حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
التأويل: منهجاً وضوابط
الشيخ حسين الخشن



 

هل يمكن اعتماد منهج التأويل في تفسير النصوص الدينية أم لا بدّ من الجمود على الظاهر؟ وإذا كان التأويل مشروعاً فما هي ضوابطه وشروطه؟ وما هي مساحته وحدوده؟ هذه الأسئلة وسواها نحاول الإجابة عليها فيما يأتي.

 

المدلول اللغوي للتأويل:

 

التأويل لغة: هو التفسير بالمآل، وقد ورد في الكتاب والسنة بهذا المعنى، يقول الراغب الأصفهاني في المفردات: "التأويل من الأوْل: أي الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه، علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} وفي الفعل.. {هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله..} أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه.." وثمة آيات أخرى استخدمت التأويل بمعناه اللغوي المشار إليه (راجع سورة يوسف، آية:100،36،6)، وبهذا المعنى ورد أيضاً في السنّة، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" فتشوّف غير واحد من الصحابة ليكون هو المعني بذلك، لكنه(ص) أشار إلى علي(ع) (راجع مسند أحمد 3/33).

 

تطوير المعنى وتبدله:

 

والذي حصل مع لفظ التأويل أنه ـ كما هو الحال في كثير من الكلمات ـ لم يحافظ على معناه اللغوي، بل طرأ عليها التغيير والتبديل، ولعل أول تغيير جوهري عرض للكلمة هو استخدامها بما يرادف الاجتهاد، في محاولة لتبرير مخالفات بعض الصحابة أو غيرهم للكتاب والسنة، فقد كان العذر التخفيفي الذي يعطي لمن ارتكب مخالفةً ما لمنطوق القرآن أو فحواه":أنه تأوّل فأخطأ" وعلى سبيل المثال لمّا قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وسبى زوجته جاء خالد إلى الخليفة أبي بكر معتذراً عن فعله هذا بالقول: إني تأوّلت، فاقتنع الخليفة بهذا العذر لكن عمر بن الخطاب لم يقنع وأصر على إقامة الحد على خالد، فدافع عنه أبا بكر قائلاً: "ما كنت لأرجمه فإنه تأول فأخطأ"(راجع كنز العمال:5/619).

 

وفي تطور آخر لمعنى " التأويل" ـ وهو التطور الذي حوّل الكلمة إلى مصطلح معروف لدى علماء المسلمين ـ أصبحت تعني: "حمل اللفظ على خلاف ظاهره" وقد استقر هذا الاصطلاح في الأذهان، مع أنه ـ بالتأكيد ـ اصطلاح حادث (البيان للخوئي224 والميزان 1/7)، وقد نبهنا في حديث سابق إلى خطورة الاصطلاحات الموضوعة على خلاف المعنى العرفي واللغوي، لأنها قد تخلق تشويشاً وتتسبب في ضياع الحقيقة لدى الأشخاص الذين أنِسوا بالمصطلح الجديد، وأصبح هو المتبادر إلى أذهانهم ونسوا أو لم يتوجهوا إلى المعنى اللغوي.

 

وقد وقع علماء كبار ضحايا هذا الالتباس كما هو حال الجرجاني في كتابه "التعريفات" حيث قال: "التأويل في الشرع: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى.." فترى أنه أسبغ على التعريف المذكور لبوساً شرعياً، مع أن الشرع ليس لديه اصطلاح خاص بالنسبة للفظ التأويل، وإنما استخدمه بمعناه اللغوي كما ذكرنا. أجل، ما ذكره من التعريف هو اصطلاح علماء الشرع وليس الشرع نفسه.

 

الحاجة إلى التأويل:

 

باتضاح هذه المقدمة الضرورية نأتي إلى السؤال الملح في المقام وهو: ما وجه الحاجة إلى التأويل وصرف النص عن ظاهره؟ الحقيقة أن فكرة التأويل هذه ابتدعها العقل الإسلامي لحل مشكلة التنافي بين العقل والنقل، حيث يتم تأويل النص بما لا يتنافى ومعطيات العقل، وبذلك سجّل الاتجاه التأويلي الذي تبناه فرسان العقلانية في الإسلام ـ أعني الشيعة والمعتزلة ـ انتصاراً لمرجعية العقل في تفسير النص ومحاكمته، ومن المرجح أن يكون لحال الجمود والحرفية والشكلانية الذي تعاملت به بعض المدارس الإسلامية إزاء ظواهر النصوص أثر قوى في تعزيز الاتجاه العقلي التأويلي، والعكس قد يكون صحيحاً أيضاً، كما يرى الشهرستاني في تأكيده على أن توغل المعتزلة في علم الكلام وقولهم بالقدر ونفي الصفات وخلق القرآن أوجد ارتباكاً عند "السلف من أصحاب الحديث" فحاروا في "تقرير مذهب أهل السنة" إزاء متشابهات القرآن والحديث، فتوقف جماعة ـ منهم أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني ـ عن الخوض في تفسير المتشابه وآمنوا به على ظاهره رافضين الدخول في تأويله (الملل والنحل 1/103-104).

 

الإفراط والتفريط:

 

إزاء الموقف السلبي الذي اتسمت به المدرسة الظاهرية في رفضها لكل أشكال التأويل وتخطي الظاهر، فإن ثمة مدرسة أخرى مقابلة فتحت باب التأويل على مصراعيه إلى حد الشطط كما هو الحال عند المتصوفة الذين اعتنوا ـ كما يقول الطبطبائي ـ بالآيات الأنفسية وأهملوا الظاهر وآياته الآفاقية، فاقتصروا على التأويل وأهملوا التنزيل، واستدلوا بكل شيء على كل شيء، مجرّئين ـ بذلك ـ الناس على التأويل حتى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل وعلم الحروف (الميزان1/7).

 

 ويمكن لنا تصنيف الموقفين المذكورين ضمن دائرتي الإفراط والتفريط ورفضهما معاً، أما الموقف السلبي الرافض لمبدأ التأويل فهو يفتقر إلى الدليل، لأن ما تمسكوا به لذلك هو مجرد شبهات (على حد تعبير السيوطي في الإتقان 2/36) لا تنهض لإثبات المُدَّعى، ولعل عمدة دليلهم على ذلك: قوله تعالى:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم أكتاب وأخر متشابهات ،فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}(آل عمران:7).

 

بيد أن هذه الآية لا تمنع من تأويل المتشابه إلاّ لمن كان في قلبه زيغ ويقصد من تأويله إثارة الفتنة دون الرجوع في تأويله إلى المحكم الذي هو المرجع والأم للمتشابه كما نصت الآية. ونضيف إلى ما تقدم بأن رفض مبدأ التأويل ليس فقط يفتقر إلى الدليل، بل إن الدليل قائم على خلافه، أعني رفض الجمود على ظاهر الآيات المتشابهة. يقول الطبطبائي في ردّ هؤلاء: "والعقل يخطّئهم في ذلك والكتاب والسنة لا يصدقانهم، فآيات الكتاب تحرّض كل التحريض على التدبر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفة الله ومعرفة آياته بالتذكر والتفكر والنظر فيها، والاحتجاج بالحجج العقلية ومتفرقات السنة المتواترة معنى توافقها، ولا معنى للأمر بالمقدمة والنهي عن النتيجة"(الميزان:8/153).

 

هذا الكلام لا يعني ـ بطبيعة الحال ـ تسويغ فكرة التأويل على إطلاقها واستباحة الخروج على الظاهر دون موازين أو ضوابط، لأن ذلك يساوق هدم الإسلام، ولطالما تسللت الباطنية إلى الإسلام تحت ستار التأويل الذي يقترب في بعض اتجاهاته من التحريف والتلاعب بآيات الله واتخاذها هزوا، ما شكّل غطاءً مخادعاً لكل محاولات التفلت من الشريعة وضوابطها، وقد واجه الأئمة من أهل البيت(ع) هذا الاتجاه وحاربوا رموزه دون هوادة، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع)، قيل له: روي عنكم أنّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال: ما كان الله ليخاطب خلقه بما لا يعقلون"(الوسائل 17/325).

 

ضوابط وموازين:

 

إن قوله (ع): " ما كان الله ليخاطب خلقه بما لا يعقلون"يؤشر إلى ضابط أساسي من ضوابط التأويل، وهو ضرورة انسجامه مع قواعد اللغة وضوابط قراءة النص، فكل تأويل لا تساعد عليه قواعد اللغة في الكتابة والمجاز والاستعارة ولا ينسجم مع بلاغة النص القرآني هو تأويل مرفوض، بل قد يعتبر طرحاً للقرآن ومصداقاً لهجرانه الذي شكى منه النبي(ص) فيما حكاه عنه القرآن الكريم {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}(الفرقان:30).

 

وثمة ضابط أو ميزان آخر يأتي ـ في الأهمية ـ بالدرجة الأولى، وهو أن لا يخرج التأويل عن حدود المنطق والعقل (على حد تعبير السيد هاشم معروف الحسني في كتابه دراسات في الحديث والمحدثين293). كما هو الحال في بعض تأويلات الباطنية وشطحاتهم التفسيرية. وخلاصة القول: إن التأويل خلاف القاعدة فلا يلجئ إليه اعتباطاً أو تعسفاً وإنما يصار إليه في حال الضرورة وهي عدم إمكان الالتزام بالظاهر لسبب من الأسباب، والضرورة وان حتّمت التأويل، لكنها لا تعني التفلّت من الضوابط  وفتح المجال أمام المخيلة الخصبة لتسبح في متاهات التأويل وأغواره، بل لا بدّ أن يتحرك ـ أعني التأويل ـ وفق قواعد اللغة وضوابطها، وهذا ما لا نجد له مبرراً في الكثير من الموارد التي اعتمد فيها التأويل حيث نلاحظ أن بالإمكان التماس معانيها المعقولة ـ دون الجمود على حرفية النص ـ بالقراءة الواعية المتأنية التي لا تفصل الآيات لا عن سياقها الخاص وما يتضمنه من قرائن لفظية أو مقاميه، ولا عن سياقها القرآني العام على قاعدة أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً وأن المحكم هو المرجع للمتشابه والمبيّن هو المرجع للمجمل..

 

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ للتأويل نطاقاً خاصاً لا يمتد بالتأكيد إلى المجال التشريعي أو ما يعرف بآيات الأحكام إلا نادراً ويبقى نطاقه ومجاله الرحب الآيات العقائدية ونظائرها.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon