سمات العقل التقديسي وآفاته
الشيخ حسين الخشن
تحدثنا في مقال سابق عن التأثيرات السلبية لحالة الجمود أو الركود التي أصابت علم الكلام على حيوية علم الفقه، لما بين العلمين من تفاعل وترابط، والحقيقة أنّ علم الكلام في وضعيته التاريخية وابتنائه على صياغات نظرية وأطر فكرية معينة لم يترك تأثيره سلباً أو إيجاباً على علم الفقه فحسب وإنما على مجمل الحركة الفكرية في الفضاء الإسلامي، كما على الواقع الإسلامي برمته في عملية نهوضه وتحرره وتماسكه وتقدمه نحو الأفضل.
وأخال أن التقليد الذي ساد في المجال الفقهي لظروف سياسية أو غيرها هو الذي هيّأ الذهنية الإسلامية العامة لتقبل التقليد في الحقل الكلامي وهكذا تمدد أو انزاح مفهوم التقليد إلى سائر الحقول المعرفية، فألف المسلمون التقليد واعتادوه، الأمر الذي أصابهم بالركود والشلل، وترافق ذلك مع حصول التباس بين مفهومي الابداع والابتداع، فتمّ التوقف أمام كل كشف أو تطور جديد ـ إن لم تقل محاربته ـ بحجة أنه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، في غفلة بيّنة عن الفارق الكبير بين الابتداع المذموم وهو الابتداع في الدين زيادة أو نقصاً، وبين الابداع المطلوب والمحمود وهو الابداع في علوم النص وعلوم الحياة والسعي لإمتلاك المعرفة واكتشاف مجاهل الكون وأسراره.
تقديس غير المقدس:
إنّ حالة الركود التي أنتجها مناخ التقليد المذكور كان لها تداعيات كبيرة وخطيرة، ليس على واقع الأمة التي أصابها الشلل والركود فحسب، بل على العقلية الإسلامية أيضاً التي تمت محاصرتها ووضع إطار مرجعي لها مستولد من عصر التقليد المذكور. هذا العصر الذي جرى تقديسه بطريقة منقطعة النظير ما منع من خروج الباحث المسلم عليه بل من التفكير في الخروج عليه، وعلى أمل العودة إلى هذا الموضوع الحساس في مقال لاحق يهمني الآن التركيز على علاقة التقليد بالمقدس، لأن مناخ التقليد ساهم في انتاج ذهنية تقدس غير المقدس، ولعل التقديس هو نتاج طبيعي لمناخ التقليد لأن أية فكرة أو عقيدة تمضي عليها السنون دون مراجعة نقدية ستتحول إلى ثابت ومقدس في الذهن العام بما في ذلك ذهن العلماء الذين هم جزء من المزاج العام، وإذا ما تفطن فقيه أو متكلم إلى وهن تلك الفكرة أو العقيدة يصعب عليه نقدها فضلاً عن رفضها، إما انسياقاً مع العقل الجمعي أو المزاج العام، وإمّا مداراة لمشاعر الجمهور العام الذي أدرج الفكرة في نطاق المقدس ودخلت إلى وجدانه الديني، ولعل من الأمثلة الواضحة على ذلك أنك ترى فقيهاً معاصراً يضفي هالة من القداسة على بعض العلامات والرموز التي تحمل في مواكب العزاء في إيران وهي آلة تحمل بعض الرسوم وعليها بعض التماثيل، فتراه ـ عندما يُسأل عن مشروعيتها ـ يدرجها في عداد الشعائر، والشعائر بحكم قدسيتها وتوقيفيتها لا يجوز الخروج عليها وتعديلها فضلاً عن إلغائها.
في الأسباب:
ليس الجهل أو الركود العلمي الذي ينتجه مناخ التقليد هو وحده الذي يضفي على بعض الأفكار أو الأشخاص أو الأشياء صفة القداسة مع مرور الوقت، بل إن القهر أو الحصار هو سبب آخر لذلك، لما يتركه من شعور بالمظلومية، وهو شعور حار يزيد المرء إصراراً على التعلق بالممنوع ووضعه موضع القداسة والحؤول دون الاقتراب منه بطريقة نقدية وإلا رُمي الناقد بالتقصير أو التضليل أو التكفير.
وأعتقد أن المظلومية التي تعرض لها أهل البيت(ع) في الوقت التي كرست محبتهم في النفوس وخلقت لدى أصحابهم عشقاً وتفانياً منقطع النظير فإنها أحيطت بالكثير من الأفكار والاعتقادات المثيرة للجدل حولهم، وحالت دون مناقشة بعض القضايا المتصلة بسيرتهم وملامستها بطريقة نقدية، ألم تبق الكثير من مجريات وأحداث يوم عاشوراء ـ على سبيل المثال ـ بعيدة عن النقد والدراسة الموضوعية بسبب محاذرة الباحث والمحقق من التوصل إلى قناعة مغايرة لما هو السائد، وإذا تجرأ محقق أو مفكر ونَقَدَ قضيةً معينة وناقش في وقوعها فإنه قد يتعرض للطعن والشتم وربما اللعن... كما حصل مع العلامة السيد محسن الأمين فيما أبداه من آراء جرئية حول المجالس والشعائر الحسينية وضرورة إصلاحها وتهذيبها مما علق بها من أكاذيب وخرافات بشكل تراكمي، والأمر عينه جرى مع أعلام آخرين..
وثمة سبب ثالث ساهم في صناعة المقدس وتشكله وهو انشداد الأمة لا سيما المهزومة أو الضعيفة إلى الماضي وأمجاده وهي حالة لا شعورية تسيطر على المهزوم وتجعله ـ هرباً من ضغوط الحاضر وآلامه ـ يلوذ بالماضي وانتصارته ويعلي من شأن المرحلة التأسيسية لما يرافقها في العادة من طهر وصفاء، وهذا الانشداد أو الميل نحو الماضي لا يقتصر على المسلمين بل هو ميل عام تجده لدى اتباع سائر الأديان وحركات التغيير والتحرر.
وهو ـ أقصد الميل المذكور ـ يمهد بطبيعته ـ وفي ظل انعدام المراجعة النقدية ـ للخضوع الطوعي لأفكار السلف الأوائل وآرائهم ومحاذرة الخروج على مسلمات العصر الأول.
وعلى أساس هذا الميل يمكن تفسير أو تفهم إصرار البعض على التمسك بالأفكار أو الاعتقادات التي تقدس السلف وتعلي من شأنهم، كفكرة أو عقيدة عدالة الصحابة جميعاً، هذه الفكرة التي شكلت عائقاً أمام دراسة تاريخ هؤلاء ومعرفة أدوراهم وصراعاتهم، إننا لا نمانع من احترام وتقدير السلف الصالح من الصحابة أو التابعين أو العلماء، لكن الاحترام أمر والتقديس أمر آخر، إن التقديس يفرض الخضوع والانقياد التام لهم وهو أمر غير منطقي بعد فرض عدم عصمتهم عن الخطأ.
التوسع في المقدس كماً وكيفاً:
إن ما تقدم لا يعني بحال التنكر لمبدأ المقدس وأهميه امتلاك الإنسان لرموز أو عناوين مقدسة، لكن ما يجدر التنبيه عليه أن منشأ القداسة ـ في الإسلام ـ هو الله، وتقديس غيره هو بمقدار قربه منه وليس عبثاً، فهو عندما يمنح القداسة لإنسان فبسبب إمتلاكه المؤهلات التي تجعله في موقع العناية الإلهية، كالأنبياء والأولياء، كما أنه تعالى عندما يضفي القداسة على بعض الأزمنة ـ كشهر رمضان أو ليلة القدر ـ أو الأمكنة ـ كالكعبة أو المسجد ـ فلتميّزها بحصول بعض الأحداث الروحية والدينية فيها، وعليه فأمر المقدس وفق عقيدة التوحيد بيد الله وليس للناس أن يتلاعبوا به أو يضيفوا عليه، كما حصل فعلاً في تاريخ الأديان حيث جرى التوسع الكمي والكيفي في شأن المقدس حيث أن بعض الرموز اصطنعت لها القداسة وهي لا تمت إلى ذلك بصلة، كما أنه في حالات أخرى تمت توسعه بقعة القداسة لتضم إلى المقدس نفسه كل ما يحيط به من أولاد وأحفاد ـ كما تعامل بعض العلماء مع أبناء البيت النبوي حيث ترى حرصاً شديداً ومبالغاً به على تنزيههم بل إضفاء نوع من العصمة على بعضهم ـ أو لتشمل كل ما يتصل بجسد المقدس الإنسان وما يفرزه هذا الجسد من فضلات، كما هو الحال في الحديث القديم الجديد حول طهارة بول النبي أو دمه فيما جرى حوله الجدل مؤخراً عبر وسائل الإعلام في مصر وغيرها، وهو جدل يمكن في أحسن الأحوال تصنيفه في دائرة الفضول من الكلام أو العلوم التي لا تنفع من علمها ولا تضر من جهلها...
العقل التقديسي والنقدي:
إن الضحية الأولى للعقل التقديسي أو المناخ الذي تسود فيه ذهنية القداسة هي الحقيقة والموضوعية، لأن التعاطي مع التاريخ وأحداثه والتراث ومضامينه وفق رمزية المقدس ستشكل ـ لا محالة ـ عائقاً وسداً منيعاً أمام حركة البحث الموضوعي الجاد والهادف، إن على الصعيد التاريخي أو الفقهي أو الكلامي، لأن العقل المهجوس أو المسكون بالمقدس لا يقرأ الوقائع كما هي، لأن هالة المقدس تحجبه عن بلوغ الحقيقة، كما أنه لا يقرأ النص بطريقة سوية بل بطريقة مزاجية تلوي عنق النص بما ينجسم مع مسبقاته، وهو أيضاً يمارس انتقائية في الاستشهاد بالنصوص مختاراً منها ما يتلاءم مع أفكاره ويغض الطرف عن بقيتها، كما نلاحظ ذلك في تعاطي البعض مع موضوع الولاية التكوينية فإنه لا يذكر في بحثه العلمي من أدلتها إلا ما يدل ـ بزعمه ـ على الولاية ويغفل الادلة المعارضة، مع أن الموضوعية تقضي باستعراض الأدلة من الجانبين ثم الموازنة بينها.
باختصار: إن التقديس المبالغ به يؤشر إلى انحسار دور العقل، لأن سيطرة "العقل التقديسي" تكون على حساب العقل النقدي، والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن يتم تفسير الأحداث والظواهر تفسيراً غيبياً وتعبدياً بعيداً عن منطق الأسباب والمسببات، مع أن الحدث المراد تفسيره قد لا يكون ذا طابع غيبي أو تعبدي وليس هو معجزة أو كرامة، وإنما له تفسير علمي مفهوم لدى أهله، وهكذا يُكثر صاحب العقل التقديسي من الاعتماد على النقول والروايات مع صرف النظر عن وثاقتها وانسجامها مع معطيات العقول وصحيح المنقول، كما يلاحظ في الكثير من مؤلفات المعاجز والكرامات التي شحنها مؤلفوها بالغث والسمين والمعقول وغير المعقول...