لقراءة جديدة في فتاوى القطيعة
الشيخ حسين الخشن
إن ما تقدم من بيان إجمالي للمبادئ العامة التي تحكم العلاقة مع الآخر يدفعنا للقول بضرورة إجراء قراءة نقديّة لفتاوى القطيعة المنتشرة في الكتب الفقهية، والتي تؤسس للاستهانة به ونفي احترامه!
-
نماذج من فتاوى الاستهانة بالآخر
وما يعنينا هنا هو إعادة قراءة الفتاوى التي تتصل بفقه العلاقات الاجتماعية مع الآخر - أما ما يتصل منها بفقه العلاقات السياسية مع الآخر فسوف نتناوله في الباب المخصص لذلك - وهي فتاوى كثيرة ومنتشرة في كتب الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وذلك من قبيل الفتاوى التي تجوّز سبّهم ولعنهم وغيبتهم، وتدعو إلى التضييق عليهم في الطرقات وتنهى عن تصديرهم في المجالس إلى غير ذلك من الفتاوى التي يجمعها عنوان الانتقاص من كرامة الآخر، وأنه ليس هناك مانع شرعي من إهانته وعدم احترامه والتضييق عليه وإذلاله، على قاعدة مدعاة مفادها: "المسلم يكرم والكافر يهان"، ويمتد الأمر إلى الهيئة الخاصة التي لا بدّ أن يكون عليها الآخر عند دفع الجزية، وكذلك ضرورة تمييزه بثياب خاصة يرتديها خارج منزله، ووضع علامة خاصة على بيته، وهذه الفتاوى ونظائرها لم تبق أفكاراً نظرية ومبثوثة في بطون الكتب، وإنما تمّ تطبيقها عملياً في التاريخ الإسلامي. وهذا الإذلال قد أسهم في دفع غير المسلمين إلى حمل العداء في نفوسهم اتجاه الإسلام والمسلمين، وربما دفع بعضهم للتآمر على المسلمين والارتماء في حضن العدو الخارجي.
ولا يبعد عن ذلك الفتوى التي تحكم بنجاسة غير المسلمين[1]، مع ما تعنيه النجاسة من اجتناب كلّ ما لامسه برطوبة مسرية خشية تنجس بدن المسلم أو ثيابه أو مأكله ومشربه، ومع ما تخلقه في نفس المسلم من حاجز نفسي تجاه الآخر مشفوع بنظرة ازدرائية تتقزّز منه وتتعامل معه كما تتعامل مع الكلب أو الخنزير، ولاسيما عندما يقرأ المسلم العادي أو تتلى على مسامعه عبارة: "الكافر وأخواه الكلب والخنزير"[2] الواردة في بعض الكتب الفقهية!
-
فتاوى الاستهانة بالآخر: دوافع ومنطلقات
وعلينا هنا أن نشير إلى أنّ تلك الفتاوى المتشددة إزاء الآخر والتي سنضعها على طاولة البحث العلمي النقدي، قد يكون لها ظروفها التاريخية وأسبابها المختلفة، والتي أسهمت في تكوين ذهنيّة فقهيّة معينة اقتنعت بهذه الفتاوى ودافعت عنها، وفيما يلي نحاول أن نشير إلى أبرز العوامل التي كان لها تأثير في تكوين هذه الذهنية وإنتاج هذا الفقه العدائي تجاه الآخر حتى لو كان الآخر مسالماً وليس محارباً:
أولاً: إنّ العلاقات الاجتماعية مع الآخر كانت على الدوام تتأثر بشكل كبير وبالغ بالظروف السياسية المحيطة بالدولة الإسلامية، وطبيعة علاقاتها مع الدول الأخرى، وهي علاقة اتسمت بطابع عدائي في معظم الأحيان ونشبت على ضوئها حروبٌ دامية وصراعات سياسية، وكل ذلك حمل غطاءً دينياً وجرى باسم شرع الله تعالى، كما هو الحال في الحروب التي شنها الأوروبيون (الفرنجة) تحت راية الصليب على بلاد المسلمين بهدف الوصول إلى الأراضي المقدسة، وهي حروب قد حفرت جروحاً عميقة في الذاكرة الإسلامية وعمّقت الفجوات الاجتماعية بين المسلمين وجيرانهم من غير المسلمين وتركت آثاراً سلبية على الاستقرار الاجتماعي، ولا سيما بملاحظة أنّ الصليبيين سعوا سعياً حثيثاً لاستمالة الطوائف غير الإسلامية في البلاد الإسلامية التي احتلوها، مستغلين - مضافاً إلى عنصر اشتراكهم معهم في الدين - ما تعرض له هؤلاء من مظالم ونالهم من أذى، الأمر الذي جعل العلاقة بينهم وبين جيرانهم المسلمين مشوبة بالكثير من التوتر والانفعال والتخوين والاتهام، وترك بصمات وجراحات بليغة في اللاوعي الإسلامي وأسهم في بناء جدار الانغلاق على الذات وتكوين نظرة إسلامية سوداوية حكمت العلاقة مع الآخر، وكان من الطبيعي أن ينتج عن هذه الأجواء السلبية التي أرخت بظلالها على العلاقة مع الآخرين ظهور تيارات ذات نزعة تصادمية مع الآخر، خاصّة أنّ سيل الظلامات التي تعرّض لها الإسلام والمسلمون من الآخر لم ينقطع إلى يومنا هذا. وهو ما انعكس على النظرة الفقهية نفسها، فجعلها نظرة متشددة إزاء الآخر، ونظّرت لشرعية إذلاله واحتقاره ولم تر بأساً في سلبه الكثير من الحقوق الإنسانية.
وقد كانت مقتضيات السياسة و"ضروراتها" ومصالحها تدفع في كثير من الأحيان باتجاه شيطنة الآخرين وتبرير عداوتهم والإفتاء بوجوب حربهم وقتالهم، وهو ما يحقق للحاكم الكثير من المكاسب، ومنها الظهور بمظهر حامي حمى الديار والمدافع عن بيضة الإسلام، ومن هذه المكاسب أن الحرب توفر مصدر مالياً كبيراً للسلطة، من خلال الغنائم المختلفة وكذلك من خلال الجزية التي يدفعها أهل الكتاب إلى السلطة الإسلامية، وأذكر أنّي قرأت في بعض المصادر[3] أنّ بعض الولاة كان يحول دون دخول بعض أهل الكتاب في الإسلام حرصاً على عدم انقطاع الجزية التي تؤمن له مصالحه!
ثانياً: إنّ غياب النظرة المقاصديّة للدين والاستغراق في التعامل التجزيئي مع النصوص الدينية، وبتر الكثير منها من سياقاتها التاريخية لهو أمر يعبر دون شك عن جمود فقهي بيّن، وقد سمح بتحكم الرؤية الفقهية المتشددة إزاء الآخر الديني في عقول الفقهاء، وتجذرها. ومن مظاهر الجمود المشار إليه عدم التمييز بين النصوص التاريخية والنصوص المطلقة والعابرة للزمان والمكان، وهو ما لعب دوراً كبيراً في تأبيد نمط خاص من العلاقة مع الآخر، ولا سيما إذا كان هذا النمط قد وضع أُسسه بعض كبار الصحابة، كما هو الحال في الوثيقة أو الاتفاقية التي وضعها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مع نصارى الشام، فإنّها وعلى أهميتها التاريخية لا تمثل أصلاً حاكماً في العلاقة مع الآخر، ولكن العقل الفقهي تعامل معها بوصفها أصلاً في صياغة العلاقة مع الآخر، وتحولت بنودها إلى أدلة شرعية للكثير من الفتاوى المتصلة بالآخر، مع أنّ الوثيقة - رغم أهميتها التاريخية - ليست صالحة للتعميم ولم يرد واضعها أن تكون كذلك.
إنّ فترة طويلة من الركود التي أصابت الفقه الإسلامي جعلته فقهاً جامداً لا يشهد حيوية اجتهادية ولا تطوراً في فقه العلاقة مع الآخر، وهذا ما أشعر بعض النخب في مجتمعاتنا (وبعضهم ممن وصلوا إلى سدة الحكم في بلاد المسلمين)، أنه فقه غير قابل للحياة وليس صالحاً لتدار سياسات الدول وقوانينها على ضوئه، ولا أن يتمَّ نظم شؤون الاجتماع والاقتصاد على أساسه، وترافق ذلك مع نشوء وصعود منظمات حقوقية ذات سطوة وهيمنة سادت في العالم منادية بحقوق الإنسان والمساواة بين الناس على اختلاف أديانهم.. الأمر الذي دفع بعض حكام المسلمين إلى اعتماد القوانين الوضعية في إدارة الدولة عوضاً عن الفقه الإسلامي، وربما أفرط بعضهم في تأثرِّه بالثقافة الغربية إلى حدِّ التماهي معها، معتبراً أن الإسلام هو سبب تخلفنا، فعمل على التخلص من كل ما يرمز إلى الإسلام، كما فعل أتاتورك في تركيا حيث حارب الكثير من الشعائر والمظاهر الإسلامية.
ثالثاً: الجهل والعصبية. ومن العوامل التي أعطت - بنسبة معينة - مقبولية وانتشاراً للفتاوى التي تستهين بالآخر وتنزع الحرمة عنه: الجهل بالآخر المختلف، والجهل كما عرفنا سابقاً يسمح بتشكل وبروز أفكار غير دقيقة عن الآخر وحمل تصورات سوداوية عنه[4] بما يجعله دائماً في موقع العدو الذي يكيد ويخطط ضد المجتمع المسلم، ويسعى في خرابه وإفساده، وإذا انضمت العصبية المذهبية أو الطائفية إلى الجهل زادته خطورة وحولته إلى جهل مقدس يرى صاحبه أن احتقار الآخر هو ممارسة دينية وعبادية ويتقرب إلى الله تعالى بها.
-
ملاحظات عامة على فتاوى الاستهانة بالآخر
وما نريد أن نثيره في المقام بشكل إجمالي أن الفتاوى المذكورة مع احترامنا للقائلين بها، ليست من المسلّمات الفقهية والضرورات التشريعية غير الخاضعة للنقاش، ولا تمثل الحقيقة المطلقة والصورة المثلى التي يريدها الإسلام للعلاقة مع الآخر، وإنّما هي اجتهادات توصل إليها هؤلاء الفقهاء نتيجة فهم معين للنصّ الديني، ومتأثرين بالعوامل المتقدمة التي انبثقت هذه الفتاوى في ظلالها. لذا يكون من حقّنا الدعوة إلى قراءتها من جديد، ولكنّنا ندعو إلى قراءتها مجدّداً في السياق الذي يراعي الملاحظات المنهجية الآتية، وهي ملاحظات نرى ضرورة اعتمادها في دراسة هذه الفتاوى وأمثالها، تاركين الدخول في التفاصيل للبحوث الفقهية الآتية.
أولاً: إنّ دراسة هذه الفتاوى لا بدّ أن تتمّ في إطار الرؤية الإسلامية العامة التي تحدّد طبيعة العلاقة مع الآخر، ومن غير السليم دَرْسها بشكلٍ متناثر وبعيدٍ عن تلك الرؤية التي أسلفنا الحديث عنها. ومن اللازم أيضاً استنباط حكم العلاقة بالآخرين من مجمل النصوص والشواهد التي تسلّط الضوء على الموضوع، بما في ذلك الشواهد التاريخية من سيرة النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وعدم الاكتفاء بالنصوص الخاصة الواردة في المسألة كما يحصل أحياناً، وعلى سبيل المثال: عندما نلاحظ المعالجة الفقهية لحكم دخول غير المسلمين إلى المساجد، نجد تركيزاً على النصوص العامة أو الخاصة التي يستفاد منها المسألة مع إغفال شبه تام للشواهد التاريخية الكثيرة التي تتحدّث عن دخول المشركين أو أهل الكتاب إلى المسجد النبويّ وغيره، وعلى مرأى ومسمع من رسول الله (ص)، كما حصل في قصة نصارى نجران وغيرها، ما سيأتي الحديث عنه في محله.
