهود أنفسهم بالحرب التي أفضت إلى إخراجهم منها، وامتد التعايش في سائر البلاد الإسلامية التي عاش فيها اليهود والنصارى والزرادشتيون والصابئة واستمر وجودهم إلى يومنا هذا، فلم يعيشوا في أماكن معزولة بل عاشوا مع المسلمين، وخالطوهم، ونشأت بين الطرفين علاقات تجارية واجتماعية، ومن هنا كان المسلم يسأل أئمة أهل البيت (ع) عن حكمهم من حيث النجاسة والطهارة، أو حكم أكل لحومهم والاستفادة من جلود ذبائحهم، وعن حكم الزواج بهم. أجل، قد كان لغير المسلمين - في الأعم الأغلب - أحياؤهم أو حاراتهم الخاصة، لكن ذلك لم يكن مفروضاً عليهم، وإنما كان ذلك تمايزاً ذاتياً فرضته الظروف التاريخية والاجتماعية، فإنّ من المعلوم أنّ النظام الاجتماعي ولا سيما عند العرب كان يفرض توزع الناس على أحياء متعددة تعدد قبائلهم..
على أنّ التشريع الإسلامي قد أباح للمسلم أن يتزوَّج من الكتابية ـ على رأي مشهور ـ فكيف يدعوه إلى قطيعتها وقطيعة ذويها؟! وهل يطلب من الزوج أن يبني حاجزاً مادياً أو نفسياً بينه وبين زوجته؟ وإذا تولد للزوج من زوجته الكتابية أبناءٌ فسوف تحصل علاقة رحميّة بينهم وبين أخوالهم من غير المسلمين فهل يطلب منهم قطيعتهم؟! مع أنّ التعاليم الإسلامية دعت إلى صلة الأرحام، ودعت أيضاً إلى زيارة الآخر، ومشايعته في الطريق، وأباح استرضاع المرأة غير المسلمة، مع ما يعنيه ذلك من جعل المسلم رضيعه في عهدتها لتقوم بتغذيته، رغم حِرْص الإسلام وتشدُّده في أمر تربية الولد وتغذيته[8]، وجُوّز للمسلم دخول الكنائس وأداء الصلاة فيها ولم يمنعه من الاتجار مع الآخرين وقبض الثمن منهم حتى لو كان يعلم أنه عوض بعض المحرمات في الشريعة الإسلامية، ولم يمانع من مجاورة الآخرين وجعل لهم حقوق الجوار غير منقوصة، وشجع المسلم على مصاحبة ومشايعة شريك الطريق من غير المسلمين كاستحباب مشايعته لو كان من المسلمين، إلى غير ذلك من النماذج واضحة الدلالة على إقرار الإسلام بالتعايش مع الآخر، كما سيأتي تفصيله.
-
المبادئ العامة التي تحكم العلاقات مع الآخر
وهناك جملة من المبادئ والقواعد العامة التي تحكم العلاقة مع الآخر، ونحن هنا نشير إليها إشارة عابرة وسوف نبرهن عليها ونتناولها بالتفصيل في محلها:
المبدأ الأول: مبدأ العدالة، وهو مبدأ وأصل تشريعي، يدل على رفض الإسلام للظلم والتعدي والإيذاء من دون وجه حق، بصرف النظر عن هوية الطرف المعتدى عليه، وهذا مستفاد من النصوص القرآنية العامة الآمرة بالأخذ بالعدل كمنهج عام في الحياة، وفي التعامل مع جميع الناس، وهو مستفاد أيضاً من النصوص القرآنية الخاصة التي اعتبرت أنّ المبدأ الذي يحكم العلاقة مع كل الذين لا يتخذون موقف الحرب مع المسلمين هو قانون القسط والعدل وأخلاقية البرّ والإحسان، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} [الممتحنة: 8]. وهذه الآية شاملة لكل من ليس مسلماً أكان كتابياً أو غير كتابي وهي بحسب السياق واردة في المشركين، فإذا كنا مأمورين بالسير على أساس العدل والبر مع المشرك فبالأولى أن نؤمر بذلك مع الكتابي.
المبدأ الثاني: مبدأ الكرامة الإنسانية، وهو مبدأ قرآني أصيل، ومفاده أنّ الأصل في الإنسان أن يكون مكرماً ومحترم النفس والعرض والمال بصرف النظر عن معتقده ودينه وعرقه، قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } [الإسراء: 70]. إننا معنيون وفقاً لهذه الآية أن نبني علاقاتنا الإنسانية مع الآخر على أساس مبدأ التكريم الإلهي للإنسان.
المبدأ الثالث: إقرار الآخر الديني على دينه، وهذه قاعدة تعبر عن قبول الإسلام بالآخر والاعتراف بالتنوع الديني، وهي مما تسالم عليها الفقهاء، وسوف نتكلم عنها في محلّها من هذه البحوث، ولكننا نقول هنا: إنّ من ثمار إقرار غير المسلم على دينه، إعطاءه مساحة كافية من الحريّة لممارسة شعائر هذا الدين، ومنع إكراهه على اعتناق دين آخر ولو كان هو الإسلام. وعدم جواز إكراه الآخر الكتابي على ترك دينه واعتناق الإسلام والالتزام به عقيدة وشريعة، هو من الأمور الواضحة وجرت عليه سيرة النبي (ص) والمسلمين من بعده (ص) إلى يومنا هذا، ويدل على ذلك العديد من الآيات القرآنية، ويكفيك قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وهذه الآية المدنيّة تنصّ بشكل جليّ على مبدأ رفض الإكراه في الدين. وإنّ قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} إمّا هو جملة خبرية (تنفي تحقق الإكراه في الدين) أو هو جملة انشائية (تنهى عن الإكراه في الدين). فإنْ كانت خبريّة، فهي جملة حاكية عن طبيعة تكوينية وخصوصية جبليّة لدى الإنسان، تمنعه من قبول الأفكار والمعتقدات تحت ضغط الإكراه. وأمّا إن كانت جملة إنشائية تشريعية، فإنّها تنهى وتمنع عن إكراه الناس على اعتناق الدين، فتكون نظير قوله تعالى: {لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197][9]. ولا يخفى على من راجع أسباب النـزول أنها تربط الآية بما نقوله، فقد ورد في أسباب النـزول[10] عدة روايات متطابقة المضمون تتحدث عن قيام بعض المسلمين بإكراه بعض أولادهم المتهودين أو المتنصرين على اعتناق الإسلام. ولا تنافي بين الروايات الواردة في أسباب النزول على تعددها، إذْ لا مانع من حدوث حالات متعددة من الارتداد نزلت على إثرها الآية الكريمة.
المبدأ الرابع: أصالة السلم في العلاقة مع الآخرين، وإننا بناءً على ما سوف نبينه لاحقاً من أنّ الخلاف في الدين ليس مبرراً للحرب، وأنّ الكافر لا يقاتل لكفره، بل لحرابته، فهذا يعني أنّ الأصل في العلاقات الدولية وكذا في العلاقات بين المجموعات الدينية المختلفة هو مبدأ السلم، ولا يرفع اليد عن هذا الأصل إلا في الحالات العدوان على الشرح الآتي في المحور المخصص للبحث عن فقه العلاقات السياسية مع الآخر.
المبدأ الخامس: نظام المواطنة التعاهدي، وهي صيغة شرعيّة للتعايش بين الجماعات المختلفة دينياً، وهذه الصيغة قد أقرّها النبيّ (ص)، وذلك في كتابه الذي صدر عنه لتنظيم العلاقة بين المسلمين وبين اليهود في المدينة، وهو يشكِّل وثيقة دستورية وقانونيّة في بابها، وقد نصّت على أنّ اليهود والمؤمنين أمّة واحدة، في دلالة على إرساء العلاقة مع الآخرين من أهل الكتاب وفقاً لما نسميه في لغة العصر بنظام المواطنة، جاء في ذلك الكتاب: "وإن يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلاّ مَن ظلم فإنّه لا يُوتِغُ ـ يهلك ـ إلاّ نفسه وأهل بيته"[11]، وكان مقدّراً لهذا الصيغة أن تحكم العلاقة مع اليهود في المدينة المنورة على الدوام لولا غدْرهم ونقضهم للعهود والمواثيق.
وأما نظام الذمة الذي حكم العلاقة التاريخيّة مع الآخر الديني، فهو - مع ما اعتراه من شوائب في التطبيق - صيغة إسلامية هدفت إلى تنظيم شؤون غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، وباعتقادنا أنه ليس من دليل على أنّ هذا النظام - مع أنه مثّل صيغة تاريخية جيدة لإدارة العلاقات مع الآخر الديني - هو النظام الحصري في إدارة العلاقات مع غير المسلمين في شتى الظروف وفي كل المجتمعات، ليستنتج البعض أنّ من لم ينخرط في نظام الذمة فهو مهدور الدم والمال والعرض حتى مع افتراض كونه مسالماً، أو داخلاً في عقد أو عهد آخر ينظِّم علاقته بالمسلمين، كما هو الحال في أنظمة الدولة الحديثة، فإنّ الصفة التعاقدية فيها والتي تنظم علاقة المسلمين بغيرهم ليست هي صفة نظام الذمة لكنّها صيغة لا يبعد الحكم بمشروعيتها.
-
البعد الأخلاقي والرسالي في العلاقات الاجتماعية مع الآخر
وينبغي أن يعلم أنّ من أهمّ سمات النظام الاجتماعي في الإسلام هو حضور البعد الأخلاقي فيه، فالأخلاق هي حجر الزاوية في العلاقات الاجتماعية، وهذا أمر طبيعي، لأن استقرار الاجتماع البشري هو رهن أخذه بالقيم الأخلاقية، ومعلوم أنّ المنظومة الأخلاقية في الإسلام ترمي إلى تهذيب الإنسان بما يسهم في نظم علاقته بالآخرين، فالرفق والإحسان والكرم واللين والبشر وحسن الجوار وصلة الأرحام وغيرها من مكارم الأخلاق.. هي قيم تصبُّ في حسن استقرار الاجتماع البشري وشدّ أواصره، وفي المقابل فإنّ الغلظة والرعونة والبخل والحسد والنميمة والغيبة وقطيعة الأرحام.. هي سلوكيات أخلاقية قبيحة توجب تشتتاً وتفككاً في الاجتماع البشري.
وإذا كان الإسلام يولي البعد الأخلاقي في العلاقات الاجتماعية أهميّة خاصة، فإنّ هذه الأهمية قد تتضاعف فيما لو كان طرف العلاقة هو الآخر غير المسلم، لأنّ العلاقة معه لها بعد آخر، وهو البعد الرسالي، ومعلوم أنّ الإسلام ليس ديناً منغلقاً بل هو دين دعوة يرحب بالآخرين، ويدعو أصحابه إلى نشر دينهم وحمل قيمه إلى الناس جميعاً، وهذه الميزة يفترض أن تنعكس - بطبيعة الحال - على سلوك المسلم وطريقة تعامله مع الآخرين، إذ لا يمكنه أن يدعو إلى دينه وهو يحمل مشاعر الكراهية تجاه الآخر، بل لا بدّ له أن يزور الآخر ويجالسه ويحادثه ويظهر له مدى محبته له وحرصه على هدايته، وهذا من مقتضى الحكمة والموعظة الحسنة التي أمر بها الداعية، كما قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125]، وهذا ما كان عليه حال النبي (ص) في دعوته إلى الإسلام، لقد كان حبّه (ص) للناس ورأفته ورحمته بهم وحرصه عليهم هو السبب الأكبر الذي فتح قلوبهم على الهدى، فدخلوا في دين الله أفواجاً، قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128].
إنّ حسن العلاقة مع الآخر المسالم بالإضافة إلى أنه - في نفسه - من مكارم الأخلاق هو عمل ذو وظيفة دعوية رسالية، وسوف ينعكس ذلك على نظرته للإسلام، ويقدم صورة طيبة عن الدين الإسلامي، وهذا بخلاف ما سيكون عليه الحال في صورة ما لو كانت العلاقة معه سيئة ويحكمها الاستعلاء والغلظة. ومن هنا وجدنا أنّ الأنبياء (ع) اعتمدوا أساليب محبَّبة غير منفِّرة، عنوانها الحكمة وشعارها الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة. وأسلوب اللين في الدعوة إلى الله هو مبدأ أساسي لا مجال لتخطيه على الإطلاق، بل ينبغي اعتماده حتى مع العتاة والطغاة، فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه 43، 44].
ومن يراجع النصوص الواردة عن الأئمة (ع) يجدها تدعو إلى العِشرة بالمعروف والمخالطة بالحسنى مع الناس جميعاً، أياً كانت هويتهم الدينية، ومن هذه النصوص:
ما روي عن أمير المؤمنين (ع): "خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ"[12].
وفي الخبر عَنْ مُرَازِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وحُسْنِ الْجِوَارِ لِلنَّاسِ وإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وحُضُورِ الْجَنَائِزِ. إِنَّه لَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ أَحَداً لَا يَسْتَغْنِي عَنِ النَّاسِ حَيَاتَه والنَّاسُ لَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ"[13].
وفي صحيحة صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا وفِيمَا بَيْنَنَا وبَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ؟ قَالَ: فَقَالَ: تُؤَدُّونَ الأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ وتُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وعَلَيْهِمْ وتَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ وتَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ"[14].
وفي صحيحة أخرى لمُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قُلْتُ لَه" كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا وبَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا؟ قَالَ: تَنْظُرُونَ إِلَى أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تَقْتَدُونَ بِهِمْ فَتَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فَوَاللَّه إِنَّهُمْ لَيَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ ويَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ ويُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وعَلَيْهِمْ ويُؤَدُّونَ الأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ"[15].
وفي معتبرة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "وَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى حُسْنِ الصِّحَابَةِ لِمَنْ صَحِبْتَ فِي حُسْنِ خُلُقِكَ، وكُفَّ لِسَانَكَ واكْظِمْ غَيْظَكَ وأَقِلَّ لَغْوَكَ وتَفْرُشُ عَفْوَكَ وتَسْخُو نَفْسُكَ"[16].
وفي خبرَ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه ع والْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِه فِيه الْخُرَاسَانِيُّ والشَّامِيُّ ومِنْ أَهْلِ الآفَاقِ فَلَمْ أَجِدْ مَوْضِعاً أَقْعُدُ فِيه فَجَلَسَ أَبُو عَبْدِ اللَّه ع وكَانَ مُتَّكِئاً ثُمَّ قَالَ يَا شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ اعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَه عِنْدَ غَضَبِه ومَنْ لَمْ يُحْسِنْ صُحْبَةَ مَنْ صَحِبَه ومُخَالَقَةَ مَنْ خَالَقَه ومُرَافَقَةَ مَنْ رَافَقَه ومُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَه ومُمَالَحَةَ مَنْ مَالَحَه.."[17].
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّنا نرى ضرورة أخذ القضايا الأخلاقية بعين الاعتبار في عمليّة الاستنباط الفقهي، وسيأتي في ثنايا بعض هذه البحوث أنّ بعض الفتاوى الداعية إلى القطيعة مع الآخر والتعامل معه على أساس النفور والغلظة أو الإهانة ولو لم يكن محارباً لا تلائم الأخلاقية الإسلامية ولا سيما في جانبها الدعوتي، ولا تنسجم مع ما تقدّم من ضرورة التعامل مع الآخر بالحسنى والبِشْر والمداراة.
من كتاب: فقه العلاقات الاجتماعية والمُدنية مع غير المسلم.
[1] لاحظ نصائح الإمام الخريشي لولاة أمور المسلمين، ص 135.
[2] من أمثال أتاتورك في تركيا ورضا بهلوي في إيران، والأول عمل على تتريك تركيا وسعى إلى قطعها عن تاريخها الإسلامي، ومحو ذاكرتها والتلاعب بلغة شعبها من خلال تحويل الحرف التركي العربي إلى حرف لاتيني، وسعى الثاني أيضاً للقيام بخطوات مشابهة، فنجح في بعضها وفشل في بعضها الآخر.
[3] تبناه رجال الإصلاح كالسيد جمال الدين الأفغاني، والشيح محمد عبده وغيرهما.
[4] الفرق بين الاندماج والانصهار أنّ الانصهار يعني ذوبان أحد الطرفين لصالح الآخر، وأما الاندماج فهو صيرورة الجماعتين خليطاً واحداً،
[5] نهج البلاغة، ج 3، ص 84.
[6] وهذا الشرط مستفاد مما دلّ من القرآن الكريم على لزوم اتباع نبينا محمد (ص)، وقد أوضحنا ذلك في كتاب هل الجنة للمسلمين وحدهم؟ فليراجع.
[7] راجع لمزيد من التعرف على الحوار في الرؤية القرآنية ملاحق الكتاب ، ملحق رقم
[8] في الخبر عن أبي عبد الله (ع): "هل يصلح للرجل أن ترضع له اليهودية والنصرانية والمشركة؟ قال: لا بأس، وقال: امنعوهم (يقصد المرضعات) من شرب الخمر" الكافي، ج 6، ص 44، وتهذيب الأحكام، ج 8، ص 109.
[9] وقد تكلمنا عن هذه الآية مفصلاً في كتاب الفقه الجنائي في الإسلام، ص
[10] ما ذكر في أسباب النزول هو ما يلي:
-
قيل: إنّ الآية نزلت في ولديْ رجل من الأنصار، يكنى بـ "أبي الحصين" - وهو أحد الصحابة - ارتدا عن الإسلام إلى المسيحية على يد بعض التجار الشاميين. وإثر ذلك طلب "أبو الحصين" من رسول الله (ص) إجبار ولديه على الإسلام، فنـزلت الآية. فقال رسول الله (ص): "أَبْعَدَهُما اللهُ هما أولُ من كفر" تفسير الثقلين ج2 ص234، ومجمع البيان ج2 ص162.
-
و"قيل: نزلت في رجل من الأنصار، كان له غلام أسود يقال له: صبيح، وكان يُكرِهه على الإسلام" مجمع البيان ج2 ص161.
-
وعن ابن عباس قال: "كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن عاش ولد لتهودنه، فلمّا أُجليت "بنو النضير" إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا! فأنزل الله: {لا إكراه في الدين}" معاني القرآن للنحاس، ج 1، ص 268، وأسباب النزول للواحدي ص 52.
-
وعن مجاهد قال: "كان ناس مسترضعين في اليهود (قريظة والنضير)، فلمّا أمر النبي (ص) بإجلاء بني النضير، فقال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم؛ فمنعهم أهلوهم، وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت هذه الآية: {لا إكراه في الدين}" أسباب النزول للواحدي ص53، والدر المنثور للسيوطي، ج1 ص329.
[11] البداية والنهاية ج3 ص275.
[12] نهج البلاغة، ج 4، ص 4.
[13] الكافي، ج 2، ص 635، والخبر ضعيف بعلي بن حديد.
[17] الكافي، ج 2، ص 637، وراه الصدوق في من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 274، والبرقي في المحاسن، ج 2، ص 357.