خلافة الله وحفظ النظام الكوني
الشيخ حسين الخشن
لم يعرف تاريخ البشرية فترة زمنية تمكّن الإنسان فيها من الإمساك بزمام الطبيعة وقهرها لإرادته، كما عليه الحال في عصرنا هذا، عصر النهضة العلمية التي مكنت الإنسان من فهم الطبيعة واكتشاف أسرارها والتعرف على قوانينها الحاكمة وتفسير ظواهرها وأحداثها.
ولكن الحق يقال: إنّ الطبيعة لم تتعرض في كل تاريخها لهذا العدوان الشرس الذي يلتهم طاقاتها ويستنـزف مواردها ويلوث أجواءها وكل عناصرها، الأمر الذي جعل الحياة على هذا الكوكب محفوفة بالمخاطر بما جنته يدا الإنسان، ولا تزال الدراسات العلمية تطالعنا كل يوم بعدوان جديد، وليس آخر هذه الاعتداءات ما يعرف بـ "ثقب الأوزون" أو "الاحتباس الحراري" وما إلى ذلك من أرقام وأحداث مخيفة تشكل تحدياً كبيراً في وجه الإنسان، ما يفرض استنفاراً كاملاً على كافة الأصعدة القانونية والعلمية والتربوية والإعلامية... بغية وضع حد لهذه الوحشية التي تفترس الحياة بكل معانيها ومراتبها، دون أن يعني ذلك رفض التقنية الحديثة والعودة بعجلة الحياة إلى الوراء.
وفيما أرى أنّ المدخل الأساسي الذي لا بد أن يسبق الحديث عن المنظومة القانونية الحقوقية التي تحدد الأنشطة الإنسانية الجائزة أو الممنوعة فيما يرتبط بالنظام البيئي، هو بيان الرؤية النظرية حول دور الإنسان في الحياة وموقعه من النظام الكوني، وأهمية هذه الرؤية أنها تشكل ناظماً لحركة الإنسان، وإطاراً للمنظومة الحقوقية المشار إليها، وما يعنيني هنا هو الحديث عن الرؤية الإسلامية في هذا المجال.
الأرض: عنصر استقرار: وفق المنطق القرآني فقد خلق الله الأرض وزوّدها بكل عناصر الحياة في إطار مجموعة من القوانين المحكمة بعيداً عن اللهو والعبث والمصادفة، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ}(الحجر:85)، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}(الأنبياء:16)، وقد جاءت كل الاكتشافات العلميّة لتؤكد هذه الحقيقة وتظهر بما لا يدع مجالاً للشك ابتناء النظام الكوني على منطق السنن المتجانسة والقوانين المحكمة التي لا يعتورها نقص أو يشوبها خلل {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}(السجدة:7)، {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}(النمل:88)، ومن مظاهر الإتقان والإحكام ما يلاحظ من أن الكرة الأرضية ورغم حركتها الدائمة فإنها تبدو مستقرة ساكنة لا يشعر قاطنوها بهذه الحركة، فهي أشبه بمهد الطفل الذي يهتز بهدوء ما يُشعر الطفل بالأمن والأنس. وقد تنوعت وتعددت التعابير القرآنية عن هذه الحقيقة، فتارة يُعبِّر سبحانه وتعالى عن الأرض بأنها قرار {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا}(النمل:61)، {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}(غافر:64)، وأخرى بأنها فراش {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا}(البقرة:22)، {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ}(الذاريات:48)، وثالثة بأنها مهاد {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}(النَّبأ:6)، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(الزُّخرف:10)، ورابعة بأنها بساط {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}(نوح:19) إلى غير ذلك من التعابير.
وهكذا فقد تضافرت الآيات القرآنية التي تتحدث عن تزويد الله سبحانه الأرض أو الفضاء الكوني بكافة العناصر التي تحفظ استقراره وتوازنه، بما يكفل الحياة الهانئة لكل الكائنات، من هذه العناصر: الجبال {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}(النحل:15)، ومنها: الماء {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(الأنبياء:30)، وهكذا الأنهار {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا}(النمل:61)، ومنها: السماء {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}(الأنبياء:32)، ومنها: النجوم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ...}(الأنعام:97)، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا...}(يونس:5).
وقد شاءت العناية الإلهية إضفاء مسحة من الجمال والجلال على الأرض وما يحيط بها، فأينما تطلعت الباصرة وامتدت اللامسة فسوف تدهشها الروعة ويبهرها الحسن والجمال، وتذعن للفكرة القائلة: إنّه ليس بالإمكان أفضل مما كان، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(ق:6).
الاستخلاف ومتطلباته: أمام هذا النظام الكوني المتناسق وما فيه من إحكام وإتقان، وروعة وجمال يطرح السؤال التالي نفسه: ما هو دور الإنسان في هذا النظام هل هو دور السلطان الذي يتصرّف في مملكته كما يحلو له؟ وهل أطلق الخالق يده ليعبث في هذا الكون ويخلّ بتوازنه ويشوّه جماله ويدمر الأخضر واليابس؟ أم أنه وضع له برنامجاً لا يجوز له تخطيه، ورسم له خطة طريق لا يجوز لها تجاوزها؟
من الواضح أن الرؤية القرآنية ترتكز على اعتبار الإنسان خليفة الله على الأرض، وقد اختاره الله لهذه المهمة بسبب ما يمتلكه من مؤهلات وطاقات تجعله الأقدر على الإبداع والتطور، كما وتجعله الأكفأ من بين سائر المخلوقات للنهوض بأعباء هذه المهمة الجليلة، أعني مهمة خلافة الله، وذلك على الرغم من اعتراض الملائكة العفوي على هذا الاختيار، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(البقرة:30). لكن هذه المهمة ليست مهمة تشريعية بقدر ما هي تكليفية، وليست منصباً بالمعنى السلطوي، وإنما هي اختيار لحمل الرسالة والأمانة التي عجزت السماوات والأرض عن حملها {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب:72).
إن للخلافة متطلبات ومتقضيات من أهمها رعاية الخليفة للأمانة التي عُهد إليه بحفظها، ما يعني أن الخلافة تتلازم مع المسؤولية ولا تنفك عنها «اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم»(نهج البلاغة)، فإذا انحرف الإنسان عن خط المسؤولية فأفسد في الأرض وعبث بمقدراتها وأخرجها عن وظيفتها التكوينية كمهاد ومستقر يكون بذلك خائناً للأمانة وخارجاً عن مقتضى الخلافة.
التسخير والعبث: أجل أن من شؤون الخلافة ومتطلباتها منح الخليفة حق الإشراف والسيطرة على الأرض، وإطلاق يده في التصرف الهادف، وكذلك لا بد أن يمنح حق الانتفاع بطاقاتها وخيراتها، وهذا ما تكفل به الله سبحانه، فأعدّ الأرض وذللها لصالح الخليفة وجعلها طيّعة ومنقادة لإرادته، يستفيد من خيراتها، ويستعين بها على تحسين حياته وظروف معاشه، وهذا هو المراد بالتسخير الوارد في القرآن الكريم، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}(لقمان:20)، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك:15)، إلى غير ذلك من الآيات، إلاّ أن التسخير لا يعني بحال من الأحوال منح الخليفة سلطة على إفساد الكون والعبث بنواميسه وتدمير طاقاته، أو إخراج الأرض عن وظيفتها كمقر آمن وقابل للحياة ومحتضنٍ للمشروع الإلهي في إقامة العدل بما يهيئ للخليفة بلوغ الكمال المعنوي والمادي والعيش بكرامة وحرية، وفي ضوء ذلك يتضح أن التسخير هو امتنان على الإنسانية بجميع أجيالها وليس على جيل بعينه، وبالتالي فالطاقات المودعة في هذه الأرض ليست ملكاً لجيل دون غيره، بل هي ملك للبشرية جمعاء، ما يعني أنّ تصرف أي جيل في هذه الطاقات واستهلاكه لموارد الطبيعة لا يجوز أن يؤثر على قدرة الأرض على التجدد بما يحول دون استفادة الأجيال القادمة.
وخلاصة القول: إن تصرف الخليفة في الأرض واستفادته من طاقاتها هو أمرٌ مشروع بلا ريب، شريطة أن لا يكون تصرفاً تدميرياً عبثياً يؤثر على حق الأجيال اللاحقة في الاستفادة منها، أو يجعل إمكانية الحياة عليها صعبة أو يؤدي إلى فناء الأجناس الحيوانية وانقراضها... فهذه التصرفات العدوانية وأمثالها ـ سواء تحققت بشكل دفعي أو تدريجي ـ غير مسموح، بها لأنها خروج عن مقتضى الخلافة وضوابطها، وللحديث صلة.