حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
لقراءة جديدة في فتاوى القطيعة
الشيخ حسين الخشن



إن ما تقدم  من بيان إجمالي للمبادئ العامة التي تحكم العلاقة مع الآخر يدفعنا للقول بضرورة إجراء قراءة نقديّة لفتاوى القطيعة المنتشرة في الكتب الفقهية، والتي تؤسس للاستهانة به ونفي احترامه!

  1. نماذج من فتاوى الاستهانة بالآخر

وما يعنينا هنا هو إعادة قراءة الفتاوى التي تتصل بفقه العلاقات الاجتماعية مع الآخر - أما ما يتصل منها بفقه العلاقات السياسية مع الآخر فسوف نتناوله في الباب المخصص لذلك - وهي فتاوى كثيرة ومنتشرة في كتب الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وذلك من قبيل الفتاوى التي تجوّز سبّهم ولعنهم وغيبتهم، وتدعو إلى التضييق عليهم في الطرقات وتنهى عن تصديرهم في المجالس إلى غير ذلك من الفتاوى التي يجمعها عنوان الانتقاص من كرامة الآخر، وأنه ليس هناك مانع شرعي من إهانته وعدم احترامه والتضييق عليه وإذلاله، على قاعدة مدعاة مفادها: "المسلم يكرم والكافر يهان"، ويمتد الأمر إلى الهيئة الخاصة التي لا بدّ أن يكون عليها الآخر عند دفع الجزية، وكذلك ضرورة تمييزه بثياب خاصة يرتديها خارج منزله، ووضع علامة خاصة على بيته، وهذه الفتاوى ونظائرها لم تبق أفكاراً نظرية ومبثوثة في بطون الكتب، وإنما تمّ تطبيقها عملياً في التاريخ الإسلامي. وهذا الإذلال قد أسهم في دفع غير المسلمين إلى حمل العداء في نفوسهم اتجاه الإسلام والمسلمين، وربما دفع بعضهم للتآمر على المسلمين والارتماء في حضن العدو الخارجي.

ولا يبعد عن ذلك الفتوى التي تحكم بنجاسة غير المسلمين[1]، مع ما تعنيه النجاسة من اجتناب كلّ ما لامسه برطوبة مسرية خشية تنجس بدن المسلم أو ثيابه أو مأكله ومشربه، ومع ما تخلقه في نفس المسلم من حاجز نفسي تجاه الآخر مشفوع بنظرة ازدرائية تتقزّز منه وتتعامل معه كما تتعامل مع الكلب أو الخنزير، ولاسيما عندما يقرأ المسلم العادي أو تتلى على مسامعه عبارة: "الكافر وأخواه الكلب والخنزير"[2] الواردة في بعض الكتب الفقهية!   

  1. فتاوى الاستهانة بالآخر: دوافع ومنطلقات

وعلينا هنا أن نشير إلى أنّ تلك الفتاوى المتشددة إزاء الآخر والتي سنضعها على طاولة البحث العلمي النقدي، قد يكون لها ظروفها التاريخية وأسبابها المختلفة، والتي أسهمت في تكوين ذهنيّة فقهيّة معينة اقتنعت بهذه الفتاوى ودافعت عنها، وفيما يلي نحاول أن نشير إلى أبرز العوامل التي كان لها تأثير في تكوين هذه الذهنية وإنتاج هذا الفقه العدائي تجاه الآخر حتى لو كان الآخر مسالماً وليس محارباً:

أولاً: إنّ العلاقات الاجتماعية مع الآخر كانت على الدوام تتأثر بشكل كبير وبالغ بالظروف السياسية المحيطة بالدولة الإسلامية، وطبيعة علاقاتها مع الدول الأخرى، وهي علاقة اتسمت بطابع عدائي في معظم الأحيان ونشبت على ضوئها حروبٌ دامية وصراعات سياسية، وكل ذلك حمل غطاءً دينياً وجرى باسم شرع الله تعالى، كما هو الحال في الحروب التي شنها الأوروبيون (الفرنجة) تحت راية الصليب على بلاد المسلمين بهدف الوصول إلى الأراضي المقدسة، وهي حروب قد حفرت جروحاً عميقة في الذاكرة الإسلامية وعمّقت الفجوات الاجتماعية بين المسلمين وجيرانهم من غير المسلمين وتركت آثاراً سلبية على الاستقرار الاجتماعي، ولا سيما بملاحظة أنّ الصليبيين سعوا سعياً حثيثاً لاستمالة الطوائف غير الإسلامية في البلاد الإسلامية التي احتلوها، مستغلين - مضافاً إلى عنصر اشتراكهم معهم في الدين - ما تعرض له هؤلاء من مظالم ونالهم من أذى، الأمر الذي جعل العلاقة بينهم وبين جيرانهم المسلمين مشوبة بالكثير من التوتر والانفعال والتخوين والاتهام، وترك بصمات وجراحات بليغة في اللاوعي الإسلامي وأسهم في بناء جدار الانغلاق على الذات وتكوين نظرة إسلامية سوداوية حكمت العلاقة مع الآخر، وكان من الطبيعي أن ينتج عن هذه الأجواء السلبية التي أرخت بظلالها على العلاقة مع الآخرين ظهور تيارات ذات نزعة تصادمية مع الآخر، خاصّة أنّ سيل الظلامات التي تعرّض لها الإسلام والمسلمون من الآخر لم ينقطع إلى يومنا هذا. وهو ما انعكس على النظرة الفقهية نفسها، فجعلها نظرة متشددة إزاء الآخر، ونظّرت لشرعية إذلاله واحتقاره ولم تر بأساً في سلبه الكثير من الحقوق الإنسانية.

 وقد كانت مقتضيات السياسة و"ضروراتها" ومصالحها تدفع في كثير من الأحيان باتجاه شيطنة الآخرين وتبرير عداوتهم والإفتاء بوجوب حربهم وقتالهم، وهو ما يحقق للحاكم الكثير من المكاسب، ومنها الظهور بمظهر حامي حمى الديار والمدافع عن بيضة الإسلام، ومن هذه المكاسب أن الحرب توفر مصدر مالياً كبيراً للسلطة، من خلال الغنائم المختلفة وكذلك من خلال الجزية التي يدفعها أهل الكتاب إلى السلطة الإسلامية، وأذكر أنّي قرأت في بعض المصادر[3] أنّ بعض الولاة كان يحول دون دخول بعض أهل الكتاب في الإسلام حرصاً على عدم انقطاع الجزية التي تؤمن له مصالحه!

ثانياً: إنّ غياب النظرة المقاصديّة للدين والاستغراق في التعامل التجزيئي مع النصوص الدينية، وبتر الكثير منها من سياقاتها التاريخية لهو أمر يعبر دون شك عن جمود فقهي بيّن، وقد سمح بتحكم الرؤية الفقهية المتشددة إزاء الآخر الديني في عقول الفقهاء، وتجذرها. ومن مظاهر الجمود المشار إليه عدم التمييز بين النصوص التاريخية والنصوص المطلقة والعابرة للزمان والمكان، وهو ما لعب دوراً كبيراً في تأبيد نمط خاص من العلاقة مع الآخر، ولا سيما إذا كان هذا النمط قد وضع أُسسه بعض كبار الصحابة، كما هو الحال في الوثيقة أو الاتفاقية التي وضعها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مع نصارى الشام، فإنّها وعلى أهميتها التاريخية لا تمثل أصلاً حاكماً في العلاقة مع الآخر، ولكن العقل الفقهي تعامل معها بوصفها أصلاً في صياغة العلاقة مع الآخر، وتحولت بنودها إلى أدلة شرعية للكثير من الفتاوى المتصلة بالآخر، مع أنّ الوثيقة - رغم أهميتها التاريخية - ليست صالحة للتعميم ولم يرد واضعها أن تكون كذلك.

  إنّ فترة طويلة من الركود التي أصابت الفقه الإسلامي جعلته فقهاً جامداً لا يشهد حيوية اجتهادية ولا تطوراً في فقه العلاقة مع الآخر، وهذا ما أشعر بعض النخب في مجتمعاتنا (وبعضهم ممن وصلوا إلى سدة الحكم في بلاد المسلمين)، أنه فقه غير قابل للحياة وليس صالحاً لتدار سياسات الدول وقوانينها على ضوئه، ولا أن يتمَّ نظم شؤون الاجتماع والاقتصاد على أساسه، وترافق ذلك مع نشوء وصعود منظمات حقوقية ذات سطوة وهيمنة سادت في العالم منادية بحقوق الإنسان والمساواة بين الناس على اختلاف أديانهم.. الأمر الذي دفع بعض حكام المسلمين إلى اعتماد القوانين الوضعية في إدارة الدولة عوضاً عن الفقه الإسلامي، وربما أفرط بعضهم في تأثرِّه بالثقافة الغربية إلى حدِّ التماهي معها، معتبراً أن الإسلام هو سبب تخلفنا، فعمل على التخلص من كل ما يرمز إلى الإسلام، كما فعل أتاتورك في تركيا حيث حارب الكثير من الشعائر والمظاهر الإسلامية.

ثالثاً: الجهل والعصبية. ومن العوامل التي أعطت - بنسبة معينة - مقبولية وانتشاراً للفتاوى التي تستهين بالآخر وتنزع الحرمة عنه: الجهل بالآخر المختلف، والجهل كما عرفنا سابقاً يسمح بتشكل وبروز أفكار غير دقيقة عن الآخر وحمل تصورات سوداوية عنه[4] بما يجعله دائماً في موقع العدو الذي يكيد ويخطط ضد المجتمع المسلم، ويسعى في خرابه وإفساده، وإذا انضمت العصبية المذهبية أو الطائفية إلى الجهل زادته خطورة وحولته إلى جهل مقدس يرى صاحبه أن احتقار الآخر هو ممارسة دينية وعبادية ويتقرب إلى الله تعالى بها.

  1. ملاحظات عامة على فتاوى الاستهانة بالآخر

وما نريد أن نثيره في المقام بشكل إجمالي أن الفتاوى المذكورة مع احترامنا للقائلين بها، ليست من المسلّمات الفقهية والضرورات التشريعية غير الخاضعة للنقاش، ولا تمثل الحقيقة المطلقة والصورة المثلى التي يريدها الإسلام للعلاقة مع الآخر، وإنّما هي اجتهادات توصل إليها هؤلاء الفقهاء نتيجة فهم معين للنصّ الديني، ومتأثرين بالعوامل المتقدمة التي انبثقت هذه الفتاوى في ظلالها. لذا يكون من حقّنا الدعوة إلى قراءتها من جديد، ولكنّنا ندعو إلى قراءتها مجدّداً في السياق الذي يراعي الملاحظات المنهجية الآتية، وهي ملاحظات نرى ضرورة اعتمادها في دراسة هذه الفتاوى وأمثالها، تاركين الدخول في التفاصيل للبحوث الفقهية الآتية.

أولاً: إنّ دراسة هذه الفتاوى لا بدّ أن تتمّ في إطار الرؤية الإسلامية العامة التي تحدّد طبيعة العلاقة مع الآخر، ومن غير السليم دَرْسها بشكلٍ متناثر وبعيدٍ عن تلك الرؤية التي أسلفنا الحديث عنها. ومن اللازم أيضاً استنباط حكم العلاقة بالآخرين من مجمل النصوص والشواهد التي تسلّط الضوء على الموضوع، بما في ذلك الشواهد التاريخية من سيرة النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وعدم الاكتفاء بالنصوص الخاصة الواردة في المسألة كما يحصل أحياناً، وعلى سبيل المثال: عندما نلاحظ المعالجة الفقهية لحكم دخول غير المسلمين إلى المساجد، نجد تركيزاً على النصوص العامة أو الخاصة التي يستفاد منها المسألة مع إغفال شبه تام للشواهد التاريخية الكثيرة التي تتحدّث عن دخول المشركين أو أهل الكتاب إلى المسجد النبويّ وغيره، وعلى مرأى ومسمع من رسول الله (ص)، كما حصل في قصة نصارى نجران وغيرها، ما سيأتي الحديث عنه في محله.

ثانياً: ولا بدّ أيضاً من ملاحظة الوجوه أو الأبعاد المتعدّدة للنص الديني، فإنّ هذا النص ليس دائماً في وارد إعطاء حكم تشريعي إلهي يكتسب صفة الدوام والاستمرارية، بل إنّه أحياناً كثيرة يعالج مشاكل ظرفية ويقدّم لها حلولاً وتدابير مؤقتة، وقد طرح بعض الفقهاء هذا الوجه في النصوص التي استدلّ بها على نجاسة الكافر، حيث رأى أنّ النجاسة التي تدلّ عليها هذه النصوص "ليست من نسخ ساير النجاسات الناشئة عن قذارة الشيء، بل هي في الحقيقة تحريم سياسي من قبل شارع الإسلام ليتنفّر منه المسلمون.."[5]، ومع قطع النظر عن صحة استنتاجه في هذه المسألة بالخصوص وعن تتمة كلامه الذي لا يخلو من بعض الملاحظات، لكن المبدأ الذي ينطلق منه سليم.

وفي هذا السياق فإننا نلاحظ أنّ التشدد الذي تعامل بها بعض الخلفاء مع الآخر، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطاب، كما يشي بذلك عهده إلى نصارى الشام، قد تحولّ إلى سنة تحتذى من بعده، وقد لحظنا التشدد عينه فيما صدر عن الخليفة الأموي عمر بن العزيز[6]، وأصبح ما صدر عن الأول منهما مصدراً للفتوى الدينية ولا سيما عند القائلين بحجية قول الصحابي، مع أنّ ما صدر عنه في هذا الشأن هو تدبير استصلحه وارتآه وله ظروفه التاريخية.

ثالثاً: إنّ فتاوى القطيعة المشار إليها لم تستهد - فيما نرى - الكليّات المقاصدية، والأهم أنه لم يراع في عملية استنباطها التمييز الضروري بين صنفين من الأدلة: الصنف الأول: الأدلة التي تحدد طبيعة العلاقات مع الآخر في حالة الحرب. والصنف الثاني: هو الأدلة الواردة في بيان طبيعة العلاقات معه في حالات السلم، ونتيجة لهذا الخلط، تمّ تعميم أحكام الحرب والعداء مع الآخر إلى حالات السلم الاجتماعي. وهذه ملاحظة هامة جداً ومراعاتها سوف تساعد على حلِّ الكثير من المشكلات العمليّة والعلميّة، وعلى رأس هذه المشكلات: توهم حصول التعارض بين النصوص الدينية، وتطبيق الفقيه لقوانين باب التعارض، مع أنه بالالتفات إلى اختلاف الموضوع يندفع توهم التعارض.

من كتاب: فقه العلاقات الاجتماعية والمُدنية مع غير المسلم.

 


[1] هذه الفتوى مشهورة عند فقهاء الإمامية، بل ادعى عليها بالإجماع، انظر: روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، للشهيد الثاني ج1 ص438، ومسالك الأفهام ج12 ص65.

 

[2] الحدائق الناضرة، ج 5، ص 328، ورسائل فقهية لصاحب الجواهر، ص 27، وشرح نجاة العباد، 1، ص 146، إلى غيرها من الكتب الفقهية.

[3] رد على أهل الكتاب، ص

[4] أتذكر أنه وبعد عودتنا من التهجير القسري عقيب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في عام 1982م وعند وصولنا إلى الحاجز أننا كنا متلهفين على خوف واندهاش إلى النظر المباشر إلى اليهود الاسرائليين، لمعرفة هذا الكائنات البشرية وعند وصل السيارة إلى الحاجز كانت عيوننا جاحظة إليهم تتأمل فيهم لمعرفة أشكالهم، هذا مع أننا كنا بطبيعة الحال قد رأينا صورهم عبر وسائل الإعلام قبل ذلك، ولعلّ وحشية الاحتلال وقسوته ضخمت من بشاعة صورهم الشخصية في نفوسنا.

[5] التعليقة على العروة الوثقى للمنتظري ج1 ص51.

 

[6] انظر: رد على أهل الذمة، ص 39.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon