مبدأ الرمزية في تفسير النص الديني
الشيخ حسين الخشن
يمثل الاعتماد على الظهور حجر الزاوية في مهمة قراءة النص واستكناه معناه لدى عقلاء البشر كافة، فالبناء العقلائي مستقر على الأخذ بالظواهر الكتابية أو الشفاهية، والناس يتخاطبون ويتحاورون ويحاجّ بعضهم البعض وفق ما يظهر لهم من الكلام، وكذلك يقرأون الوصايا والتقارير والوثائق في ضوء ذلك، والله سبحانه وهو سيد العقلاء لم يخترع طريقة خاصة يخاطب بها خلقه، وإنما كلمهم بنفس اللغة التي يفهمونها ويتخاطبون بها، ولا يكاد يختلف في ذلك اثنان من علماء المسلمين، ولذا فسروا كلام الله على أساس ما يستظهرونه منه، وبنوا منظومتهم التشريعية والفكرية على هذا الأساس، نعم ثمة تحفظ لدى البعض حول حجية الظهور في خصوص القضايا الاعتقادية باعتبارها تتطلب أدلة وبراهين يقينية وهو ما لا يوفره الظهور، وإن كان يمكن تجاوز هذا التحفظ بافتراض أنّ غالب الظهورات العقدية ـ بسبب تضافرها ـ تفيد الاطمئنان، إن لم تكن مفيدة لليقين.
الاتجاه الرمزي:
إلاّ أنّ ثمة اتجاهاً فكرياً رفض الاعتماد على مبدأ الظهور في النصوص الدينية لا لظنيته، بل لأن الظهور حتى لو كان قطعياً فهو غير مراد لقائله، وإنما هو مجرد إشارات رمزية إلى معانٍ أخرى بعيدة عن حرفية النص، وقد برز هذا الاتجاه في أوروبا في عصر التنوير وما سبقه وتبناه رموز هذا العصر من أمثال سبينوزا(1632 ـ 1677) الذي قام بتأويل أهم العقائد المسيحية الكاثوليكية على أساس رمزي، فقيامة المسيح بعد الموت لم تكن ـ بنظره ـ جسدية وإنما رمزية أو روحية، وتجسد الله في المسيح هو على سبيل الرمز أيضاً، وقل الأمر عينه بشأن القربان المقدس الذي يفترض أن جسم المسيح ودمه موجودان في الخبز والخمر الذي يعطيه الكاهن للمصلين في نهاية القداس...(مدخل إلى التنوير الأوروبي 206).
ويعتقد بعض المثقفين العرب والمسلمين أن هذا الاتجاه الرمزي لا بدّ أن يمتد إلى التراث الإسلامي وأن خشبة خلاص الأمة الإسلامية هو في التعامل الرمزي مع آيات القرآن، فضلاً عن السنة النبوية.
ملاحظات على مبدأ الرمزية:
والحقيقة أن اعتماد مبدأ الرمزية في التعامل مع النصوص الإسلامية لا يخلو من ملاحظات، أهمها أن اعتماد الرمزية دون ضوابط يختزن دعوة ضمنية للتعامل مع القرآن على أنه كتاب ألغاز وأسرار، وهذا الأمر إما أن يؤسس لنشوء طبقة كهنوتية خاصة تحتكر تفسير النصوص وشرحها، وإما أن يفتح باب التأويل على مصراعيه لعامة الناس دون قيود ما يفضي إلى التلاعب بالنصوص وتفسيرها بنحو مزاجي، وبما يؤدي إلى ضياع الحقيقة ومسخ صورة الإسلام. ومن جهة أخرى، فإن مبدأ الترميز مناف لصريح القرآن وتأكيده المستمر الذي لا يقبل التأويل أو الجدل في أنه "بيان" أو "تبيان" و"نور" و"هدى" و"لا ريب فيه" و"لا اختلاف"... قال سبحانه:{... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه...}(المائدة:15-16)، على أن أكثر من آية قرآنية نددت باليهود، لأنهم حرفوا كلام الله عن مواضعه {من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليّا بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهّم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}(النساء:46)، وفي نفس السياق تأتي الآيات التي تنهى عن إتباع المتشابه من الآيات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وحرفه عن معانيه، وهل لذلك من معنى سوى رفض محاولات التأويل، وأن الله سبحانه لم يعتمد لغة الألغاز في مخاطبة خلقه، وإنما خاطبهم بنفس الأسلوب البياني الذي يتخاطبون به؟ قال تعالى:{ وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه}(إبراهيم:4). إننا إذ نسجل هذه الملاحظات فلا نريد إعطاء أحد حقاً حصرياً في تفسير القرآن، أو اعتبار القراءة السائدة لكلام الله هي القراءة النهائية، ويمكننا الجزم انه لا يوجد قراءة ناجزة ونهائية للقرآن، وإنما نظرنا هو إلى المنهج المعتمد في القراءة.
الرمزية والتأويل:
وربما حاول البعض إيجاد سند إسلامي لفكرة الرمزية بالاستشهاد لها إما بما ورد في المأثور من أن للقرآن ـ وراء ظاهره ـ باطناً بل سبعة بطون، أو بمبدأ التأويل المعترف به من بعض المدارس الإسلامية.
إلا أن حديث البطون وإن كان مطروحاً ومقبولاً لدى بعض المدارس الكلامية لكنه يختلف عن فكرة الرمزية، باعتبار أن الترميز هو محاولة نفي وتفلت من الظاهر، أمّا فكرة الباطن ـ لدى القائلين بها ـ فهي لا تلغي الظاهر بل تسير معه بنحو مواز، هذا ما نقوله سريعاً على أن يكون لنا عودة إلى قصة البطون لدراستها بشمول وعمق.
وأمّا التأويل فهو المبدأ الأقرب ـ إسلامياً ـ إلى فكرة الرمزية، لأن التأويل وفق الاصطلاح المعروف معناه صرف الكلام عن ظاهره وتحميله معنى لا يساعد عليه التبادر العرفي، والحقيقة أن فكرة التأويل هذه ابتدعها العقل الإسلامي لحل مشكلة التغاير أو التنافي المفترض بين العقل والنقل، فتمّ تأويل النص بما لا يتنافى ومعطيات العقل، وبذلك سجّل الاتجاه التأويلي الذي تبناه فرسان العقلانية في الإسلام أعني الشيعة والمعتزلة انتصاراً لمرجعية العقل في تفسير النص ومحاكمته، ومن المرجح أن يكون لحال الجمود والحرفية والشكلانية الذي تعاملت به بعض المدارس الإسلامية إزاء ظواهر النصوص أثر قوي في تعزيز الاتجاه التأويلي العقلي.
وإننا في الوقت الذي لا نرفض فيه فكرة التأويل من حيث المبدأ نسجل تحفظاً على حالة المبالغة التعسفية في التأويل والخروج عن الظاهر بما لا ينسجم مع الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، ولا مع أساليب اللغة العربية في الكتابة والمجاز والاستعارة، مع العلم بأن الكثير من الموارد التي اعتمد فيها التأويل هي بغنى عن ذلك، وبالإمكان التماس معانيها المعقولة لا من خلال الجمود على حرفية النص، بل بالقراءة الواعية المتأنية التي لا تفصل الآيات لا عن سياقها الخاص وما يتضمنه من قرائن لفظية أو مقاميه، ولا عن سياقها القرآني العام على قاعدة أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً وأن المحكم هو المرجع للمتشابه والمبيّن هو المرجع للمجمل..
وفي كل الأحوال فإنّ للتأويل نطاقاً خاصاً لا يمتد بالتأكيد إلى المجال التشريعي أو ما يعرف بآيات الأحكام، وقد واجه الأئمة من أهل البيت(ع) بعض محاولات التفلت من الشريعة والتلاعب بآيات الله تحت غطاء التأويل وهو في الحقيقة عين التحريف، ففي الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع) "قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال، فقال: ما كان الله ليخاطب خلقه بما لا يعقلون" (وسائل الشيعة 17/325).