ثانياً: ولا بدّ أيضاً من ملاحظة الوجوه أو الأبعاد المتعدّدة للنص الديني، فإنّ هذا النص ليس دائماً في وارد إعطاء حكم تشريعي إلهي يكتسب صفة الدوام والاستمرارية، بل إنّه أحياناً كثيرة يعالج مشاكل ظرفية ويقدّم لها حلولاً وتدابير مؤقتة، وقد طرح بعض الفقهاء هذا الوجه في النصوص التي استدلّ بها على نجاسة الكافر، حيث رأى أنّ النجاسة التي تدلّ عليها هذه النصوص "ليست من نسخ ساير النجاسات الناشئة عن قذارة الشيء، بل هي في الحقيقة تحريم سياسي من قبل شارع الإسلام ليتنفّر منه المسلمون.."[5]، ومع قطع النظر عن صحة استنتاجه في هذه المسألة بالخصوص وعن تتمة كلامه الذي لا يخلو من بعض الملاحظات، لكن المبدأ الذي ينطلق منه سليم.
وفي هذا السياق فإننا نلاحظ أنّ التشدد الذي تعامل بها بعض الخلفاء مع الآخر، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطاب، كما يشي بذلك عهده إلى نصارى الشام، قد تحولّ إلى سنة تحتذى من بعده، وقد لحظنا التشدد عينه فيما صدر عن الخليفة الأموي عمر بن العزيز[6]، وأصبح ما صدر عن الأول منهما مصدراً للفتوى الدينية ولا سيما عند القائلين بحجية قول الصحابي، مع أنّ ما صدر عنه في هذا الشأن هو تدبير استصلحه وارتآه وله ظروفه التاريخية.
ثالثاً: إنّ فتاوى القطيعة المشار إليها لم تستهد - فيما نرى - الكليّات المقاصدية، والأهم أنه لم يراع في عملية استنباطها التمييز الضروري بين صنفين من الأدلة: الصنف الأول: الأدلة التي تحدد طبيعة العلاقات مع الآخر في حالة الحرب. والصنف الثاني: هو الأدلة الواردة في بيان طبيعة العلاقات معه في حالات السلم، ونتيجة لهذا الخلط، تمّ تعميم أحكام الحرب والعداء مع الآخر إلى حالات السلم الاجتماعي. وهذه ملاحظة هامة جداً ومراعاتها سوف تساعد على حلِّ الكثير من المشكلات العمليّة والعلميّة، وعلى رأس هذه المشكلات: توهم حصول التعارض بين النصوص الدينية، وتطبيق الفقيه لقوانين باب التعارض، مع أنه بالالتفات إلى اختلاف الموضوع يندفع توهم التعارض.
من كتاب: فقه العلاقات الاجتماعية والمُدنية مع غير المسلم.
[1] هذه الفتوى مشهورة عند فقهاء الإمامية، بل ادعى عليها بالإجماع، انظر: روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، للشهيد الثاني ج1 ص438، ومسالك الأفهام ج12 ص65.
[2] الحدائق الناضرة، ج 5، ص 328، ورسائل فقهية لصاحب الجواهر، ص 27، وشرح نجاة العباد، 1، ص 146، إلى غيرها من الكتب الفقهية.
[4] أتذكر أنه وبعد عودتنا من التهجير القسري عقيب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في عام 1982م وعند وصولنا إلى الحاجز أننا كنا متلهفين على خوف واندهاش إلى النظر المباشر إلى اليهود الاسرائليين، لمعرفة هذا الكائنات البشرية وعند وصل السيارة إلى الحاجز كانت عيوننا جاحظة إليهم تتأمل فيهم لمعرفة أشكالهم، هذا مع أننا كنا بطبيعة الحال قد رأينا صورهم عبر وسائل الإعلام قبل ذلك، ولعلّ وحشية الاحتلال وقسوته ضخمت من بشاعة صورهم الشخصية في نفوسنا.
[5] التعليقة على العروة الوثقى للمنتظري ج1 ص51.
[6] انظر: رد على أهل الذمة، ص 39.