حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
موقعية العقل في الميزان الإسلامي
الشيخ حسين الخشن



 

 من المفترض أن تكون مرجعية العقل في مجال الاجتهاد الكلامي من المسلمات التي لا نقاش فيها حتى لدى أصحاب المنهج النصوصي، لأن النص لا يُثبت حجية نفسه إلاّ على نحو دوري كما هو واضح، وهذه النقطة تمثّل أحد وجوه الفرق بين علمي الفقه والكلام، ففي حين يُعتبر "الكلام" من العلوم البرهانية التي يُمثِّل العقل فيها مساحة كبيرة، فإن الفقه يعتمد على النص بشكل رئيسي، ويحتل العقل فيه دوراً هامشياً، لدرجة أنّ بعض الفقهاء لم ير في الأحكام الشرعية ما يتوقف على استدلال عقلي.(الفتاوى الواضحة للشهيد الصدر).

 

العقل بين النص الديني والتجربة الدينية:

 

لم يُعهد أن شريعة من الشرائع السماوية التي سبقت الإسلام اعتمدت العقل في إيمانها وتدينها وبنائها العقدي، كما هو الحال في الإسلام، ففي الوقت الذي شاع لدى علماء اللاهوت المسيحيين وضع الإيمان في خط مواز ومقابل للعقل، كما هو صريح كلام القديس Anselme(033 -1 -1109) رئيس أساقفة أنتربري "يجب أن تعتقد أولاً بما يعرض على قلبك بدون نظر، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان في حاجة إلى نظر عقل"(العرب والتحدي  لمحمد عمارة 102)، نجد أن الإسلام قد انحاز للعقل وبنى منظومته الإيمانية والعقدية على أساس المنطق والبرهان ولسان حاله ومقاله دوماً {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فالعقل هو الحجة بين الله وعباده، وهو دليل معرفة الله ووحدانيته وعلمه وقدرته وحياته.. كما أنه دليل إثبات النبوة ويوم المعاد إلى غير ذلك من العقائد، ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليدرك انتصار القرآن للعقل والتعقل والعقلاء، فالآيات التي تمتدح عمل العقل كثيرة من قبيل قوله تعالى:{أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج:46) أو قوله حكايةً عن أهل النار {وقالوا لو كنا نعقل أو نسمع ما كنا في أصحاب السعير}(الملك:67)... إلى مصطلح العقل ثمة مصطلحات أخرى مرادفة له كمصطلح "اللب" و"النهية" وردت في القرآن في سياق المدح، ونحو ذلك آيات التفكر والتأمل والتدبر والاعتبار... هذا في الكتاب، أمّا السنة فحديثها عن العقل وامتداحها له واعتباره الحجة بين الله وخلقه حديث مستفيض ومعروف..

 

أجل إن تجربة المسلمين مع العقل لم تكن ناصعة نصوع النصوص المذكورة، وإنما شهدت مداً وجزراً، فقد طلعت علينا بعض الفرق الإسلامية في خضم العراك الفكري الكلامي برفض مرجعية العقل ونفي قدرته على اكتشاف حسن الأشياء أو قبحها، وهذا في الحقيقة مثّل إحدى النكسات التي أصابت من العقل الإسلامي مقتلاً، لأن إنكار مرجعية العقل أو قدرته على اكتشاف حسن الأشياء أو قبحها أو إنكار حجيته  على أقل تقدير أثّر سلباً على حيوية علم الكلام، وشُغل المسلمون في جدل لم تنتهِ فصوله إلى اليوم حول "شرعية أو عقلية الحسن والقبح" وهو جدل مستنزف للطاقات في بعض وجوهه، ومانع أو حائل ـ  ولو جزئياً ـ دون البناء والتأسيس على مبدأ "الحسن والقبح العقليين" بغية الانطلاق إلى فضاءات جديدة تستهدي العقل وتسترشده.

 

وبالرغم من ذلك فإن هذا الموقف السلبي لم يعطل العقل الإسلامي تماماً، لأن هذا العقل عصي على التعطيل، ولذا ظل الفكر الإمامي والمعتزلي حارساً أميناً ومدافعاً مخلصاً عن مرجعية العقل، فضلاً عن قدرته على اكتشاف حسن الأشياء وقبحها، وكونه ميزاناً للتكليف، وللثواب والعقاب أيضاً.

 

مكبلات العقل:

 

ولعل أهم ما يمتدحه الإسلام في العقل هو فعل التأمل والتدبر المستمر والتفكير الحر والمجرد، إنه يقدس العقل النقدي الذي لا ينفك عن الحراك ولا يستسلم للأمر الواقع ولا يتهيب الإبداع والتجديد، ولا يتجمد في حدود ما "عقله" السلف أو استنبطوه، إن خاصية القلق المعرفي هي التي تمنح العقل فاعليته وحيويته وتجعل منه طاقة ابداع متدفقة لا ينضب معينها.

 

أمّا العقل المحاصر بالنزعة النصوصية والمثقل بسطوة آراء السلف والمسكون بهاجس الإجماع والشهرة، والمكبل بأصفاد التفكير الجمعي أو بأغلال المصالح والغرائز والهوى، والمثخن بسياط التفكير والتعنيف، أمّا هذا فهو عقل مسترخ مستقيل لا يتوقع منه إبداع ولا يرجى منه تغيير، فهو يعيش في سبات عميق وعلينا أن نستعيذ منه كما استعاذ علي(ع) في قوله:" نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل".

 

نعم لربما أخذ البعض على عقل المتكلم أنه عقل دفاعي تبريري يدافع عن العقيدة ويحرسها ولا يستطيع الخروج على مسلماتها، خلافاً لعقل الفيلسوف المتحرر من أية قيود. ولكن يمكن التعليق على ذلك بأن المتكلم إذا كان ينطلق في دفاعه عن العقيدة من موقع الإخلاص والإيمان الذي ساقه عقله إليه فهو ينسجم مع نفسه وقناعاته العقلية، ولا يضيره والحال هذه أن يوسم عقله بأنه تبريري أو دفاعي.

 

العقل الفطري والمكتسب:

 

الحديث عن عقل مكبل وآخر نقدي يقودنا إلى تقسيم آخر للعقل: وهو تقسيمه إلى:

 

1 ـ العقل الفطري: وهو الذي خلقه الله في الإنسان وميّزه به عن العجماوات، وهو عقل يتسم بالصفاء والنفاذ، ولديه قدرة عاليه على تمييز الحَسَن من القبيح سواءً في الأفكار أو المفاهيم أو الأفعال.

 

2 ـ العقل الثقافي وهو عقل يكتسبه صاحبه من تجاربه في الحياة، ويمكنه تنميته بالأنشطة الفكرية، ويتأثر هذا العقل ببيئة الإنسان وأفقه الذهني ومناخه الثقافي وظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولذا قد تتفاوت أحكامه من زمن لآخر أو من بيئة لأخرى، والعقل الفطري هو المرجع والأصل للعقل الثقافي المكتسب، فهو الذي يضبط إيقاعه و"يَعْقِلُه" عن الزيغ أو التمادي مع الهوى.

 

والتقسيم المذكور للعقل موروث عن الإمام أمير المؤمنين(ع) فقد روي عنه شعراً:

 

رأيت العقل عقلين        فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع            إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس        وضوء العين ممنوع

 

 (نهج السعادة 8/174).

 

ويجدر بنا التنبيه إلى أن مرجعية العقل الفطري أو المطبوع كما عبّر علي(ع) لا تمنح العقل عصمة عن الانحراف، فقد يعلوه الغبش وتلوثّه العادات السيئة، كما يلمح إلى ذلك الحديث النبوي "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه" لكن قدرته على التأمل والتدبر ـ إذا ما استثمرت ـ فإنها تمكنه من تصحيح المسار ونفض الغبار المتراكم بفعل المؤثرات الخارجية، قال تعالى:{ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جِنَّة..} كما أن إحدى مهام الأنبياء هي المساعدة على استخراج كنوز العقول ومكنوناتها كما أشار إليه الإمام علي(ع) في أول خطبة من خطب النهج قال: "فبعث ـ أي الله ـ فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول..".

 

وأمّا العقل الثقافي المكتسب أو المسموع فإن حجيته تبقى رهن أمرين: تحرره من المكبلات والمؤثرات المشار إليها. وأن تكون نتائجه يقينية.

 

وفي كل الأحوال: فالنشاط العقلي لا يتجمد في أطر محددة ولا تحكمه قوالب ثابتة في حدود ما اكتشفه الأقدمون وأنتجوه، بل هو قابل للتطوير والتعديل سواءً في آليات ومصادر إنتاجه، أو في وسائل استثماره وتفعيله، فالجمود على مصادر المعرفة وآليات التفكير الموروثة عن المنطق الأرسطي جمود غير مبرر، بل هو جمود معطّل ومكبِّل للعقل الإسلامي وقد كلّف الكثير من الخسائر الفادحة.

 

مجالات العقل:

 

بالرغم من أن مرجعية العقل في الأصول العقدية واضحة تمام الوضوح ولا شك فيها بيد أن لها استثناءً وحيداً لا بدّ من التنبيه عليه وهو ما يرتبط ببعض المغيبات من قبيل: حساب القبر وعقباته ومنازل الآخرة ومجرياتها، ومواصفات الجنة والنار، وما إلى ذلك من القضايا التي لا سبيل إلى معرفتها إلاّ من خلال الوحي وإن كان العقل لا ينفيها.

 

وفي هذا الصدد يمكن تقسيم القضايا العقدية باعتبار مصدر إثباتها إلى ثلاثة نطاقات:

 

1 ـ المختصات العقلية: وهي القضايا الثابتة بالبرهان العقلي ولا مجال لإثباتها بالنقل، كما هو الحال في مسألة وجود الله ووحدانيته وعدالته وسائر صفاته، أو مسألة النبوة العامة، أي ضرورة إرسال الرسل، ويذكر الإمام الخميني(رحمه الله) المعاد الجسماني في عداد القضايا العقلية الصرفة (أنوار الهداية 2/142). مع أن ثمة طريقاً آخر لإثبات المعاد غير البرهان العقلي وهو الوحي.

 

2 ـ المختصات الدينية: وهي القضايا التي لا مجال لإثباتها بالعقل من قبيل ما تقدم ذكره حول تفاصيل يوم القيامة.. ويذكر بعضهم الوحي والعلم اللّدني في عداد هذا القسم(أصول المعارف الإنسانية 138).

 

3 ـ المشتركات بين العقل والوحي: ويندرج في هذا القسم الكثير من القضايا العقدية، كما في قضية الإمامة أو المعاد أو العصمة أو ما إلى ذلك.

 

وهكذا يتضح أنّ النسبة بين ما يثبت بالعقل وما يثبت بالوحي هي نسبة العموم من وجه، أي أن لهما مادة اجتماع ومادتي افتراق(راجع أصول المعارف الإنسانية 135 وما بعدها).

 

"روحنة" العقل:

 

إننا على الرغم من تأكيدنا على مرجعية العقل في الاستدلال الكلامي، فإنّ لنا ملاحظة نسجلها في المقام وهي أنّ المنهج العقلي المذكور وعلى الرغم من مساهمته في بناء علم الكلام إذ بدونه ما اكتمل هذا العلم ولا استطاع النهوض بالأعباء الموكولة إليه، أعنى بذلك مهمة تأصيل العقائد الإسلامية وحراستها والدفاع عنها أمام موجات التحريف والتشويه الداخلي والخارجي، بيد أن إغراقه في الجهد الفلسفي البحت أفقده حيويته وتأثيره وأسس لنزعة تجريدية نأت بالعلم المذكور عن هموم الفرد المسلم وتطلعاته وابتعدت عن ملامسة مشاعره، فإن طموح كل فرد مسلم أن يشعر قلبه ببرد الإيمان كما أيقن عقله بساطع البرهان، وهذا الطموح لم يستطع علم الكلام التقليدي أن يقوم بتلبيته " إذ ما الذي يمكن أن يعنيه لدى هذا المسلم القول ـ مثلاً ـ إن الله وجود محض واجب الوجود وأنه عالم بعلم هو عين ذاته أو بعلمٍ ليس هو عين ذاته.."(أسس التقدم عند مفكري الإسلامي192).

 

المطلوب من علم الكلام أن يبنى لنا عقيدة حية، فاعلة ومؤثرة، لكنه مع الأسف تحوّل إلى فن الكلام أو "صنعة كلام" كما يحلو للغزالي تسميته في "المنقذ من الضلال" وإن نظرة سريعة على أهم المصادر الكلامية تشهد بهذا التحول المفجع لعلم الكلام من علم حي إلى مجرد "صنعة"، فلو نظرنا إلى شرح المقاصد للتفنازاني أو شرح المواقف للجرجاني أو شرح التجريد للعلامة الحلي لألفينا مبحث الإلهيات بالمعنى الأخص ـ وهو المطلوب بالذات أو قل هو ذو المقدمة ـ لا يتجاوز ربع الكتاب قياساً على المباحث العقلية والفلسفية التي تضمنتها هذه الكتب كمباحث الوجود والماهية والجوهر والعرض وما إلى ذلك من المباحث التي قد يشكل بعضها مقدمات ضرورية لمبحث الإلهيات لكن الكثير منها لا تعدو أن تكون مجرد مشاغل ذهنية وهموم عقلية بحتة لا صلة لها بعقيدة المسلم وحياته فهي أشبه بميدان يتبارى فيه علماء الكلام لإبراز مواهبهم وقدراتهم العقلية.

 

نزعتان مضادتان:

 

إنّ المنحى الفلسفي المذكور والذي طغى على علم الكلام أسهم في إنتاج أو تعزيز نزعتين مضادتين له جاءتا كردة فعل على إيغال علم الكلام في النزوع نحو التجريد:

 

وأولى هاتين النزعتين هي النزعة الصوفية التي خاطبت في الإنسان المؤمن قلبه ومشاعره بعيداً عن أسر المصطلحات وثقلها.

 

 النزعة الثانية: هي النزعة الإخبارية التي بالغت في الاعتماد على أخبار الآحاد وغالت في رفض المنهج العقلي وهجرت كل المصطلحات الفلسفية، وقد أمكن لهذه النزعة الإخبارية أن تتسلل لا شعورياً إلى عقول الكثير من العلماء بفعل الركود الكلامي وسيطرة الذهنية الفقهية، ولذا "أفتى"  الكثير من الفقهاء في المفاهيم العقدية اعتماداً على أخبار لا تورث علماً ولا اطمئناناً.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon