حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
المراسم العاشورائية بين المشروعية والشعائرية
الشيخ حسين الخشن



إذا كان إحياء ذكرى الإمام الحسين(ع) أمراً لا جدال في مشروعيته ـ على الأقل لدى أتباع  مدرسة أهل البيت(ع) ـ بل إنه يبدو ملحاً وضرورياً لا لأنه يعبر عن أحد أشكال التواصل مع الإمام الرمز والمثل الأعلى فحسب، وإنما لأنّ لهذا الإحياء وظيفة رسالية وتغييرية من خلال مساهمته الفعالة في التعبئة الجماهيرية، إلاّ أنّ الجدل كان ولا يزال قائماً في بعض وسائل الإحياء ومدى مشروعيتها أو جدوائيتها، وأعتقد أن حديث المشروعية والجداوئية يجب أن يسبقه حديث عن الضوابط والأصول التي يفترض أن تحكم وسائل الإحياء.

 

وقفة مع المصطلح:

 

ربما يتوقف البعض عند مصطلح "الشعائر الحسينية" ليتساءل مستغرباً أو مستنكراً عن معنى كون الشعائر حسينية أي منسوبة إلى الإمام الحسين(ع)!؟ فإن الشعائر إنّما تنسب إلى الله سبحانه كما ورد في القرآن الكريم:{إن الصفا والمروة من شعائر الله}(البقرة:158) وفي آية أخرى: {والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله..}(الحج:32)، وفي آية ثالثة:{يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله...}(المائدة:2) وعليه فلا مسوّغ لنسبة الشعائر إلى النبي(ص) فضلاً عن الإمام(ع).

 

وفي الإجابة على هذا الاعتراض نقول: بأنه أقرب إلى الإشكال اللفظي، فإن نسبة الشعيرة إلى الإمام الحسين(ع) لا تنافي نسبتها إلى الله، فهي ما دامت معتمدة على حجة شرعية فيمكن نسبتها إلى الله سبحانه، وأمّا نسبتها إلى الإمام الحسين(ع) فباعتبار ارتباطها المباشر بذكراه وطريقة إحيائها، أي أنها تضاف إليه تمييزاً لها عما سواها من الشعائر، كما يقال: "الشعائر الإسلامية" تمييزاً لها عن الشعائر غير الإسلامية، وهكذا قد تستخدم عبارة "شعائر المذهب" بنفس الاعتبار، ولو أردنا الجمود على المصطلح القرآني ـ وهو جمود قد يكون له ما يبرره بلحاظ ما قد يبدو من عناية قرآنية في نسبة الشعائر لله ـ فالأنسب أن لا يستخدم مصطلح الشعائر منسوباً لغير الله مطلقاً بما في ذلك الأديان والأنبياء، دون أن يختص ذلك بخصوص النسبة إلى الإمام الحسين(ع).

 

الشعائر والتوقيفية:

 

أجل ثمة إشكالية أخرى في المقام ترتبط بأصل استخدام مصطلح الشعيرة مع صرف النظر عن توصيفها أو نسبتها لغير الله، وحاصل الإشكالية: إنّ إطلاق تسمية الشعيرة على وسائل وأساليب إحياء الذكرى إنْ تمّ استعماله كاصطلاح خاص أو بضربٍ من المسامحة والتجوّز فلا ضير في ذلك، وأما إنْ أريد به حقيقة الشعيرة فهذا قد يثير أمامنا شبهة التوقيفية، لأن شعائر الله ـ وهي كما تمّ تعريفها  أعلام دينه ومتعبداته التي أشعرها لعباده أي جعلها أعلاماً لهم، كما هو حال المناسك والمساجد والأنبياء والرسل... ـ أمور توقيفية كما هي الأحكام الشرعية والعبادات، وأمّا احتمال أن لا تكون الشعائر أمور توفيقية كما هو ظاهر بعض الفقهاء (وهو السيد محسن الحكيم الذي أكد أن الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان راجح شرعاً بل ربما يكون واجباً لا بعنوان الجزئية وإنما لأنها ـ أعني الشهادة الثالثة ـ أصبحت في هذه الاعصار معددة من شعائر الإيمان و"رمز التشيع" ما يعني أن الشعيرة يمكن تكونها بنظره بعيداً عن عصر  النص (مستمسك العروة الوثقى 5/545) فهو احتمال بعيد ولا يساعد عليه الدليل، لأن كون أمر من الأمور شعيرة وعلماً من أعلام الدين ليس في أيدي الناس بل لا بدّ من التنصيص على شعائريته من قبل الله سبحانه أو حججه على العباد ويوحي بذلك أن "الشعائر" لم تأت في القرآن إلا وهي مضافة إلى الله سبحانه كما أسلفنا، ومن هنا وجدنا أنّ الفقيه الكبير السيد الخوئي رحمه الله نفى "شعارية التطبير" معللاً ذلك بعدم النص على الشعارية (المسائل الشرعية 2/337)، فلا مفرّ إذن من الإلتزام بتوقيفية الشعائر، ومعنى التوقيفية هنا: أنه لا يمكن الحكم بشعائرية هذا العمل أو ذاك إلا إذا ورد النص بذلك. كما أنه وبمقتضى التوقيفية فلا بدّ من الجمود على المضمون الوارد في النص ولا يُسمح بتجاوزه والتصرف فيه زيادة أو نقصاً، الأمر الذي يخلق لنا مشكلة في المقام، لأنّه يقضي بالجمود على وسائل الإحياء المنصوصة وعدم إمكانية تطويرها فضلاً عن استحداث وسائل جديدة، فالنياحة ـ على سبيل المثال ـ والتي كانت تتم في زمن الأئمة(ع) بطريقة خاصة إذا اعتبرناها شعيرة فاللازم اعتماد نفس تلك الطريقة وعدم تجاوزها أو التصرف فيها، فإذا كان النائح في الزمن السابق ينشد الشعر بالعربية الفصحى وبأسلوب فني معين، فلا يصح للنائح اليوم ـ انسجاماً مع توقيفية الشعيرة ـ إنشاد الشعر باللهجة العامية فضلاً عن استخدام لغة أخرى، وهكذا لا يجوز له تجاوز طريقة الإنشاد.

 

والسؤال: كيف نوفق بين المرونة التي يفترض أن تتسم بها المراسم ووسائل الإحياء الأمر الذي لا ينسجم مع توقيفيتها، وبين افتراض أنها شعائر كما هو مشهور على ألسنة الخاصة والعامة ونصّ على ذلك الفقهاء(راجع على سبيل المثال كلام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في إجابة له على استفتاء بهذا الشأن في كتاب: فتاوى علماء الدين حول الشعائر الحسينية ص68 إعداد مؤسسة المنبر الحسيني).

 

الشعائر بين التوقيف والمرونة:

 

والحقيقية أننا أمام خيارين:

 

إما نفي شعائرية تلك المراسم وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام التطوير والتجديد المرجو والمطلوب، وإما الالتزام بشعائريتها وتوقيفيتها ما يعني الجمود على المنصوص منها وعدم إتاحة الفرصة أمام التطوير والتجديد.

 

لا سبيل إلى الثاني حتماً، لأنه جمود غير مبرر ولا مفهوم، ولذا لم يلتزم به أحد على الإطلاق، وأما الأول فالالتزام به قد لا يثير في وجهنا كبير مشكلة شرط الالتزام بمشروعية وسائل الإحياء ومطلوبيتها.

 

أجل يمكننا القول وبكل تأكيد: إن الحسين(ع) نفسه ـ كما الأنبياء والأئمة ـ شعيرة وعلم من أعلام دين الله، كما أن يوم استشهاده هو يوم من أيام الله، ومسؤوليتنا أن نُعظِّم تلك الشعيرة ونبجل ذلك اليوم امتثالاً لأمر الله تعالى:{ومن يُعظَّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج:32)، والتعظيم له وسائله ومنها النياحة أو مواكب العزاء أو اللطم، فهذه وأمثالها من أساليب تعظيم الشعيرة لا أنها الشعيرة عينها.

 

هذا وربما يستخدم في توصف هذه الأساليب مصطلح الشعار، والشعارية ـ خلافاً للشعائرية ـ مسألة متحركة ومرنة ويمكن تكونها بعد عصر النص وهذا الاستخدام لا محذور فيه، وبالأولى أن لا يثير مصطلح المراسم الحسينية أي تحفظ أو اعتراض في المقام.

 

وربما يتوهم البعض أن نفي الشعائرية أو التوقيفية عن المراسم العاشورائية يضعها مجدداً تحت سؤال المشروعية من رأس، كما ويفتح الباب من جهة أخرى أمام إمكانية إلغائها بذريعة عدم توقيفيتها، إلا أنّ  هذا الكلام لا يصغى إليه:

 

أولاً: لأن نفي الشعائرية لا يعني بوجه نفي المشروعية، فما أكثر الأمور المشروعة والمسنونة وربما الواجبة لكنها لم تصل إلى رتبة الشعارية ولم تتعنون بعنوان الشعائرية، أليست المضمضمة قبل الوضوء مثلاً مسنونة لكن هل يتخيل أحد أنها شعيرة؟ والأمثلة كثيرة، وغير خفي أنّ المراسم العاشورائية في الجملة قد ثبتت مشروعيتها، إمّا لتوفر نص خاص يؤكد ذلك كما هو الحال في البكاء والنياحة مثلاً، أو لاندراجها تحت عنوان عام ثابت المشروعية، كما لو انطبق عليها عنوان الإحياء أو تعظيم الشعائر.

 

ثانياً: وأمّا توهم أن نفي التوقيفية يفتح الباب أمام إلغاء المراسم أو تجميدها فهو زعم واهٍ جداً، لأن غالب المراسم المعروفة ما دام أنّ مشروعيتها وجدوائيتها ثابتة بالدليل فلا موجب لرفع اليد عنها أو إلغائها أو تجميدها، لا سيّما بملاحظة ما هو ظاهر  النصوص من العناية ببعض تلك الأساليب مما يوحي بالخصوصية التي قد تلامس حدّ التوقيفية بلحاظ المقصد والجوهر لا بلحاظ الآلية والوسيلة، أي أننا في حقيقة الأمر أمام خيار ثالث ـ مغاير للخيارين المتقدمين ـ يجمع بين توقيفية ـ أو لنقلْ شعائرية ـ المراسم وبين مرونتها، وهذا ما توضحه الفقرة التالية.

 

بين المبادئ والوسائل:

 

إن التأمل في النصوص الواردة في سياق الحث على إحياء ذكرى أبي عبدالله(ع) يلحظ تخطيطاً واعياً واهتماماً مركزاً يؤكد ربط القضية الحسينية بالجانب العاطفي في طريقة التفاعل معها، وتعتبر نصوص البكاء والإبكاء خير شاهد على ذلك، وهذا التأكيد على المنحى العاطفي والوجداني في أساليب إحياء الذكرى لا يعني التوقيفية المطلقة في وسائل الإحياء، وبالتالي فهو لا يلغي المرونة التي ينبغي أن تتسم بها تلك الوسائل بما يفتح الباب أمام تطوير الأساليب القديمة أو استحداث أساليب جديدة في الإحياء، والوجه في ذلك: أن تلك النصوص تؤكد على العاطفة كمبدأ في عملية الإحياء أما التعبير عن العاطفة فله وسائله المختلفة، وهنا ـ أعني في الوسائل ـ تكمن المرونة وإمكانية التطوير.

 

إذن نحن أمام مبدأ ووسيلة، والمبدأ يتسم بقدرٍ كبير من الثبات بينما الوسيلة تتسم بقدرٍ كبير من المرونة، وما نحن فيه له نظائر عديدة في المفاهيم الإسلامية، كما في موضوع إعداد القوة في مواجهة الأعداء، فإنّ مبدأ القوة يمتلك ثباتاً في العنوان ومرونة في التطبيق من خلال استجابته لكل عناصر القوة المستجدة، وهكذا الحال في عنوان "العِشرة بالمعروف" الوارد في مسألة التعامل مع الزوجة.

 

يبقى أنه لماذا هذا التركيز على المنحى العاطفي في إحياء الذكرى؟ ولماذ لا يتم استعادة المناسبة بطريقة عقلائية تستلهم الدروس والعبر بعيداً عن أسلوب الإثارة العاطفية، هكذا قد يتساءل البعض؟ هذا ما نعرض للإجابه عليه في مقال لاحق بعون الله تعالى.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon