الزيارة: أهدافاً ودلالات
الشيخ حسين الخشن
ثمة ظاهرة بارزة في التاريخ الديني لدى كل الأديان، وهي ظاهرة زيارة مراقد وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين، وقد سار المسلمون ـ سنةً وشيعة ـ وفق هذه السيرة العامة، ولم يشذ منهم أحد عن ذلك سوى بعض الفرق المتأخرة التي أثارت بعض الشبهات حول مبدأ الزيارة وأصل شرعيتها.
ولسنا هنا بصدد إثبات شرعية الزيارة فقد أشبعها علماء الإسلام بحثاً، وأتوا بما لا مزيد عليه (راجع على سبيل المثال: شفاء السقام للسبكي الشافعي، وكشف الارتياب للسيد محسن الأمين) وإنما يهمني تسجيل بعض الوقفات حول أهداف الزيارة ودلالاتها وإثارة بعض الملاحظات حول ما قد يعلق بها من شبهات في مضامينها وطريقة أدائها.
أهداف الزيارة:
تمثِّل زيارة المراقد المطهرة شكلاً من أشكال التواصل مع صاحب المرقد نبياً كان أو ولياً، سواء التواصل الروحي لما توفره الزيارة من سياحة عبادية وروحية، أو التواصل الفكري والعاطفي لما تتيحه للزائر من فرصة للتعرف على فكر المَزْور ورسالته، كما أن الزيارة تمنح الإنسان الغارق في متاهات الحياة فرصة للتأمل ووقفة مع الذات ليقوم بمراجعة شاملة لكل تصرفاته وأفكاره وعواطفه، ويرى مدى ملائمتها مع تطلعات صاحب المرقد باعتباره مثلاً أعلى للزائر، وبهذا تخرج الزيارة عن كونها مجرد طقسٍ أو عادة لتكون مصدر إلهام روحي ومعرفي وتؤدي وظيفة رسالية على المستوى التربوي والروحي والثقافي، هذا فضلاً عن أنها تعبر عن التزام أخلاقي بضرورة تمجيد المَزور وتكريمه وإعلاء شأنه والتنويه باسمه تقديراً لتضحياته ومواقفه وجهوده، الأمر الذي يساهم في تعزيز تلك القيم والمبادئ والتشجيع عليها والدعوة إليها.
في التحفظات:
إن وظائف الزيارة المشار إليها قد تساهم ـ لا سيما في حال تفعيلها ـ في إزالة بعض التحفظات أو الشبهات حول جدوائية الزيارة، ولا يبقى إلا أن يثار الجدل أو التشكيك من جهتين:
الأولى: أن يثار سؤال الشرعية البحتة، وهذا ما فعله المعارضون لمبدأ الزيارة والمتشددون في تحريمها والمنع منها، والحقيقة أنّ ما يستند إليه هؤلاء في موقفهم الرافض غير مقنع ولا تام، وقد فنّد الكثير من علماء الفريقين شبهاتهم وأدلتهم، وأثبتوا الشرعية بالدليل المقنع، حتى أن بعض الأعلام استدل على مشروعية الزيارة بالأدلة الأربعة، أعني الكتاب والسنة والإجماع والعقل (كشف الارتياب 361) وقد ألمحنا في مستهل الكلام إلى أن سيرة العقلاء من مختلف الأديان بما في ذلك المسلمون جارية على زيارة المراقد، ولم نجد ما يصلح دليلاً للمنع عن هذه السيرة، ومن المعلوم أن الأعمال أو الطقوس التي يؤديها الزائر المسلم ـ في الأعم الأغلب ـ لا تخرج عن خط التوحيد ولا تعيد إنتاج الوثنية أو عبادة غير الله سبحانه، فالزائر الذي يقصد رسول الله(ص) أو إماماً من أئمة أهل البيت(ع) ويشتغل في مشاهدهم بتلاوة القرآن أو الصلاة والدعاء لله سبحانه، ليس من التدين في شيء استسهال رميه بالشرك أو الضلال أو الابتداع، أو الوثنية والقبورية إلى غيرها من الأوصاف.
الملاحظة الثانية: إن أهداف الزيارة ودروسها يمكن استلهامها دونما حاجة إلى التواجد في الضريح أو المرقد وتجشّم عناء السفر وتحمل المشقات وبذل الأموال في سبيل زيارته، فالارتباط بالنبي أو الإمام والتواصل معهما مطلوب على كل حال وفي كل زمان ومكان، ولا يتوقف ذلك على زيارة الضريح.
وهذا الكلام لا يخلو من وجاهة، لأن روح المزور لا يحبسها المكان الذي دفن فيه، والتواصل الروحي والفكري معه لا يتوقف على التواجد بقرب ضريحه، بل لربما حصل للبعيد من الارتباط ما لا يحصل للقريب، ومن طريف ما يُنقل في هذا الصدد أن المولى النراقي وقد كان في "كاشان" أرسل إلى السيد مهدي بحر العلوم وكان في النجف رسالة ضمّنها البيتين التاليين:
ألا قلْ لسكان أرض الغري هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضاً فإنا عطاشى وأنتم ورود
فأجابه السيد بحر العلوم:
ألا قل لمولى يرى من بعيد ديار الحبيب بعين الشهود
لك الفضل من شاهد غائب على شاهدٍ غائبٍ بالصدود
فنحن على القرب نشكو الظما وفزتم ـ على بعدكم ـ بالورود
(مقدمة الفوائد الرجالية1/74)
لكننا نلاحظ أنه يبقى لزيارة المكان الذي يضم في ثراه جسد الحبيب معنى خاصاً وأثراً روحياً عميقاً، لا سيما أن الإنسان بحكم بشريته ينشدُّ إلى المحسوسات ويتأثر بالمكان والزمان وتُحرِّك إحساسه وعواطفه عناصر القرب والبعد، ألا ترى أن الحضور الروحي والانجذاب المعنوي الذي يتملك المرء وهو يدخل الحضرة الشريفة لرسول الله(ص) حيث محل تصاعد أنفاسه وترددات صوته وموطئ أقدامه لا يمكن أن يحصل للإنسان البعيد!
الزيارة في خط التنزيه:
في ضوء ما تقدم من أهداف سامية للزيارة، فإنه يجدر بنا أن نعمل ـ باستمرار ـ على إبقاء الزيارة في خط هذه الأهداف، خط التنـزيه الذي يُبعد الزيارة عن كل ما يشين وما فيه شائبة الغلو أو الشرك، ويفترض بالعلماء الرساليين العمل الدؤوب في سبيل تثقيف الزوار على ضرورة الابتعاد قدر المستطاع عن الاستغراق في الجوانب الشكلية والتركيز على المعاني والدلالات السامية للزيارة، ولعل من التصرفات المشينة والشاذة ما يفعله البعض من الزحف على بطونهم أو المشي على أطرافهم الأربع عند وصولهم إلى المقامات، وقد حرّم بعض الفقهاء هذه الأعمال ومنعوا منها، بل نقل عن السيد البروجردي تحريمه للسجود على أعتاب تلك المقامات بالعنوان الثاني، دفعاً للانطباع الخاطئ الذي يوحي به هذا العمل للآخرين، الذين قد يرون في ذلك سجوداً لصاحب المقام، مع العلم أن الغالبية ممن يفعلون ذلك لا يقصدون سوى السجود شكراً لله على توفيقه لهم للزيارة.
نصوص الزيارات في الميزان:
وثمة نقطة أخرى نرى ضرورة التطرق إليها وهي ترتبط بنصوص الزيارات ومضامينها، فإن نصوص الزيارة المرسومة تمثل مادة تثقيفية للزائرين، وهي تتضمن الكثير من المفردات ذات الدلالة العقدية (كما يلاحظ في الكثير من فقرات الزيارة الجامعة التي يُستند إليها في إثبات المطالب العقدية) أو التشريعية (كما في زيارة الناحية المقدسة والحديث فيها عن لطم الخدود، كما في زيارة عاشوراء وقضية اللعن) أو نحو ذلك من المفاهيم الفكرية المختلفة، الأمر الذي يفرض التعامل مع الزيارات بدقة عالية وإخضاعها لضوابط المنهج العلمي في قراءة النص، إن لجهة التدقيق في أسانيدها وعدم التعامل معها على أساس قاعدة التسامح في أدلة السّنن أو لجهة التدقيق في متونها بغية التأكد من عدم حصول الخلط والخبط والاشتباه فيها، أو لجهة ملاحظة مدى انسجام مضامينها مع الخط القرآني والمفاهيم الإسلامية الأصيلة، والملحوظ أن الكثير من الزيارات تشتمل على ثغرة أو أكثر في واحدٍ من الجهات الثلاث المشار إليها، أمّا ضعف السند فهو ثابت في غير واحدٍ من الزيارات حتى المشهورة منها، كما أن الخلط والاشتباه واقع كثيراً فيها (راجع الأخبار الدخيلة 1/252 وما بعدها) وهكذا فإنّ بعضها تشتمل على مضامين قلقة وربما منافية للقرآن الكريم.
وفي ضوء ذلك تكون الحاجة ماسة وملحة إلى القيام بدراسة شاملة لنصوص الزيارات المأثورة بطريقة موضوعية بعيداً عن لغة التشهير والتضليل (كما حصل مؤخراً مع العلامة السيد مرتضى العسكري عندما قوبل بلغة تشهيرية بسبب رأي له في أنّ اللعن المعروف في زيارة عاشوراء ليس من أصل الزيارة وإنما هو مجعول) وممّا يزيد في الحاجة إلى هكذا دراسة، علمنا بحصول التزوير في بعض الكتب المتداولة للزيارة كما شهد بذلك المحدث النوري وشكى من عدم اعتناء العلماء بتصحيح هذا الانحراف (اللؤلؤ والمرجان 134 ـ 140) ومعرفتنا أيضاً بأن جملة من الرواة المتهمين بالوضع والغلو والتخليط قد ألّفوا كتباً في الزيارات ومن هؤلاء: عبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمعي، ومنهم محمد بن عبد المطلب الشيباني ومنهم داوود بن كثير الرقي، ومنهم محمد بن أرومة.