الرمزية المقبولة:
على الرغم من الملاحظات التي سجلناها على المنحى الرمزي التأويلي، فإننا لا نرفض الفكرة رفضاً باتاً وعاماً، بل إن الفكرة صحيحة على نحو الموجبة الجزئية، ويمكن اعتمادها في نطاق معين وضمن ضوابط ومعايير محددة، والنطاق المشار إليه هو:
القضايا الغيبية التي لا تدرك العقول كنهها وتضيق اللغة في التعبير عنها. وتوضيحاً لذلك أقول: فيما يرتبط بالقضايا التشريعية لا بدّ من استبعاد منطق الترميز والتأويل عن نصوصها وإنما يُفترض تنزيلها على الفهم العرفي، بعيداً عن القراءة العقلية الهندسية وإن كان ثمة مجال للتشكيك في اطلاق هذه النصوص من زاوية أخرى خارجة عن نطاق حديثنا، أما القضايا العقدية ذات المضامين الغيبية فإنّ طبيعتها تفرض استخدام لغة تناسب تجردها ودقة معانيها وعلو مضامينها وهذا سيترك تأثيره على عملية قراءة النص واستنطاقه وعدم التعامل معه بالتسامح عينه الذي يتعامل به مع النص التشريعي، وقد ألمح الإمام الخميني إلى ذلك في بعض كلماته عندما أشار إلى أن سنخ الروايات الواردة في المعارف ـ بشأن كفر بعض الفئات ـ مغاير لما ورد منها في الفقه(الطهارة3/321).
إن هذه الدعوة إلى ضرورة التفريق بين النص التشريعي والنص العقدي ليس مردها إلى أن صاحب النص تعمّد استخدام أسلوبين بيانيين للتعبير عن مراده، بل مردها إلى وجود اختلاف جوهري بين طبيعة المطالب العقدية والتشريعية، وهو تباين يفرض نفسه على النص خطاباً واستنطاقاً.
ثم إن بعض المفاهيم العقدية هي عبارة عن مضامين غيبية لا طريق إلى معرفتها وإثباتها إلاّ من خلال الوحي، وأمّا العقل فلا طريق له إليها، بل قد لا يستطيع إدراكها على حقيقتها بسبب تجردها، هذا التجرد الذي ينعكس على اللغة أيضاً، فتعجز عن إظهارها على حقيقتها والتعريف بها حق المعرفة، فهل يستطيع العقل البشري وهو الحجة الناصعة على وجود الله أن يدرك ـ مثلاً ـ حقيقة الذات الإلهية وكنهها؟ وهل تتسع اللغة للتعبير عن هذه الحقيقة؟ بالتأكيد إن ذلك غير متيسر وكما ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر(ع): "كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم"(بحار الأنوار66/292).
ويقول الشاعر في هذا الخصوص:
فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلاً
أنت حيّرت ذوي اللب وبلبلت العقولا
كلما أقدم فكري فيك شبراً فرّ ميلا
ناكصاً يخبط في عمياء لا يهدي السبيلا
(شرح النهج لابن أبي الحديد13/51).
إننا وأمام وجود معاني عقدية من هذا القبيل، أعني أن العقول قاصرة عن إدراكها على حقيقتها واللغة تعجز عن الإحاطة بها فلا مفر من التعبير عنها بطريقة الإشارات الرمزية مع الاستفادة من كل أساليب اللغة في الكناية والمجاز والاستعارة بهدف تقريب الفكرة إلى الأذهان.
نماذج النصوص الرمزية:
وبالإمكان ذكر عدة أمثلة للمفاهيم التي يُرّجح أنه تمّ تناولها بطريقة رمزية:
1 ـ مفهوم العرش: وهو وارد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى}(طه:5)، فإن الأخذ بظاهر الآية يفرض علينا القول بالتجسيم، ولذا اختار المنزّهة أن الاستواء على العرش يرمز إلى الإحاطة الكاملة بالخلق والسلطة الدائمة على الملك.
2 ـ اللوح المحفوظ: الوارد في قوله تعالى:{بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}(البروج:22). فانه ليس لوحاً مادياً بالمعنى المتعارف لدينا حتى لو قيل ـ كما عن ابن عباس ـ بأن سعته ما بين المشرق والمغرب، لأن الماديات مهما تعاظم حجمها فهي متناهية الحدود، بينما علمه سبحانه غير متناه، ولذا فالأرجح أن اللوح تعبير رمزي عن العلم الإلهي اللامتناهي واللامتغير، ونحوه مصطلح "أم الكتاب".
ويقرب من ذلك ما ذهب إليه الأخوند الخراساني من أنّ "الجامعة" أو "الجفر" أو "الصحيفة" التي يتوارثها الأئمة(ع) كما ورد في الأخبار لا يراد بها معانيها الحرفية وإنما "عقل الإمام المنعكس فيه جميع الكائنات على ما هي عليه، لتمام صفاته"ـ(فوائد الأصول 124، وزارة الإرشاد في إيران 1407) إن رأي الأخوند هذا ومع صرف النظر عن مدى دقته يشير إلى أن فكرة الرمزية ليست غريبة عن كلام العلماء.