حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
الموقف الإسلامي من التشاؤم
الشيخ حسين الخشن



 

 ومن المفاهيم المتشكلة خارج الفضاء الديني، والمعيقة لتطور الإنسان وتقدمه مفهوم التشاؤم أو ما يعرف بالطيرة، حيث لا يزال بعض الناس يتشاءمون من أماكن معيّنة أو أيام محدودة أو أشياء وكائنات مختلفة.: 

 

   والتشاؤم اعتقاد قديم، فقد كان عرب الجاهلية يتفاءلون بالحمام وبنباح الكلب على مجيء الضيوف، ويتشاءمون من الغراب عتى ضرب به المثل فقيل: "فلان أشأم من غراب البين". (أنظر: مجمع الأمثال، لأحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت- لبنان، ط2، 1987م ج2 ص194، وأفاد فيسبب إضافة البين إلى الغراب: "أن الغراب إذا بان أهل الدار للنُّجْعة – المكان الذي تقصده القبيلة طلباً للكلأ ومساقط الثمار- وقع في موضع بيوتهم يتلمَّس ويتقمّم فتشاءموا به، وتطيروا منه، إذ كان لا يعتري منازلهم إلاّ إذا بانوا فسموه غراب البين.."، وقد ذكر النيسابوري سبعة أمثال عربية تبدأ بكلمة "أشأم"، ممّا يدل على تجذر الاعتقاد بالطيرة عندهم)، ولا يزال التشاؤم بالغراب أو بغيره من الحيوانات أو غيرها شائعاً إلى أيامنا هذه، فالغراب أو صوت البوم أو غيرها هو نذير شؤم تدفع الكثيرين إلى التوقف عن بعض الأعمال والمهام ولا سيما السفر، وإذا ما أتم العمل فإنه يفعل ذلك على مضض أو حذر، وهاجس الشؤم يتملكه، وكأن الذي يختلج في نفوس الكثيرين أنّ النجاح في العمل مرتبط بهذه الأمور، بأن يكون السفر – مثلاً- في أزمنة محددة أو حالات خاصة، بحيث يكون صوت البوم نذير للشؤم ومؤشراً إلى الفشل في السفر في هذا اليوم أو الساعة.

 

الموقف الإسلامي من التشاؤم:

 

    والإسلام في موقفه الصارم من الجهل وكل ما يعيق تقدم الإنسان ونموه وفي حرصه الشديد على أن تسير الحياة وفق منطق السنن والقوانين وقف موقف الرافض لهذا الاعتقاد، لأنّه اعتقاد غير مبني على علم ولا معتمد على حجة ودليل، بل إنّه اعتقاد معيق لتقدم الإنسانية لتجاوزه لقانون السنن التي ربط الله بها بين الأسباب والمسببات، ومن هنا أنكر القرآن الكريم فكرة التشاؤم في ردّه على تشاءم قوم موسى بموسى {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه}(الأعراف: 131)، وتشاؤم قوم صالح بصالح {قالوا اطيّرنا بك وبمن معك} (النمل: 47)، وتشاؤم أهل القرية برسلهم {قالوا إنا تطيّرنا بكم} (يس: 18)، حيث كان الجواب على كل هؤلاء بأن الشر لم يأتكم من قبل الرسل والأنبياء، وإنما جاء من قبل أنفسكم وما تحملونه من عناد وكفر وخبث، {قالوا طائركم معكم} (يس: 19)، {ألا إنما طائرهم عند الله} (الأعراف: 131)، إلى ذلك فإن التشاؤم ينافي مبدأ التوكل على الله سبحانه ومن هنا يتضح الوجه فيما يأتي من أن كفارة الطيرة التوكل، كما أنه ينافي الإيمان بأن الله هو الفاعل والمؤثر في هذا الكون، ونسبة التأثير إلى غيره مع عدم وجود ما يؤكد ذلك وفق قانون العلية لا يخلو من شرك خفي، وهذ ما أكدته بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "من ردّته الطيرة عن شيء فقد فارق الشرك" (مجمع الزوائد للهيثمي ج5 ص105)، وفي رواية أخرى: "من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك" (مسند أحمد ج2 ص220)، والوجه في نسبتهم إلى الشرك – كما أشرنا- أن هؤلاء يتخيلون أنهم إذا عملوا بما يقتضيه التشاؤم فإن ذلك يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع، وهذا إن ترافق مع اعتقادهم بأنّ ذلك حاصل وواقع خارج إرادة الله وبصرف النظر عن تقديره فهو الشرك الجلي، وأمّا إذا كان اعتقادهم أنّ هذا إنما يحصل وفق تقدير الله سبحانه فهذا اعتقاد باطل ولا دليل عليه، وهذه الروايات التي تصف ذلك بالشرك إنما ترشد إلى بطلان هذا الاعتقاد ومنافاته لمبدأ خلوص التوحيد لله سبحانه.

 

   وفي ضوء ذلك يتضح الحكم الشرعي للتطير والتشاؤم، فالتشاؤم إن كان ينطلق من اعتقادٍ بمؤثرية بعض الأشياء في الشر أو الخير بعيداً عن تقدير الله وتخطيطه لذلك فهذا ليس اعتقاداً مخرجاً عن الدين، ولكنه اعتقاد باطل ولا شاهد عليه لا من علم ولا من وحي، وسوف يُشكل الاصرار عليه عناداً وتمرداً على تعاليم الدين وذلك محرم بكل تأكيد، هذا ولكنّ الإسلام ورحمة منه بالعباد ولطفاً بهم فقد رفع المؤاخذة على الطيرة، ففي الحديث عن رسول الله(ص) المعروف بحديث الرفع: "وضع عن أمتي تسع خصال: الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق"، (الكافي ج2 ص462)، وربما كان سر عدم المؤاخذة على الطيرة أنها عندما من آمن بها تمثل حالة لا إرادية وينساق معها الإنسان بشكل لا شعوري.

 

   ثم إنّه وفي الموقف الإسلامي المنشود من التشاؤم والتطير لا نجد مفراً من رفض بعض النصوص التي تنسب إلى الرسول(ص) والتي تؤكد على صحة التشاؤم في بعض الأشياء، من قبيل ما رواه البخاري عنه (ص): "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار"، (صحيح البخاري ج3 ص217). وقد لاحظنا أنه وبسبب منافاة هذا الحديث لما ورد في القرآن الكريم والسنة النبويّة، ومنها: قوله (ص): "لا طيرة"، مما رواه البخاري نفسه (صحيح البخاري ج7 ص31) فقد احتار العلماء في تفسيره، فقال مالك وطائفة هو على ظاهره وأنّ الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سبباً للضرر أو الهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم.. وقال الخطابي وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي الطيرة منهي عنها إلاّ أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة، وقال آخرون: وشؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشءم الفرس أن لا يغزى عليها، وقيل: حرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوِّض إليه، وقيل: المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة.." (شرح مسلم للنووي ج14 ص220- 222).

 

   وهذه التوجيهات هي تأويلات لا يساعد عليها ظاهر الحديث، على أن بعضها مرفوض من قبيل ما وُجِّه به شؤم المرأة من عقمها وسلاطة لسانها، فإنّ هذا جارٍ في الرجل، فقد يكون عقيماً أو سليط اللسان، وهكذا ما ورد في تفسير وتوجيه شؤم الخادم أو الفرس أو الدار فإنها جارية في أشياء كثيرة فما الموجب لتخصيص هذه الثلاثة بالشؤم؟! ولذا فالأجدر رفض هذا الحديث وأمثاله تنزيهاً لساحة النبي(ص) عن مثل هذه الترهات.

 

لا واقعية للتشاؤم:

 

   ثم إنه وبصرف النظر عن الموقف الإسلامي الرافض لفكرة التشاؤم، فلو أننا درسناها دراسة واقعية فلن نجد ما يؤكد صدقيتها وواقعيتها، فما أكثر ما يواجه الإنسان بعض الأشياء التي يتشاءم بها الناس ولا يبالي بذلك ويسير في عمله أو سفره ولا يصاب بمكروه، بل يوفق في عمله وسفره، ولا سيما إذا كان ممن لا يؤمن بالطيرة أو لا يلتفت إلى أن هذا الشيء هو من موجبات التطير والتشاؤم عند الناس، وهذا ما يؤشر إلى أنّ القضية لا تعدو أن تكون حالة نفسية بحتة يعيشها الشخص بحكم اعتقاده بوجود رابط بين ما يواجهه من أسباب التشاؤم وبين فشله في عمله وسفره، وهذا الاعتقاد المتجذر في النفس قد يؤثر على توازن الشخص ما قد يؤدي إلى فشله في عمله أو تجارته أو سفره، وهذا ما يوهم الكثيرين بواقعية التطير في غفلة عن أنه لا رابط بين الأمرين ولا وجود لأية علاقة سببية بينهما، وليس ثمة ما يؤكد صدقية هذا الربط أو واقعيته لا من العقل ولا من العلم ولا الواقع يؤكد ذلك كما قلنا، وإلاّ لو كان ثمة رابط بين الأمرين لعمّت القضية، مع أنّها لا تواجه إلاّ من يعتقد بها ويسيطر عليه هاجس الشؤم فيصاب بالتوتر والقلق ويفشل في نشاطه التجاري أو سفره أو زواجه.. وهذا ما يؤكده الحديث المروي عن الإمام الصادق(ع): "الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها شددت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً" (الكافي ج8 ص198)، وفي حديث أخر عنه(ع): ".. وكما لا تضرّ الطيرة من لا يتطير منها، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون" (آمالي الشيخ الصدوق ص382).    

 

   وربما يتساءل البعض إذا كان التشاؤم فكرة موهومة ومتخيلة ولا واقعية لها، فكيف اعتقد بها الكثير من شعوب العالم، ولا يزال الاعتقاد بها إلى اليوم؟

 

   والجواب: إنّه ربما يكون التشاؤم من بعض الأشياء قد انطلق في بداية الأمر من اقتران اتفاقي مؤثر ومتكرر لأكثر من مرة بين رؤية أحد الأشياء ووقوع حادث مؤلم فتخيل الناس من خلال الذهنية الساذجة غير المتبصرين بالأمور وجود علاقة سببية بين الأمرين.

 

علاج التشاؤم:

 

   وحرصاً على التخلص من حالة التشاؤم يمكننا القول: إنّه لو كنا أمام اعتقاد يعبر عن حالة فكرية بحتة لأمكنت مواجهته بالموقف الفكري المضاد، وذلك من خلال التأكيد على رفض فكرة التشاؤم لعدم واقعيتها ومنافاتها لمبدأ التوكل على الله، إلاّ أننا في حقيقة الأمر أمام اعتقاد يعبر عن حالة فكرية ونفسيّة متجذرة في النفوس نتيجة التربية والعادة، ولذا كان الضروري لمواجهة هذه الحالة من اعتماد أسلوب تربوي يتخطى مجرد الموقف الفكري، وهذا ما نلحظه في الوصايا الواردة في الروايات فإنّها أكدت على اتباع جملة من الخطوات أهمها: 

 

1- تأكيد مبدأ الارتباط بالله والتوكل عليه، باعتباره المالك لكل شيء والقادر على كل شيء، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "كفارة الطيرة التوكل" (الكافي ج8 ص198).

 

2- مخالفة ما يقتضيه التشاءم وعدم الانسياق معه، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "إذا تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تقضِ وإذا حسدت فلا تبغِ" (بحار الأنوار ج14 ص153، تحف العقول ص50).      
      
   إنّ علينا كمؤمنين أن نعمل على رفض فكرة التشاؤم بالأزمنة أو الأمكنة أو الحيوانات، وأن نربي أمتنا على الاقلاع عن الانسياق مع هذه الفكرة بالتوكل على الله والاعتماد على تأييده وتسديده. 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon