حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
مبدأ الرمزية في تفسير النص الديني
الشيخ حسين الخشن



 

 يمثل الاعتماد على الظهور حجر الزاوية في مهمة قراءة النص واستكناه معناه لدى عقلاء البشر كافة، فالبناء العقلائي مستقر على الأخذ بالظواهر الكتابية أو الشفاهية، والناس يتخاطبون ويتحاورون ويحاجّ بعضهم البعض وفق ما يظهر لهم من الكلام، وكذلك يقرأون الوصايا والتقارير والوثائق في ضوء ذلك، والله سبحانه وهو سيد العقلاء لم يخترع طريقة خاصة يخاطب بها خلقه، وإنما كلمهم بنفس اللغة التي يفهمونها ويتخاطبون بها، ولا يكاد يختلف في ذلك اثنان من علماء المسلمين، ولذا فسروا كلام الله على أساس ما يستظهرونه منه، وبنوا منظومتهم التشريعية والفكرية على هذا الأساس، نعم ثمة تحفظ لدى البعض حول حجية الظهور في خصوص القضايا الاعتقادية باعتبارها تتطلب أدلة وبراهين يقينية وهو ما لا يوفره الظهور، وإن كان يمكن تجاوز هذا التحفظ بافتراض أنّ غالب الظهورات العقدية ـ بسبب تضافرها ـ تفيد الاطمئنان، إن لم تكن مفيدة لليقين.

 

الاتجاه الرمزي:

 

إلاّ أنّ ثمة اتجاهاً فكرياً رفض الاعتماد على مبدأ الظهور في النصوص الدينية لا لظنيته، بل لأن الظهور حتى لو كان قطعياً فهو غير مراد لقائله، وإنما هو مجرد إشارات رمزية إلى معانٍ أخرى بعيدة عن حرفية النص، وقد برز هذا الاتجاه في أوروبا في عصر التنوير وما سبقه وتبناه رموز هذا العصر من أمثال سبينوزا(1632 ـ 1677) الذي قام بتأويل أهم العقائد المسيحية الكاثوليكية على أساس رمزي، فقيامة المسيح بعد الموت لم تكن ـ بنظره ـ جسدية وإنما رمزية أو روحية، وتجسد الله في المسيح هو على سبيل الرمز أيضاً، وقل الأمر عينه بشأن القربان المقدس الذي يفترض أن جسم المسيح ودمه موجودان في الخبز والخمر الذي يعطيه الكاهن للمصلين في نهاية القداس...(مدخل إلى التنوير الأوروبي 206).

 

ويعتقد بعض المثقفين العرب والمسلمين أن هذا الاتجاه الرمزي لا بدّ أن يمتد إلى التراث الإسلامي وأن خشبة خلاص الأمة الإسلامية هو في التعامل الرمزي مع آيات القرآن، فضلاً عن السنة النبوية.

 

ملاحظات على مبدأ الرمزية:

 

والحقيقة أن اعتماد مبدأ الرمزية في التعامل مع النصوص الإسلامية لا يخلو من ملاحظات، أهمها أن اعتماد الرمزية دون ضوابط يختزن دعوة ضمنية للتعامل مع القرآن على أنه كتاب ألغاز وأسرار، وهذا الأمر إما أن يؤسس لنشوء طبقة كهنوتية خاصة تحتكر تفسير النصوص وشرحها، وإما أن يفتح باب التأويل على مصراعيه لعامة الناس دون قيود ما يفضي إلى التلاعب بالنصوص وتفسيرها بنحو مزاجي، وبما يؤدي إلى ضياع الحقيقة ومسخ صورة الإسلام. ومن جهة أخرى، فإن مبدأ الترميز مناف لصريح القرآن وتأكيده المستمر الذي لا يقبل التأويل أو الجدل في أنه "بيان" أو "تبيان" و"نور" و"هدى" و"لا ريب فيه" و"لا اختلاف"... قال سبحانه:{... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه...}(المائدة:15-16)، على أن أكثر من آية قرآنية نددت باليهود، لأنهم حرفوا كلام الله عن مواضعه {من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليّا بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهّم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}(النساء:46)، وفي نفس السياق تأتي الآيات التي تنهى عن إتباع المتشابه من الآيات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وحرفه عن معانيه، وهل لذلك من معنى سوى رفض محاولات التأويل، وأن الله سبحانه لم يعتمد لغة الألغاز في مخاطبة خلقه، وإنما خاطبهم بنفس الأسلوب البياني الذي يتخاطبون به؟ قال تعالى:{ وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه}(إبراهيم:4). إننا إذ نسجل هذه الملاحظات فلا نريد إعطاء أحد حقاً حصرياً في تفسير القرآن، أو اعتبار القراءة السائدة لكلام الله هي القراءة النهائية، ويمكننا الجزم انه لا يوجد قراءة ناجزة ونهائية للقرآن، وإنما نظرنا هو إلى المنهج المعتمد في القراءة.

