السيرة الحسينية وتحدي نزعة التقديس
الشيخ حسين الخشن
ثمة نزعة بيّنة ويمكن رصدها لدى مختلف الشعوب في تعاطيها مع تراثها وتاريخها، ألا وهي نزعة تقديس هذا التراث أو التاريخ برموزه وشخصياته ومحطاته وانتصاراته، ما يرفع رموزه إلى درجة العصمة والتعالي على النقد، ويضفي على محطاته وأحداثه هالة من القداسة والهيبة بحيث تمنع من مقاربته النقدية.
ويلاحظ أن منسوب التقديس يرتفع كلما تقهقرت الأمة أكثر وتدنى مستواها الحضاري قياساً على سائر الأمم، ما يجعلها تمعن في استعادة أمجاد الماضي, حيث تجد فيها تعويضاً نفسياً عن هزائم الحاضر.
وتاريخنا الإسلامي ليس بدعاً في هذا المجال، فقد أحاطه المسلمون ـ على الأقل في بعض مراحله ـ بهالة قدسية اختلط فيها الوجداني بالتاريخي، والواقعي بالمتعالي أو المتخيل، ولذا ترى أنهم لا يستسيغون ولا يتقبلون القراءة النقدية لأحداثه ومجرياته، ومع هذه النزعة انساق المسلمون الشيعة في التعاطي مع أحداث النهضة الحسينية، ولذلك ليس مستغرباً أن تكون قراءتها النقدية محفوفة بالمخاطر، وأن يتخوف الكثيرون من إبداء رأي مخالف في تحليل أحداثها، خشية تعرضهم لردات فعل قاسية كما حصل مع بعض العلماء الذين ناقشوا في بعض الأفكار السائدة رغم افتقارها إلى الدليل، كقضية وجود"ليلى" زوجة الإمام الحسين(ع) في كربلاء، أو قضية رجوع موكب السبي من الشام إلى كربلاء في العشرين من صفر، أو غيرها من المفردات التاريخية، ويبلغ التوتر والاستنفار المذهبي مداه إذا ما تمّ تسجيل بعض الأسئلة النقدية إزاء موقف بعض الشخصيات غير المعصومة ممن أوصلتهم الهالة القدسية إلى رتبة القديسين ومصاف المعصومين، على الرغم من إقرار الناقد بفضلهم وعظيم مقامهم ومنزلتهم.
سلبيات نزعة التقديس:
من المؤكد أن الحقيقة هي الضحية الأولى للنزعة التقديسية في إزاء التراث والتاريخ، فإن هالة القداسة التي يحاط بها الحدث أو الشخص تشكّل حاجباً عن رؤية الحقائق وعائقاً عن الوصول إلى الواقع، لأنها تُدخل العاطفة في عملية قراءة النص، فتستبعد منه أو تضيف عليه ما تراه ضرورياً للحفاظ على نقاء الصورة المرسومة سلفاً عن الحدث التاريخي، وربما وصل غلواء العاطفة ـ عند البعض ـ إلى حد إختلاق الأحداث والقصص التي تعزز قناعاته، ما يؤدي إلى إختلاط الوقائع بالأوهام وضياع الحقائق في ركام الأساطير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النزعة المذكورة تحدّ من الشجاعة العلمية أو قل تُزهِّد في اقتحام ميادين البحث التاريخي المتصل بالمقدس المفترض، فإن الباحث أو المحقق سوف يتهيب دراسة هذه الأحداث أو الشخصيات بطريقة موضوعية تستهدف استجلاء الحقائق، وذلك خشية وصوله إلى قناعات مختلفة عما هو سائد ومشهور، وقد تصدم ـ هذه القناعات ـ الرأي العام الذي يملك صورة نمطية معينة عن تاريخه ورموزه وقد أصبحت هذه الصورة جزءً من وعيه الديني وبنائه الفكري.
لهذه الأسباب ـ وربما لغيرها ـ ظلّ النص التاريخي العاشورائي بمنأى عن الدراسة الموضوعية والتحقيقية، وما بذل من جهودٍ جادة على هذا الصعيد، كمحاولات السيد محسن الأمين رحمه الله ـ مثلاً ـ بقي بعيداً عن التأثير الفاعل، ليبقى التساهل إزاء هذا النص هو سيد الموقف! وربما تُلفَّق ـ أحياناً - بعض الحجج الواهية لدعم هذا المنحى التساهلي والاسترخائي، بما يثبط عزائم الباحثين ويزهدّهم أو يخوّفهم من درس تلك الأحداث وتحقيق نصوصها، من قبيل العذر الواهي الذي يردده بعضهم حول نية بعض العلماء وعزمه على تحقيق الرواية الصحيحة أو القول الصحيح بشأن وفاة السيدة الزهراء(ع) (على اعتبار أن في المسألة ثلاثة أقوال) وإذا بالزهراء(ع) تأتي هذا العالِم في منامه لتقول له: يا هذا، استكثرت أنّ يقام لي ثلاث مناسبات يُبكى فيها عليّ؟ فما كان من هذا العالم إلاّ الانصراف عن عزمه!
إن هذا النمط من التفكير اللامنطقي لن يطمس الحقائق التاريخية فحسب، وإنما هو معيق لحركة البحث العلمي ونهوض الأمة وعبورها نحو المستقبل، إنّ الخطوة الأولى على صعيد نجاح الجهود العلمية والبحوث التاريخية والفقهية ووصولها إلى غاياتها تتمثل بتحريرها من سطوة الهالات والقداسات المصطنعة والخرافات والأساطير الملفقة التي تكبّل حركة البحث بتقديسها غير المقدس.
محاكمة التراث الخبري والتاريخي:
أجل، إننا في الوقت الذي ندعو فيه إلى تمزيق الهالات المزيفة ورفعها من أمام حركة البحث التاريخي أو غيره، فإن ذلك لا يعني رفضنا لمحاكمة النصوص التاريخية وفق معايير مبرهنة وضوابط ثابتة في محلها، لكن السؤال عن الميزان في ذلك؟ وإلى أي حد يمكن وضع سقف كلامي أو غيره يحكم البحث التاريخي ويتم في ضوئه رفض الروايات التي تتجاوز السقف المذكور؟ ولماذا لا نعكس الأمر فنجعل الرواية والحادثة التاريخية ميزاناً لقبول المفهوم الكلامي أو رفضه؟ أو قل: أنه كيف لنا أن نبني تصوراتنا الكلامية والعقدية بعيداً عن هذا التراث الخبري؟
والجواب: إنّ ثمة ثوابت عقيدية تم تبنيها استناداً إلى براهين عقلية أو نقلية قطعية سواء فيما يتصل بالله سبحانه وصفاته أو فيما يتصل بالنبي(ص) أو الإمام(ع) أو فيما يتصل بيوم المعاد أو ما إلى ذلك، ومن الطبيعي أن تمثّل هذه المسلمات سقفاً لا يمكن للقراءة التاريخية أو الفقهية أو سواها تجاوزه، ومن الأكيد أن تراثنا الخبري والتاريخي يضم مضامين تتنافى وأصل التوحيد أو العدل الإلهي أو عصمة النبي والإمام، وهكذا أخبار يتحتم رفضها أو تأويلها على الأقل، وعلى سبيل المثال: فقد روى عن أبي عبد الله(ع) أنه قال:" صلى علي(ع) بالناس على غير طهر وكانت الظهر، ثم دخل فخرج مناديه أن أمير المؤمنين(ع) صلى على غير طهر فأعيدوا، وليبلغ الشاهد الغائب" فهذا الخبر شاذ ويتنافى مع عصمة الإمام فلا بدّ من طرحه، كما اعترف ناقله الشيخ الطوسي(تهذيب الأحكام3/40) بينما استغرب السيد الخوئي رحمه الله نقل هذا الحديث ـ من قبل الشيخ والكليني ـ وذكره في كتب الحديث من رأس.
ولكن في المقابل فإن هناك قضايا عقدية اجتهادية قد تختلف فيها الأنظار بسبب عدم قطعية أدلتها وهي قضايا كثيرة، فهذه لا يمكن اعتبارها ميزاناً لمحاكمة التراث الخبري والتاريخي، بل إن هذا التراث قد يشكل مستنداً لهذه المفاهيم، وعلى سبيل المثال: إنّ الفكرة التي تطرح حول ضرورة أن يكون آباء النبي(ص) إلى آدم موحدين تفتقر إلى دليل حاسم ومقنع، فلا يمكن اعتبارها ميزاناً لرفض أو تأويل النصوص المعارضة، بل لا بدّ أن تؤخذ هذا النصوص ـ لا سيما القرآنية ـ في الاعتبار قبل حسم الموقف إزاء هذه الفكرة.
وفي هذا السياق يهمنا التنبيه إلى ضرورة أخذ التراث الروائي الفقهي بنظر الاعتبار، والاستفادة منه في بناء المفاهيم والتصورات العقدية، لأنه تراث زاخر ويضيء على حياتهم الشخصية.
اختلاط المناهج:
إلى ما تقدم فإنّ ثمة معضلة أخرى ـ مضافاً إلى مشكلة النظرة التقديسية للتراث ـ تعترض عملية البحث والتحقيق التاريخي، وهي معضلة الخلط بين التاريخي والعقدي من القضايا، حيث يتم ـ عن قصد أو غير قصد ـ إلباس بعض القضايا التاريخية لبوساً عقدياً يجعل من مقاربتها النقدية محاولة مسٍ بالعقيدة، وهذا فضلاً عن أنه يعبر عن خلل منهجي كبير، على اعتبار أنّ لكل علم منهجيته وأدواته في الأستنباط والاستدلال، فإنه أمر غاية في الخطورة لما يترتب عليه من إسراء أحكام القضايا العقدية إلى القضايا التاريخية.
فمثلاً: هل أن مسألة دفن الرؤوس الشريفة للإمام الحسين(ع) وصحابته إلى جانب الاجساد هي من المسائل العقدية أو التاريخية المحضة؟ وهكذا مسألة رجوع الإمام زين العابدين(ع) للصلاة على جسد أبيه الإمام الحسين(ع)؟
نعم لا شك أن بعض القضايا قد تختلف الأنظار في عدّها من مباحث هذا العلم أو ذاك، كما أنّ بعضها قد تكون ذات بعدين، فهي بلحاظ معين تعتبر مسألة كلامية، وبلحاظ آخر تعتبر مسألة تاريخية أو فقهية، وقد لاحظنا أن السيد محسن الأمين اعتبر أن مسألة أُميّة النبي(ص) هي أشبه بالقضايا التاريخية(أعيان الشيعة: 1/84).
ان الخلط بين موضوعات العلوم وما ينتج عنه من محاذير وسلبيات يفرض علينا تحديد الفوارق التي يتم في ضوئها فك الاشتباك بين ما هو عقدي وما هو فقهي أو تاريخي أو ما إلى ذلك، وهذا أمر غاية في الأهمية ربما نعود إليه في وقت لاحق.