 

الرمزية والتأويل:

 

وربما حاول البعض إيجاد سند إسلامي لفكرة الرمزية بالاستشهاد لها إما بما ورد في المأثور من أن للقرآن ـ وراء ظاهره ـ باطناً بل سبعة بطون، أو بمبدأ التأويل المعترف به من بعض المدارس الإسلامية.

 

إلا أن حديث البطون وإن كان مطروحاً ومقبولاً لدى بعض المدارس الكلامية لكنه يختلف عن فكرة الرمزية، باعتبار أن الترميز هو محاولة نفي وتفلت من الظاهر، أمّا فكرة الباطن ـ لدى القائلين بها ـ فهي لا تلغي الظاهر بل تسير معه بنحو مواز، هذا ما نقوله سريعاً على أن يكون لنا عودة إلى قصة البطون لدراستها بشمول وعمق.

 

وأمّا التأويل فهو المبدأ الأقرب ـ إسلامياً ـ إلى فكرة الرمزية، لأن التأويل وفق الاصطلاح المعروف معناه صرف الكلام عن ظاهره وتحميله معنى لا يساعد عليه التبادر العرفي، والحقيقة أن فكرة التأويل هذه ابتدعها العقل الإسلامي لحل مشكلة التغاير أو التنافي المفترض بين العقل والنقل، فتمّ تأويل النص بما لا يتنافى ومعطيات العقل، وبذلك سجّل الاتجاه التأويلي الذي تبناه فرسان العقلانية في الإسلام أعني الشيعة والمعتزلة انتصاراً لمرجعية العقل في تفسير النص ومحاكمته، ومن المرجح أن يكون لحال الجمود والحرفية والشكلانية الذي تعاملت به بعض المدارس الإسلامية إزاء ظواهر النصوص أثر قوي في تعزيز الاتجاه التأويلي العقلي.

 

وإننا في الوقت الذي لا نرفض فيه فكرة التأويل من حيث المبدأ نسجل تحفظاً على حالة المبالغة التعسفية في التأويل والخروج عن الظاهر بما لا ينسجم مع الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، ولا مع أساليب اللغة العربية في الكتابة والمجاز والاستعارة، مع العلم بأن الكثير من الموارد التي اعتمد فيها التأويل هي بغنى عن ذلك، وبالإمكان التماس معانيها المعقولة لا من خلال الجمود على حرفية النص، بل بالقراءة الواعية المتأنية التي لا تفصل الآيات لا عن سياقها الخاص وما يتضمنه من قرائن لفظية أو مقاميه، ولا عن سياقها القرآني العام على قاعدة أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً وأن المحكم هو المرجع للمتشابه والمبيّن هو المرجع للمجمل..

 

وفي كل الأحوال فإنّ للتأويل نطاقاً خاصاً لا يمتد بالتأكيد إلى المجال التشريعي أو ما يعرف بآيات الأحكام، وقد واجه الأئمة من أهل البيت(ع) بعض محاولات التفلت من الشريعة والتلاعب بآيات الله تحت غطاء التأويل وهو في الحقيقة عين التحريف، ففي الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع) "قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال، فقال: ما كان الله ليخاطب خلقه بما لا يعقلون" (وسائل الشيعة 17/325).

 

الرمزية المقبولة:

 

على الرغم من الملاحظات التي سجلناها على المنحى الرمزي التأويلي، فإننا لا نرفض الفكرة رفضاً باتاً وعاماً، بل إن الفكرة صحيحة على نحو الموجبة الجزئية، ويمكن اعتمادها في نطاق معين وضمن ضوابط ومعايير محددة، والنطاق المشار إليه هو:

 

القضايا الغيبية التي لا تدرك العقول كنهها وتضيق اللغة في التعبير عنها. وتوضيحاً لذلك أقول: فيما يرتبط بالقضايا التشريعية لا بدّ من استبعاد منطق الترميز والتأويل عن نصوصها وإنما يُفترض تنزيلها على الفهم العرفي، بعيداً عن القراءة العقلية الهندسية وإن كان ثمة مجال للتشكيك في اطلاق هذه النصوص من زاوية أخرى خارجة عن نطاق حديثنا، أما القضايا العقدية ذات المضامين الغيبية فإنّ طبيعتها تفرض استخدام لغة تناسب تجردها ودقة معانيها وعلو مضامينها وهذا سيترك تأثيره على عملية قراءة النص واستنطاقه وعدم التعامل معه بالتسامح عينه الذي يتعامل به مع النص التشريعي، وقد ألمح الإمام الخميني إلى ذلك في بعض كلماته عندما أشار إلى أن سنخ الروايات الواردة في المعارف ـ بشأن كفر بعض الفئات ـ مغاير لما ورد منها في الفقه(الطهارة3/321).

 

إن هذه الدعوة إلى ضرورة التفريق بين النص التشريعي والنص العقدي ليس مردها إلى أن صاحب النص تعمّد استخدام أسلوبين بيانيين للتعبير عن مراده، بل مردها إلى وجود اختلاف جوهري بين طبيعة المطالب العقدية والتشريعية، وهو تباين يفرض نفسه على النص خطاباً واستنطاقاً.

 

ثم إن بعض المفاهيم العقدية هي عبارة عن مضامين غيبية لا طريق إلى معرفتها وإثباتها إلاّ من خلال الوحي، وأمّا العقل فلا طريق له إليها، بل قد لا يستطيع إدراكها على حقيقتها بسبب تجردها، هذا التجرد الذي ينعكس على اللغة أيضاً، فتعجز عن إظهارها على حقيقتها والتعريف بها حق المعرفة، فهل يستطيع العقل البشري وهو الحجة الناصعة على وجود الله أن يدرك ـ مثلاً ـ حقيقة الذات الإلهية وكنهها؟ وهل تتسع اللغة للتعبير عن هذه الحقيقة؟ بالتأكيد إن ذلك غير متيسر وكما ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر(ع): "كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم"(بحار الأنوار66/292).

 

ويقول الشاعر في هذا الخصوص:

 

فيك يا أعجوبة الكون    غدا الفكر كليلاً
أنت حيّرت ذوي    اللب وبلبلت العقولا
كلما أقدم فكري    فيك شبراً فرّ ميلا
ناكصاً يخبط في     عمياء لا يهدي السبيلا 

 

(شرح النهج لابن أبي الحديد13/51).

 

إننا وأمام وجود معاني عقدية من هذا القبيل، أعني أن العقول قاصرة عن إدراكها على حقيقتها واللغة تعجز عن الإحاطة بها فلا مفر من التعبير عنها بطريقة الإشارات الرمزية مع الاستفادة من كل أساليب اللغة في الكناية والمجاز والاستعارة بهدف تقريب الفكرة إلى الأذهان.

 

نماذج النصوص الرمزية:

 

وبالإمكان ذكر عدة أمثلة للمفاهيم التي يُرّجح أنه تمّ تناولها بطريقة رمزية:

 

1 ـ مفهوم العرش: وهو وارد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى}(طه:5)، فإن الأخذ بظاهر الآية يفرض علينا القول بالتجسيم، ولذا اختار المنزّهة أن الاستواء على العرش يرمز إلى الإحاطة الكاملة بالخلق والسلطة الدائمة على الملك.

 

2 ـ اللوح المحفوظ: الوارد في قوله تعالى:{بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}(البروج:22). فانه ليس لوحاً مادياً بالمعنى المتعارف لدينا حتى لو قيل ـ كما عن ابن عباس ـ بأن سعته ما بين المشرق والمغرب، لأن الماديات مهما تعاظم حجمها فهي متناهية الحدود، بينما علمه سبحانه غير متناه، ولذا فالأرجح أن اللوح تعبير رمزي عن العلم الإلهي اللامتناهي واللامتغير، ونحوه مصطلح "أم الكتاب".

 

ويقرب من ذلك ما ذهب إليه الأخوند الخراساني من أنّ "الجامعة" أو "الجفر" أو "الصحيفة" التي يتوارثها الأئمة(ع) كما ورد في الأخبار لا يراد بها معانيها الحرفية وإنما "عقل الإمام المنعكس فيه جميع الكائنات على ما هي عليه، لتمام صفاته"ـ(فوائد الأصول 124، وزارة الإرشاد في إيران 1407) إن رأي الأخوند هذا ومع صرف النظر عن مدى دقته يشير إلى أن فكرة الرمزية ليست غريبة عن كلام العلماء.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon