مفاهيم صحَّحتها الثورة الحسينيّة
الشيخ حسين الخشن
كُتب كثيراً عن أبعاد الثورة الحسينية ودلالاتها، عن أسبابها ونتائجها، عن ظروفها السياسية والاجتماعية... ورغم ذلك كلّه يجد الباحث المتأمِّل أنَّ هناك ما يمكن أن يقال حول أبعاد هذه الثورة وأهدافها، وأنّه يمكن المساهمة في إضاءة بعض الجوانب. ومن جملة القضايا التي يمكن المساهمة فيها؛ لأنّها لم تعطَ حقَّها من البحث، قضية دور هذه الثورة في تصحيح المفاهيم التي تمّ تشويهها وبثّها في أوساط الأمّة آنذاك وقُدِّمت على أنّها أفكار أو مفاهيم أو تعاليم إسلامية، مع أنّها لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة.
ومن الطبيعي، فإنّ أقدر الناس على تصحيح الانحراف الفكري والمفاهيمي هم أهل البيت الذين أذهب الله الرجس عن عقولهم وقلوبهم وأعمالهم وطهّرهم تطهيراً، ولهذا كانت المهمة الأولى التي أُنيطت بأهل هذا البيت هي حراسة الدين وصيانته عن كلّ محاولات التزوير والتحريف.
ولئن حالت الظروف القاهرة دون تسلُّمهم لزمام الإمامة السياسية، فإنّها لم تمنعهم من النهوض بأعباء الإمامة الفكرية والدينية التي بها – لا بالإمامة السياسية – قوام إمامتهم، فقد شكّل الأئمة من أهل البيت (ع) المرجعية الدينية والفكرية لكافة المسلمين، وقد أكّد النبيّ (ص) في كلّ أحاديثه وكلماته الواردة في حقّهم على مرجعيتهم الفكرية أكثر من تركيزه على إمامتهم السياسية، كما نلاحظ ذلك في حديث الثقلين(1) وحديث السفينة(2) وغيرها من الأحاديث.
وعلى ضوء هذا، فإنّا نتصوَّر أنّ أحد أهمّ وجوه الإصلاح التي نهض بها الإمام الحسين (ع) وجعلها عنواناً لثورته عندما قال في وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية: "إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً ولا مُفسِداً ولا ظالِماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّةِ جدّي..."(1)، هو الإصلاح الديني والفكري؛ لأنّ أسوأ ما ابتلت به الأُمّة – آنذاك – ليس مجرّد الانحراف السلوكي عن تعاليم الرسالة، وإنّما الانحراف الفكري وتزوير المفاهيم الدينية في محاولة لإخضاع الأُمّة وترويضها.
الأُمّة المهدورة والمقهورة
وقبل الحديث عن أبعاد الإصلاح الفكري والديني الذي أسهمت الثورة الحسينية في تحقيقه، لا بدّ لنا أن نقدّم صورة مختصرة عن الظروف التي أحاطت بالثورة وهيّأت لهذا الانحدار والتقهقر الذي أصاب الأُمّة، ما جعلها تتجرّأ على سفك دم سيد شباب أهل الجنّة، فما الذي أصاب هذه الأُمّة وأوصلها إلى هذا المستوى؟
والجواب: إنَّ أسوأ ما عانت وتعاني منه أُمّة من الأُمَم أن تعيش الهدر في طاقاتها أو القهر في إرادتها، فإنَّ الهدر يحوّل أفراد الأُمّة إلى كَمٍّ مهمل ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كلّ ريح، والقهر يسلب الأُمّة اختيارها ويبدِّد طاقاتها ويمنع تطوّرها ورقيَّها، وقد كانت سياسة الطغاة والمستكبرين على مرّ التاريخ وإلى يومنا هذا هي الأخذ بهذين الأسلوبين – أسلوبَي الهدر والقهر – بغية السيطرة على الشعوب وقمع إرادة التحرُّر لديها.
والذي ابتلت به الأُمّة الإسلامية بعد مدّة وجيزة من وفاة رسول الله (ص) أنّها وقعت فريسة الهدر والقهر معاً، فتراجعت وتقهقرت على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال. ونبدأ أولاً بالحديث عن سياسة الهدر وأبعادها ونتائجها، مع بيان موقع الثورة الحسينية ودورها في مواجهة هذه السياسة، ثم نعرّج للحديث عن سياسة القهر ونتائجها السلبية في تخلُّف الأُمّة مع بيان دور الثورة الحسينيّة في مواجهة هذه السياسة.
فرعون وسياسة الهدر
يطرح لنا القرآن فرعون نموذجاً صارخاً للحاكم المستبدّ الذي تقوم سياسته على هدر وتبديد طاقات الأُمّة ومصادرة عقولها وقتل روح الإبداع عندها واختصارها بشخصه، فهو يقودها ويسوسها ويفكّر لها وعنها {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، أمّا هي – أعني الأُمّة – فليس لها من الأمر شيء، وإنّما هي مجرّد رعيّة له وعبيد في مملكته، ولذا ندَّد موسى (ع) به وبسياسته هذه قائلاً لفرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، لقد كان بنو إسرائيل عند فرعون مجرّد جماعة متلقّية لا شخصية لها ولا تملك التخطيط لمستقبلها وإدارة شؤونها، وغاية ما يطمح إليه المرء أن يكون عبداً لفرعون وأن يُسمح له بالعمل في "أرض المَلِك" الواسعة {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، وقد استكان قوم فرعون للعبودية وأدمنوها؛ لأنّه أهدر عقولهم وصادرها، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
مشاهد الهدر في العصر الجاهلي
والنموذج الآخر للأُمّة المهدورة هم العرب قبل الإسلام، فقد كان الإنسان العربي مهدور الكرامة، مهدور الإرادة والحرية، مهدور المشاعر والأخلاق والمال والقوّة.
ومشاهد الهدر في العصر الجاهلي كثيرة لا تخفى على الخبير والباحث التاريخي وإليك بعضها:
هدر العقول: إنَّ انتشار عبادة الأصنام واتخاذ كل قبيلة صَنَماً لها إمّا من صخر أو تمر حتى إذا جاعت أكلته، هو خير مؤشّر على ضعف العقول، وكذلك الأُميّة المنتشرة بين الجاهليين إلى درجة أن يكون العارفون بالقراءة والكتاب أفراداً قلائل يُعدَّون بالأصابع، وهكذا انتشار الخرافة والأسطورة والكهانة والسحر والشعوذة، إلى إدمان الناس على تناول الخمور والمسكرات، إنّ ذلك كلّه شواهد على أنّ عقول العرب كانت مهدورة ومستقيلة.
هدر الإنسان: وإنّ انتشار أسواق النخاسة واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان واسترقاقه له وتحويله إلى سلعة تُباع وتُشتَرى، دليل واضح على هدر الإنسان وكرامته.
هدر الأخلاق: إنّ إكراه الفتيات على البغاء ووأد البنت وهي حيّة والنظر إليها نظرة عار لدرجة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ*يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل : 58-59] هي شواهد على هدر الأخلاق وضعف القِيَم وتردّي العواطف الإنسانيّة.
هدر المال: إنّ انتشار الرِبا والقمار وغيرها من وسائل أكل الناس بالباطل هي مؤشّرات على الهدر الاقتصادي.
الإسلام ومحاربة الهدر
وجاءت بعثة رسول الله (ص) لتضع حداً لسياسة الهدر وتشكّل انقلاباً كاملاً على كلّ قيم المجتمع الجاهلي ومفاهيمه، فرسالة النبيّ (ص) أعطت للعقل مكانةً مرموقة واعتبرته الحجر الأساس في المعارف الدينية، فبه يعرف الله وصدق الرسالات ويوم المعاد، وهكذا الحال في المعارف الإنسانية التي فتح الإسلام الباب أمامها على مصراعيه، وأراد للعقل أن يُبدع ويكتشف ويحلِّق في آفاق السماء والأرض، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إنّه حرَّر العقل من كلّ الأغلال والقيود التي تُكبِّله وتُعيق حركته، فحرّم الشعوذة والسحر والكهانة وغيرها من الأساليب التي لا ترتكز على قاعدة عقلية وعلمية، فعندما يسمع رسول الله (ص) بعض الناس يردِّدون عقيب وفاة ابنه إبراهيم التي تزامنت مع كسوف الشمس قائلين: كسفت الشمس حزناً على إبراهيم، فإنّه (ص) يأبى السكوت على هذا الاستخفاف بالعقل، فيصعد المنبر ويدحض هذا الاعتقاد قائلاً: "يا أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته"(1)، وبذلك يقدّم لنا درساً بليغاً في محاربة الخرافة.
وهكذا حارب الإسلام كلّ أشكال هدر الكرامة والحريّة والإنسانية والأخلاق والمال، فحرّم البغاء وإكراه البنات والفتيات على الزنا، فضلاً عن تحريم وَأْدَهُنَّ، وحرّم القمار والربا والغش، وعمل على تحرير الإنسان من العبودية، واستطاع النبيّ (ص) في فترةٍ وجيزة أن يصنع أُمّة ذات إرادة وكرامة وصاحبة قدرة على التغيير والإبداع، الأمر الذي مكَّن العرب وهم قبل الإسلام مجرّد جماعة هامشية لم يكن أحد يحسب لها حساباً أن يفتحوا العالَم، ويصبحوا أُمّة ذات حضارة تنافس أهم الحضارات وأعرقها كحضارتي الفرس والرومان.
إرهاصات سياسة الهدر في المجتمع الإسلامي
لكن بعد وفاة رسول الله (ص) واعتلاء بني أُميّة سُدّة الحكم في ظروف تاريخية معروفة حصلت تحوُّلات كبيرة في المجتمع الإسلامي، وصرنا نشهد عودة "قيم" المجتمع الجاهلي الإسلام القائمة على سياستي الهدر والقهر، ثمّ استفحل الأمر بالتدريج، الأمر الذي بدَّد تلك الصورة المُشرقة وشوّهها، وأضحت المنظومة العقدية والتشريعية والأخلاقية التي أرسى رسول الله (ص) قواعدها في معرض التشويه والتلاعب، وتلوّثت الروح الإسلامية التي تميّزت بصفائها ونقائها، والخطورة أنَّ هذا الهدر صار يتمّ تحت عناوين إسلامية مزيّفة.
ومن أبرز مشاهد هذا الهدر: تلويث العقل الإسلامي من خلال فتح المجال أمام المنابع غير الإسلامية لتبث سمومها وأفكارها المنحرفة في أوساط المسلمين على يديّ أمثال: كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما(1)، وهكذا تمّ العمل على تخدير الأُمّة وشلّ إرادتها عبر مجموعة من المفاهيم الدخيلة والمشوّهة من قبيل عقيدة الجبر وغيرها من المفاهيم الآتية التي روَّجها الأمويون، بغية إخضاع الأُمّة لسلطانهم وتبرير طغيانهم بقضاء الله وقدره.
وقد عمّت سياسة الهدر وزال الاهتمام بصناعة الإنسان المؤمن المخلص، وحلّت محلّ ذلك ثقافة الاستزلام والمحسوبيّة، وأُهدرت أيضاً كلّ الطاقات الإنسانية بإبعاد وتهميش معظم الصحابة والتابعين، وأمّا القيم الإسلامية فكانت الضحيّة الكبيرة لسياسة الهدر والتجاوز، من قبيل قيمة المساواة التي أعلنها الإسلام بين جميع المسلمين من دون فرق بين أسود وأبيض وعربي أو أعجمي، حيث عمدت السلطة السياسية إلى تجاوز ذلك وميّزت بين العرب والموالي في العطاء والمراكز(1)، وهكذا الحال في قيمة الحريّة فقد تمّت مصادرتها، هذا فضلاً عن تجاوز الحدود الشرعية في الجانب السلوكي بشكلٍ فاضح، وتطول سلسلة الهدر التي شملت الأُمّة في كافة الجوانب الروحيّة والاجتماعية والإنسانية، وكذا في الجانب الاقتصادي فقد عمّ الهدر في المال العام وانتشر البذخ والإسراف والإثراء غير المشروع.
وفي حديث مروي عن رسول الله (ص) نجد إشارة واضحة إلى ما سوف يُصيب أُمّته (ص) من جرّاء سياسة الهدر بكلّ أبعادها، كما ويحدّد هذا الحديث المسؤولية عن هذا التردّي، يقول (ص) – فيما روي عنه -: "إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً كان مال الله دولاً وعباد الله خولاً ودينه دخلاً"(2).
ثورة الحسين ومواجهة سياسة الهدر
أمام هذا الانحدار في المسيرة الإسلامية الذي لامَسَ حدّ الانقلاب الكامل والعودة إلى قِيَم المجتمع الجاهلي كان من الطبيعي أن يتصدّى الأئمّة من أهل البيت (ع) وعلى رأسهم الإمام عليّ (ع) وولداه الحسن والحسين (ع) لتصحيح الانحراف والحؤول دون وصول سياسة الهدر إلى أهدافها، وقد تنوّعت أساليبهم في هذا المجال لكن الهدف كان واحدا، وهو العودة بالأُمّة إلى مكانتها وأصالتها، والعودة بالمفاهيم الإسلامية إلى حيويّتها وصفائها.
وقد ساهمت ثورة الإمام الحسين (ع) مساهمةً فعّالة في إيجاد صدمة كبيرة في الرأي العام الإسلامي في مواجهة سياسة الهدر، وأوجدت هزّة عنيفة أيقظت الوجدان الإسلامي ونبّهته إلى الانحدار الأخلاقي الذي أصاب الأُمّة وإلى التشوّه الخطير الذي طاول المفاهيم الإسلامية.
صحيح أنّ الهدر قد بلغ مداه بعد تولّي يزيد بن معاوية لزمام السلطة وارتكابه الفظائع والفضائح من استباحة المدينة المنورة، وهدم الكعبة، وقتل الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه بالطريقة المروعة التي تجاوزت كلّ القيم والحدود الإنسانية والإسلامية، فعندما يقف الإمام الحسين (ع) في كربلاء وينادي جيش عمر بن سعد مستصرخاً ومستنفراً النخوة والمروءة العربية، بدلاً من أن يستنفر فيهم وجدانهم الديني، قائلاً: "وَيْحَكُمْ يا شيعة آل أبي سفيان إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنت عرباً كما تزعمون"(1)، فهذا يعني أنّ الانحطاط الأخلاقي بلغ منتهاه، وعندما يستنصر الحسين ضمائر المسلمين في صحراء كربلاء فلا يجد سوى أفراد قلائل تُلبّي النداء وتقف إلى جانبه، وعندما تُسبى بنات الرسالة دون أن يشعر أحد بالخجل والعار فهذا وغيره يُمثِّل مؤشرات واضحة على موت الضمير الإسلامي واضمحلال القِيَم الإنسانية، أقول: إنّ هذا كلّه صحيح، لكن رغم سوداوية المشهد والصورة، إلّا أنّ نهضة الإمام الحسين(ع) بفدائيّتها وبنتائجها المأساوية المروعة استطاعت أن تؤسِّس لاستعادة الأُمّة وعيها ودورها المفقود وعزّتها وكرامتها المهدورة وإرادتها المسلوبة، فأشعلت نار الثورة بوجه الظالمين وأسهمت في إيقاظ الضمائر وتصحيح المفاهيم الإسلامية.
القهر والتخلّف
هذا كلّه فيما يرتبط بسياسة الهدر، وأمّا القهر فهو الوجه الآخر المكمّل لسياسة الهدر، وبهما تكتمل الصورة، صورة الأُمّة المستعبدة والتي لا حول لها ولا قوّة، والحقيقة إنَّ القهر أو الاستبداد هو حرفة الطغاة وأسلوبهم المُفضّل في قمع إرادة الشعوب في التحرُّر ونيل الاستقلال، وغير خَفِيّ على أحد أنّ أُمّتنا عانت ولا تزال تعاني من سياط القهر والظلم ونير الاستبداد والاستعباد، الأمر الذي أضعفها وبدَّد طاقاتها وشلّ إرادتها وفاعليتها واسترقّ إنسانها، وجعل خيراتها وإمكاناتها بمثابة مزرعة يستمتع بها الحاكم وحاشيته، ولم يبالغ من اعتبر أنَّ الاستبداد هو سبب تخلّف هذه الأُمّة، كما فعل الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" أو الفقيه المحقّق الشيخ النائيني في كتابه "تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة"، وعلى أقل تقدير فإنّه – أعني الاستبداد – أحد أسباب تخلُّفها في المجال العلمي والاقتصادي والسياسي وغيرها من المجالات التي سبقتنا فيها الأُمم الأخرى بعد أن طوّرت نظامها السياسي وتخلّصت من استبداد السلطة ووصاية الكنيسة ورجال الدين على العقول.
وكما أنَّ السيرة الفرعونية انتهجت سياسة الهدر بكلّ أبعادها – كما أسلفنا - فإنّها قد اعتمدت سياسة القهر والاستبداد والإذلال، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك أبلغ تعبير، قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، بالمقابل فإنَّ الأنبياء كما تحرّكوا لمواجهة كلّ أشكال الهدر ومصادرة عقول الأُمّة وحقوقها، فإنّهم أيضاً وقفوا دوماً إلى جانب المستضعفين بوجه الظلمة والمستبدّين، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين أن ائت هذا الجبّار فقل له: إنّني لم أستعملك على سفك الدماء واتّخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم وإنْ كانوا كفّاراً"(1).
الانقلاب على الأعقاب
وعندما ندرس الثورة الحسينية في سياقها وظروفها التاريخية ومبرّرات انطلاقها، فإنّنا نجد أنفسنا أمام أُمّة سعى النبيّ (ص) جاهداً إلى إعدادها ثقافياً وعمل على بنائها معنوياً وروحياً ونزع كلّ أسباب الخوف من نفوس أبنائها، فأصبح الفرد المسحوق الضعيف قوّياً قوّة الإيمان، عزيزاً عزّة الإسلام، فوقف أمام آلة القتل بكلّ شجاعة يستقبل الموت والتعذيب والتجويع صابراً محتسباً وهو يحسّ بلذّة روحية لا يضاهيها شيء، ويدخل على سلاطين زمانه أمثال كِسرى وقيصر.. بلباسه العربي المتواضع حاملاً رسائل النبيّ (ص) ليتلوها عليهم بكلّ عزّة وإباء، داعياً إيّاهم للدخول في الإسلام.
إنّ هذه الأُمّة التي صنعها رسول الله (ص) لم تلبث طويلاً بعد ارتحاله إلى الرفيق الأعلى حتى انقلبت على الأعقاب، وعاد القهر والاستبداد ليمارس هذه المرّة على الخلّص من أتباع رسول الله، ولاسيما بعد اعتلاء معاوية سدّة الحكم وتحويله الخلافة إلى كسروية وقيصرية، كما قال عبد الله بن عمر(1)، وقد انعكست هذه الكسروية على نمط حياته الشخصية المليء بالبذخ والإسراف وعلى سلوكه العام مع الأُمّة، لجهة اتّباعه أساليب التضليل ومحاربة الدين باسم الدين والهدر بكلّ أشكاله، وإلى ذلك كلّه فقد ابتكرت الكسروية الإسلامية أساليب ترهيبية قمعية متنوّعة تكفل لها دوام الملك واستمرار السلطة، وإليك بعض هذه الأساليب:
1-الترويع والترهيب
فقد مارست السلطة الكسروية كلّ أشكال الترويع والترهيب بحقّ الأحرار الذين وقفوا بوجه استبدادها وظلمها وفسادها وانحرافها، أو خالفوها الرأي، لاسيما من أنصار عليّ (ع) وأتباعه، وقد أورد المؤرخون صوراً مخيفة عن مشاهد القتل والإبادة التي تعرّضت لها الجماعة الواعية من أبناء الأُمّة، أمثال حجر بن عدي وصحبه ورشيد الهجري، وهكذا مالك الأشتر الذي دسّ له معاوية عبر بعض عيونه السمّ بالعسل، كما قتل غيره بنفس الوسيلة، وعرف عنه القول بعدما بلغه مصرع مالك: "إنّ لله لجنداً من عسل"(2)، وبلغ الترويع في عهد معاوية مداه، لدرجة أنّ الشخص الموالي لعليّ (ع) كان يُفضّل أن يُقال له: "زنديق" على أن يُقال: إنّه من شيعة عليّ، وإذا أراد أحد من صحابته (ع) أن يُحدِّث عنه اضطره الخوف إلى الترميز والتورية،، فبدل أن يذكر اسم عليّ (ع) كان يقول: حدّثني أبو زينب(3).
وبالإضافة إلى تصفية الكثير من الشخصيات المعارضة للسلطة، فقد تمّ إقصاء أو نفي الآخرين وإبعادهم عن ساحة التأثير الشعبي، كما حصل ذات يوم مع أبي ذر الغفاري.
وإنَّ من يُراقب صورة المجتمع الكوفي عشيّة أحداث كربلاء يجد أن سياسة الترهيب والترغيب بلغت مداها، ما جعل آلاف الناس ينفضّون عن مسلم بن عقيل بعد أن بايعوه على النصرة والجهاد!
إنّ شخصية الإنسان الكوفي – كما يستفاد من مجموع الشواهد التاريخية – أعني بها الشخصية المتقلّبة في مواقفها والمتردِّدة في خياراتها الحائرة في ولاءاتها، الشخصية التي تعيش انفصاماً نفسياً وتجاذباً داخلياً بين ما هي المصالح من جهة ما هي العواطف والأحاسيس الدينية من جهةٍ أخرى، إنّ هذه الشخصية هي البرهان الساطع على نجاح سياسة الهدر والقهر التي انتهجتها السلطة الأمويّة في بلوغ أهدافها.
2- التجويع والحصار الاقتصادي
والأسلوب الآخر الذي لا يقل بشاعة عن سابقه هو أسلوب الحصار الاقتصادي والتجويع الذي مُورس بحقّ المعارضين للكسروية الإسلامية، ونتيجة ذلك عاشت شريحة كبيرة من أبناء الأُمّة القهر والمعاناة وذاقت البؤس والجوع، ومن هؤلاء أهل المدينة المنوّرة الذين عاقبتهم السلطة المُستبدّة، فانتشر الفقر بينهم وخيّم عليهم البؤس، ولما حجّ معاوية ومرّ على المدينة استقبله الناس ومنهم الأنصار الذي خرجوا لاستقباله مشاة! خلافاً لسائر الناس الذين خرجوا على الرواحل، فقال لهم: "ما منعكم من تلقيّ كما يتلقّاني الناس؟ فقال له سعيد بن عبادة: منعنا من ذلك قلّة الظهر (أي وسائل الركوب) وخفّة ذات اليد، وإلحاح الزمان علينا وإيثارك بمعروفك غيرنا، فقال معاوية مستهزئاً: أين أنتم من نواضح المدينة! فأجابه سعد: نحرناها يوم بدر يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان"(1).
أما العراق فقد طالته العقوبات الاقتصادية أكثر من غيره؛ لأنّه معقل المعارضة ومركز ثقلها وموطن الولاء لأهل البيت(ع).
3-شراء الضمائر والذِمَم
ومن جملة الأساليب الرخيصة واللاأخلاقية التي انتهجتها سلطة القمع والاستبداد: أسلوب شراء الضمائر بإغراءات المال أو الجاه، ولذا اختار عمر بن سعد قتال الإمام الحسين (ع) وذلّ الأبد لقاء عرض دنيوي زائل وهو ملك الريّ، ونجح معاوية في شراء بعض القادة الكبار في جيش الإمام الحسن (ع) الأمر الذي دفعه مع أسباب أخرى إلى اختيار الصلح مع معاوية، وقد سقط الكثيرون في امتحان المال والجاه ولم ينجح سوى القلّة من ذوي الكرامة والمروءة والدين، أمثال الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري الذي ورد على معاوية ذات يوم فلم يأذن له بالدخول عليه توهيناً له، فانصرف عنه، فوجّه له معاوية ستماية درهم، فردّها جابر ، وكتب إليه:
وإنّي لأختار القنوع على الغنى إذا اجتمعا والماء بالبارد المحض
وأقضي على نفسي إذا الأمر نابني وفي الناس من يُقضى عليه ولا يقضي
وألبس أثواب الحياء وقد أرى مكان الغنى ألّا أهين له عرضي(1)
4- قتل الشخص أو الشخصية
وتنوّعت أساليب الطغاة والمستبدِّين، فمن عجزوا عن استيعابه وشرائه عملوا على قتله والتخلّص منه كما أسلفنا، وإذا أخفقوا في تصفيته جسدّياً خوفاً من ردّات الفعل على ذلك أو لأيّ سببٍ آخر عملوا على قتله معنوياً، بتشويه صورته وحياكة الأكاذيب حوله، ممّا قد يسقطه أمام الرأي العام، وقد أتقن اليهود اتّباع هذه السياسة القذرة، أعني سياسة قتل الشخص أو الشخصية مع أنبياء الله ورسله، كما حدّثنا القرآن عنهم قائلاً: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
في هذا السياق التاريخي المثقل بكل أشكال الاستبداد والقهر جاءت ثورة الإمام الحسين (ع) لتشكِّل صدمةً قويّة في جدار الصمت والذل، وتسجّل اعتراضاً صارخاً على سياسة القهر والاستبداد وتضع الأُمّة أمام مسؤولياتها في مواجهة الظالمين، وقد نجحت تلك النهضة رغم مأساويتها في استنهاض الأُمّة وتحريرها من عقدة الخوف كما شهد بذلك توالي الأحداث والثورات والحركات النضاليّة عقيب وقعة كربلاء.
لقد استنهض الإمام الأُمّة بدمائه ودماء أصحابه، وسطَّر بمواقفه وجهاده وكلماته دروس العزّة والإباء، وبقي شعاره الخالد يتردَّد على مدى الأزمان "هيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابَتْ وطَهُرَتْ وأُنوفٌ حمِيَّة ونفوسٌ أبيّة من أن نؤثر طاعةَ اللِئام على مصارِع الكِرام"(1).
المفاهيم المزوّرة
بعد هذا العرض المسهب للحال الذي وصلت إليه الأُمّة بفعل سياستي الهدر والقهر، نأتي إلى الحديث عن أسوأ الأدوات التي استخدمتها السلطة في معركتها، وهي إنتاج مجموعة من المصطلحات لتوظيفها في لعبة السلطة وقمع الجماهير، والأخطر من ذلك هو الإفادة من بعض المصطلحات القرآنية والشعارات الإسلامية واستغلالها بشكلٍ جيد وتوظيفها بطريقة ذكيّة لإلهاء الجمهور، أو إشغاله بقضايا هامشية، أو تخديره وبثّ روح اليأس فيه، وقد طاول التشويه والاستغلال عدداً من المفاهيم والأفكار والعقائد، بما شكَّل انحرافاً فكرياً وعقدياً خطيراً، أساء إلى صفاء الإسلام في عقيدته وشريعته ومفاهيمه، كما أساء إلى أصالة الشخصية الإسلامية وصفائها، وفيما يلي نطلّ على أبعاد هذا الانقلاب والانحراف المفاهيمي مع الإشارة المركّزة إلى دور الإمام الحسين (ع) وثورته في مواجهته والمفاهيم اتي سنتنارلها بالبحث هي:
1-مفهوم إطاعة السلطان الجائر
2-مفهوم الحياد والإعتزال
3-عقثدة الجبر
4-التباس مفهومي الثورة والفتنة
5-مفهوم النصر
6-مفهوم الإرجاء وتخريب الدين
وسوف نلاحظ أنّ المفاهيم التي تمّ تزويرها لم تكن مُبتدعة أو مكذوبة بالكليّة، إنّما لها أصل إسلامي في الكتاب أو السنّة، لكنّ الأهواء ويد السياسة عملت على تحريفها وتفسيرها تفسيراً خاطئاً، خدمةً لمصالحها وأهدافها الخاصة.
1-مفهوم إطاعة السلطان الجائر
لقد اكتشفت السلطة وطلّابها مبكراً دور الدين في الحياة الاجتماعية وقدرته الهائلة على التأثير الجماهيري، وغدا واضحاً أنّ كل محاولات إقصاء الدين عن واقع الحياة أو تصنيفه كمخدّرٍ للشعوب لم تؤت أكلها ولم تشكّل تنكّراً لهذا الدور بقدر ما هي اعتراف صريح به، وقد أغرت جاذبية الدين هذه وسلطانه المعنوي على النفوس طلّاب السلطة فعملوا على استغلاله والتستُّر بشعاراته وتوظيف مقولاته واستثمارها بما يخدم مصالحهم، بل لم تتوان العقلية السلطوية عن إلباس السلطان لبوس الإله، لتضفي عليه – أيّ السلطان – قدسية تحول دون الجرأة على معارضته أو التمرُّد عليه، بحجّة أنّ ذلك يستوجب النقمة والغضب الإلهي ويستنزل العذاب!
فشل ونجاح
إنّ ما هدفت إليه هذه المحاولات السلطوية هو تطويع الأُمّة – بسلاح الدين – لإرادة السلطان، وتطويع الدين نفسه ومقولاته بما يخدم مصالح السلطة ومآربها.
ولئن منيت السلطة بفشل ذريع وعجز كبير عن احتواء الأنبياء والرسل، فإنّها لم تفشل في احتواء الكثير من أتباعهم، ولعلّ أقسى ضربة أصابت المؤسسة الدينية في كلّ تاريخها هو محاولة تدجينها مِن قِبَل السلطة، ليغدو "رجل الدين" – كاهناً أو فقيهاً – موظّفاً في بلاط السلطان سائراً في ركابه، مع أنّ دوره الطبيعي هو رصد سلوك السلطة والعمل على تقويمها وإرشادها وتصحيح انحرافها.
الكسروية الإسلامية ومواجهة الدين بالدين
وكما لم تفشل السلطة في استيعاب المؤسسة الدينية، فإنّها لم تفشل في تحريف تعاليم الدين وتشويه مبادئه، ولا شكّ أنّ أخطر تهديد واجه الدين هو محاولات تحريفه التي اضطلعت بها أو أسهمت فيها الهيئة الحاكمة، عندما أدركت أنّ مواجهة الدين بالحرب العلنية والمباشرة هي مجازفة غير مضمونة النتائج، فاستعاضت عن ذلك بالمواجهة الخفية، أي مواجهة الدين بالدين من خلال التستُّر بشعارات الدين نفسه وارتداء عباءته والانقلاب عليه من الداخل. إنَّ هذا الاختراق الذي سجَّلته السلطة على حساب الدين لم يقتصر على دين دون سواه، بل شمل كل "الأديان" والشرائع السماوية، بما في ذلك الإسلام، والحديث عن دور السلطة السياسية ومحاولاتها تشويه الإسلام وتحريف تعاليمه ومفاهيمه الإصلاحية، والانقلاب على كل الإرث الرسالي لا ينبغي أن يستفز أحداً، فهو واقع ولا مجال لإنكاره، وهل ينكرنَّ أحد أنَّ السلطة في الإسلام استطاعت أن تميت فرقاً كلاميّة أو فقهية وتُحيي أخرى، وأنّها أغلقت باب الاجتهاد... أجل إنَّ علينا متابعة رصدية لآثار ذلك وتداعياته على واقع الأُمّة؛ لأنّ تعرّض المنظومة المفاهيميّة والعقدية تحديداً لأيّة أُمّة للتزوير أو التحريف له تأثير مباشر على دور الأُمّة التاريخي وموقعها الحضاري.
لا شكّ إذن في أنّ الكسروية الإسلامية استطاعت تزوير جملة من المفاهيم الإسلامية وتحريف البعض الآخر منها بطريقة إلتفافيّة ذكية جانبت المواجهة المباشرة التي تجعلها في صدام مع الرأي العام وتُعرّيها أمامه، فلجأت – بدل الرفض المباشر للنص – إلى التزوير والتلاعب في التفسير مع إيجاد "مظلّة شرعية" و"غطاء ديني" بمؤازرة جملة من وعّاظ السلاطين وفقهاء البلاط.
أنصاف الآلهة
من هذه المفاهيم المزوّرة أو التي طالها التزوير هو مفهوم السلطة نفسها، فقد تمّ إعطاؤه طابعاً غيبيّاً وإضفاء هالة من القداسة المصطنعة عليه، في اعتبار السلطان ممثّلاً للربّ على الأرض، فهو يد الله وظلّه، وصفاته هي عين صفات الله، فالله هو الملك، والسلطان كذلك، والله صاحب الجلالة، وهو كذلك، وإطاعته من إطاعة الله، ومعصيته من معصيته، ولا يكتمل التضليل إلا بإيجاد سند ديني لهذا المفهوم، فقد روي عن رسول الله (ص) قوله: "السلطان ظلّ الله على الأرض.."(1) لكن هذا الحديث على فرض صحّته وتجاوز ما قيل عن ضعفه(2) فهو يرشد إلى ضرورة تخلُّق السلطان بأخلاق الله، بتجسيد مبادئ العدل في الرعيّة واللطف بهم، بعيداً عن التعسُّف والجور، وهو ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث "السلطان العادل المتواضع ظلّ الله ورمحه في الأرض"(3). ومع صرف النظر عن ذلك، فإنّ الذي جرى أنّه قد أُسيئُ فهم الحديث وتطبيقه، وفُسِّر بشكلٍ مغاير لمفاده ومراده، فأعطيت السلطة – وفق التفسير المزوّر – بعداً غيبيّاً ربّانياً يغدو الناس أمامها في موقع العبيد أمام سيّدهم ومالكهم والمنعم عليهم، فإنْ تفضَّل عليهم بشيء فمن منِّه وكرمه، وإنْ أمسك ومَنَعَ فمِن حقِّه.
ويبدو أنَّ هذا المقدار لم يلبِّ كل طموحات السلطة الكسروية، باعتبار أنّ التفسير المذكور قد لا ينطلي على الكثيرين الذين سيرون تنافياً واضحاً وعدم انسجام بين ظليّة السلطان لله سبحانه وبين انغماسه في الشهوات وظلمه للعباد، ولذا ابتدع العقل الكسروي فكرة جديدة تبرّر له انغماسه في الشهوات واستبداده بالسلطة، وهي فكرة "إطاعة السلطان ولو كان فاسقاً جائراً"، وتمّ إسناد هذه الفكرة إلى رسول الله (ص)، فروي عنه (ص) أنّه قال: "يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسُنّتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس، قلت: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإنْ ضَرَبَ ظهرك وأخذ مالك فاسمع..."(4).
والأمر الأكيد أنّ هذا المفهوم كان له تداعيات خطيرة على مستوى الأُمّة؛ لأنّه استطاع تخديرها وشلّ إرادتها وقمع روح التغيير والإصلاح فيها، كما أنّه ساهم في إنتاج الفكر الاستبدادي، بما مهَّد لقمع المعارضة، بل ومنع من تشكّل الفكر المعارض النقدي؛ لأنّ أيّة نواة للمعارضة كان يتمّ استئصالها "بحجّة شرعية" وهي "وجوب إطاعة السلطان"، ولذا لم يشهد تاريخنا الإسلامي حركةَ معارضة جديّة، باستثناء ما جرى في عهد الإمام عليّ (ع) عندما سمح للرأي الآخر أن يعبّر عن نفسه بحريّة، من خلال حركة معارضة جريئة هي حركة الخوارج التي لم تتوانَ عن تكفير الإمام نفسه دون أن يقمعها أو يواجهها أو ينتقص من حقوقها، اللهم إلّا بعد أن تحوّلت إلى حركة انشقاق وأخلَّت بالأمن العام للأُمّة، قال (ع) مخاطباً هذه الجماعة: "كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً"(1).
المفهوم المذكور على طاولة النقد
إنّ مفهوم إطاعة السلطان ولو كان جائراً هو مفهوم مزوّر وغير دقيق على الرغم من وجود بعض المنظِّرين والمروِّجين له، من أمثال عبد الله بن عمر، فقد روي أنّه جاء إلى عبد الله بن مطيع – وهو ممّن ثار على يزيد بعد وقعة الحرّة الفظيعة التي أباح فيها يزيد المدينة ثلاثة أيام لجيشه وقُتل فيها آلاف المسلمين وانتهكت أعراضهم – وأراد ابن مطيع تكريم عبد الله بن عمر، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إنّي لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدِّثك حديثاً، سمعت رسول الله (ص) يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(2).
إنَّ هذا المفهوم لا يتوافق مع المنطق القرآني الذي نهى في العديد من آياته عن إطاعة الظالمين والفاسقين وأهل الإثم والفساد، قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] وقال أيضاً: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151-152]، وهكذا فإنَّ المستفاد من هدي رسول الله (ص) وسُنَّته أنّ وظيفة الأُمّة تقويم السلطان إذا أخطأ، وإصلاح أمره، ورفض انحرافه وظلمه، وضرورة مواجهته بالحق، فإنّ "أفضل الجهاد كلمة عدل أو حق عند سلطان جائر"(3).
وهكذا رأينا أنّ مدرسة أهل البيت (ع) ترفض هذه الفكرة رفضاً قاطعاً وتعتبر أنّ عدالة الحاكم هي المسوّغ الشرعي لبقائه في الحكم، وبفقدها يفقد شرعيّته، وهذا ما يُستفاد من الكتاب الكريم في قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، ومن سنّة الرسول (ص) في قوله: "لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، حلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على مَن يلي..."(1)، وعن أمير المؤمنين (ع): "إنّما هلك الناس حين ساووا بين أئمّة الهدى وأئمّة الكفر فقالوا: إنّ الطاعة مُفترضة لكلّ مَن قام مقام النبيّ (ص) براً أو فاجراً، فأتوا من قبل ذلك، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36](2)، وقد ركَّز الإمام الحسن (ع) على هذا المبدأ، فقال في خطبة له بمحضر معاوية: "إنّما الخليفة مَن سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه وليس الخليفة مَن سارَ بالجوار"(3).
وأما الإمام الحسين (ع)، فإنّه جسّد هذا المبدأ – أعني عدم جواز الخضوع للسلطان الجائر – بفعله قبل قوله، فإنّ ثورته بوجه يزيد واختياره الشهادة على البيعة هو خير برهان على رفض الإسلام شرعية السلطان الجائر وضرورة الخروج عليه، كما إنّه (ع) ركَّز على هذا الأمر في كل مراحل ثورته، ففي كتابه إلى أهل الكوفة يقول (ع): "فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابس نفسه على ذات الله"(4) وفي خطابه لأمير المدينة حين دعاه إلى بيعة يزيد قال (ع): "أيّها الأمير: إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومُختَلَف الملائكة بنا فتَحَ الله وبنا خَتَمَ الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ومثلي لا يُبايع مثله"(5).
ولنتأمَّل جيداً قوله (ع): "ومثلي لا يبايع مثله"، فإنّنا نستفيد منه أنّ القضية عند الحسين (ع) ليست قضية شخصية، ولذا لم يقل وأنا لا أُبايعه، وإنّما قال "ومثلي"، ما يوحي بأنّ كل مَن كان على نهج وخطّ الحسين (ع) وهو خطّ الإسلام لا يمكن أن يبايع "مثله"، أي متَّصفاً بصفات يزيد، ونحو ذلك قوله (ع): "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ بُلِيَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد"(1).
ومن أهم كلمات الإمام (ع) وأوضحها في هذا المجال ما ذكره في كتابه إلى أشراف الكوفة: "من رأى منكم سلطاناً جائراً، مُسْتَحِلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّره بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله، وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله وإنّي أحقّ بهذا الأمر"(2)، فهذا النص صريح في أنّ الوقوف بوجه السلطان الجائر ومعارضته بالفعل والقول هو خطّ رسول الله ومنهجه، وعليه فكل ما ينسب إليه (ع) وأنّه نهى عن الخروج على السلطان الجائر، ولزوم إطاعته أو نحو ذلك، هو إمّا كلام مكذوب على رسول الله (ص)، أو أنّه ناظر إلى صورة ما إذا كان النهوض غير مُجدٍ، أو كانت الأولوية لرصّ الصفوف الداخلية في مواجهة أخطار الخارج التي تحدّق بالإسلام والمسلمين، وذلك على قاعدة أمير المؤمنين (ع): "لأسلمن ما سَلِمَتْ أمور المسلمين"(3).
ارتدادات المفهوم
وعلى الرغم من سلبيات المفهوم المشار إليه حول ظلّية الحاكم لله، فإنّه إلى الآن لم يُفنَّد أو يرفض، بل لا تزال امتداداته مستمرة وارتداداته قائمة، فالحكم في بلاد المسلمين ما زال حكراً على "العائلات المالكة" والحكومات المستبدّة، وما فتئ وعاظ السلاطين ينظّرون لثقافة التسليم والانقياد لأولياء الأمور والرضوخ لهم والدعاء بأن يمدُّ الله في أعمارهم "المباركة"، وإنّها لدلالة ذات مغزى أن تجد قواميسنا السياسية والدبلوماسية ملأى بألقاب الجلالة والفخامة والعظمة والسمو والمعالي وألفاظ الاسترحام والاستعطاف وما إلى ذلك، ممّا قد لا تجده في لغة أخرى، كما أنَّ آداب التخاطب والتعارف مع السلطان تأخذ – لدينا – طابع الانحناء والخضوع وتقبيل الأيدي وربّما الأرجل، هذا مع أنَّ صفات العظمة والكبرياء التي يسبغها هؤلاء الحكّام على أنفسهم أو نسبغها عليهم لا نرى لها ترجمة عملية في مواجهة أعداء الأُمّة ومغتصبي أرضها، وإنّما تتمّ ترجمتها ونرى آثارها في مواجهة أبناء الأُمّة، ما يذكّرنا بما قاله بعض الشعراء في وصف أُمراء الأندلس وحكّامها:
ممّا يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد(1)
إنّ القصة هي قصة هذا الإدمان على العبودية والرقيّة ممّا لا نجد تفسيراً له إلا في ثقافة الاستعباد التي تمّ إدخالها في تكوين شخصية المسلم، وتركت بصماتها في اللاوعي لديه، ولذا تمّ التعامل مع الفقيه عندما اعتلى عرش السلطة بالطريقة نفسها والآداب والرسوم عينها التي يتعامل بها مع السلطان من تقديم فروض الطاعة والاحترام له، إلى إسباغ الهالة القدسية عليه، بما يمنع من مناقشته ونقده، في استبعاد واضح لكل المنطق الإسلامي باعتبار الحاكم – كما المحكوم – تحت سقف القانون والمساءلة، وفي الدعوة إلى قيام الأُمّة بدور النقد والتسديد والرقابة المستمرة لتصرّفات الحاكم.
عليّ ومواجهة النهج الكسروي
وقد قدّم الإمام عليّ (ع) مثلاً أعلى في هذا المقام، فإنّه – اقتداء برسول الله (ص) – أضفى على السلطة بعداً إنسانياً شعبياً، نازعاً عنها هالة القداسة والغيبية، ووضع الحدود الفاصلة بين السلطة الكسروية والسلطة الشعبية، قال (ع): "فلا تكلِّموني بما تكلَّم به الجبابرة ولا تتحفَّظوا منّي بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنُّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، أو التماس إعظام لنفسي، فإنّه مَن استثقل الحقّ له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل..."(1).
إنّ السلطة التي ينشدها عليّ (ع) ترفض النهج الكسروي في إدارة الحكم، لأنّه نهج يرى في الحاكم جبّاراً وملكاً فوق القانون والمساءلة، وتعتمد النهج الإسلامي الذي يرى في الحاكم مسؤولاً عن إدارة الأمور أمام الله وأمام الجماهير، وهو كغيره من الناس يخضع لسلطة القانون والمساءلة من الأُمّة، ويتمايز هذان النهجان وفق النصّ المتقدّم في عدّة أمور:
1- على مستوى أسلوب الخطاب مع الحاكم "فلا تكلِّموني بما تكلَّم به الجبابرة"، فلا تبجيل ولا تعظيم ولا مبالغة في مخاطبة الحاكم، خلافاً لما هو الحال في النهج الكسروي.
2- على المستوى النفسي، ففي النهج الإسلامي "ولا تتحفَّظوا مني بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة"، وأهل البادرة هم أهل السيف، أمّا في النهج الكسروي، فإنّ الخوف يتملَّك المرء عند مواجهة السلطان، فيتحفَّظ ويحترز كثيراً في أقواله وأفعاله، خشية أن يبطش به السلطان ويناله منه الضرر.
3- على مستوى آداب التعامل "ولا تخالطوني بالمصانعة"، فلا تزلف ولا تصنع خلافاً للنهج الكسروي في الحكم، فإنّ الممالأة والمصانعة هي أسلوب التعامل مع السلطان.
4- على مستوى النقد والمحاسبة "ولا تظنُّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي... فلا تكفّوا عن مقالة بحقِّ أو مشورة بعدل"، فالنقد والمشورة حقّ للأُمّة في منظار عليّ، أمّا النهج الكسروي فإنّه يصادر هذا الحقّ، ويعتبر النقد تطاولاً وتجريحاً ومسّاً بكرامة الحاكم.
2- مفهوم الحياد أو الاعتزال
ويأتي على رأس هذه المفاهيم مفهوم العزلة أو ما يصطلح عليه اليوم بالحياد الذي كان الكثيرون يتستّرون به، هرباً من نصرة الحق وبذل المال والنفس في مواجهة الباطل، وإنّنا نلاحظ أنّ فكرة الاعتزال قد ظهرت في عهد أمير المؤمنين (ع)، حيث اعتزله جماعة ولم يشتركوا معه في حروبه ولا انحازوا إلى أعدائه، بل اختاروا الجلوس على التلّ، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر وسعيد بن مالك، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ الحارث بن حوط أتى أمير المؤمنين فقال: أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال (ع): "يا حارث إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحِرْت، إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف مَن أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه". فقال الحارث: فإنّي اعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، فقال (ع): "إنّ سعداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحقّ ولم يخذلا الباطل"(1). فهو (ع) يريد التأكيد على أنّ معركته هي معركة الحق ضدّ الباطل "عليٌّ مع الحق والحق مع عليّ"(2). وعندما يكون الصراع صراع حقّ وباطل، فالمطلوب من كل مسلم أن يخذل الباطل وينصر الحق، لا أن يكون حيادياً؛ لأنّه لا حيادية بين الحق والباطل.
نعم إنّما يكون الحياد أو الاعتزال مبرّراً شرعاً في جوّ الفتن التي لا يعرف فيها الحق من الباطل، فحينئذٍ يكون الموقف كما قال أمير المؤمنين (ع): "كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب"، ولكن هذا لا ينطبق على معركة عليّ (ع) مع خصومه، ولا معركة الحسين (ع) مع يزيد وأتباعه.
وهكذا قد تكون العزلة محمودة في مورد آخر وهو ما إذا كانت تمثّل الفرصة المثلى لحفظ الدين وحماية النفس عن الانحراف أو السقوط تحت ضغط الواقع الفاسد، وهذا ما امتدح به الله سبحانه الفتية من أهل الكهف، قال سبحانه: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} [الكهف:16].
ومن جهة ثالثة فإنّ العزلة ربّما مثّلت احتجاجاً على الواقع الفاسد ومدخلاً لإثارة الأسئلة الفكرية في محاولة لإيقاظ الضمائر والعقول وتحفيزها على التفكير، والعودة إلى الذات والاستجابة لنداء الفطرة، ولعلّ هذا هو السرّ وراء اعتزال خليل الله إبراهيم (ع) عن قومه، قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً*فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} [مريم : 48- 49].
وفي هذا السياق نفهم الروايات التي تعتبر العزلة نوعاً من العبادة، أو أنّ فيها سلامة الدين، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "العزلة عبادة"(1) وعنه (ص) "العزلة سلامة"(2) وعن أمير المؤمنين (ع): "سلامة الدين في اعتزال الناس"(3).
أمّا فيما عدا ذلك، فإنّه لا محلَّ شرعاً للعزلة، بل ربّما شكّلت خيانةً للأُمّة وتخاذلاً عن نصرة الحق، وإنّنا نعتقد أنّ ثورة الإمام الحسين (ع) بما تمثّله من شرعيّة إسلامية قد فضحت هذا المفهوم، فَضَحَته بمواقف رجالاتها وأبطالها الذين أبوا الجلوس على التلّ، أو أن يسمعوا داعية الحسين (ع) دون أن يجيبوه، وقد سجّلت بعض النصوص والزيارات(4) إدانة ليس فقط للذين شاركوا في قتل الإمام (ع) وأهل بيته، بل لكلّ الذين سكتوا عن نُصرته، أو رضوا بقتله؛ لأنّ "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم" كما قال أمير المؤمنين (ع)(5)، وقد ظهرت ثمرة ذلك سريعاً، فأحسّ المجتمع الكوفي بالندم وسيطر هذا الشعور على النفوس التي سرعان ما تفجّرت غضباً في وجه قتلة الإمام (ع) من خلال حركة التوابين، في محاولة لتلافي التقصير، والتكفير عن الذنب الكبير في خذلانه وتركه وحيداً في أرض الطفوف.
3- عقيدة الجبر
ومن جملة المفاهيم العقائدية الخاطئة التي ساهمت إلى حدٍّ معيّن في تخدير الأُمّة الإسلامية وشلّ إرادتها وتقاعسها عن نصرة قضايا الحق والعدل: مفهوم "القضاء والقدر" الذي قُدِّم وفُسِّر بطريقة خاطئة، ليصبح مرادفاً لفكرة الجبر وسلب إرادة الإنسان، هذا على الرغم من أن أصل المبدأ (مبدأ القضاء والقدر) صحيح وسليم، وقد أكّد القرآن عليه في عدّة آيات، قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، وقال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2-3]، والقضاء بمعنى "فصل الأمر قولاً كان أو فعلاً"(1)، و"القدر والتقدير: تبيّن كمية الشيء"(2)، وفي الخبر عن الإمام الرضا (ع) وقد سأله يونس عن معنى القدر فقال: "هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، ثم قال: والقضاء: هو الإبرام وإقامة العين"(3).
الخلفيّة السياسية لعقيدة الجبر
ربّما كان تبنّي بعض الناس لعقيدة الجبر منطلقاً من جمودهم على بعض الظواهر، أو سوء فهمهم لبعض الآيات القرآنية التي تتحدَّث عن عموم قدرة الله تعالى كقوله: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وغيرها من الآيات التي يتراءى منها لأول وهلة أنّ الله سبحانه هو الخالق لأفعال الإنسان بما قد يسلبه الاختيار، وطبيعي أنّ هذا الفهم خاطئ ومرفوض؛ لأنّ خالقيّته تعالى لأفعال العباد لا تعني سلب الاختيار عن الإنسان ليُصبح مجرّد آلة، بل الفعل صادر عن العبد باختياره، ومع ذلك يصحُّ نسبته إلى الله سبحانه، بلحاظ مالكيته للإنسان ولكلّ أفعاله، وهو الذي أعطاه القدرة والقوّة على الفعل حتى في حال صدور المعصية منه، وهذه النظرية هي التي تسمى بنظرية "الأمر بين الأمرين" التي أكّد عليها أئمة أهل البيت (ع) وعُرفوا بها في مقابل نظريتَي الجبر والتفويض.
لكنّ البعض الآخر من القائلين بالجبر لم تكن القضية عندهم قضية التباس في فهم بعض الآيات القرآنية، وإنّما هم ينطلقون من خلفيات غير سليمة، وربّما تمسّكوا ببعض الظواهر القرآنية تهرُّباً من مسؤولياتهم وتبريراً لتفلُّتهم وانحرافاتهم، وقد أخبر النبيّ (ص) عن هذه الفئة بقوله – فيما روي عنه - : "سيأتي زمان على أُمّتي يؤوِّلون المعاصي بالقضاء، أولئك بريئون مني وأنا بريءٌ منهم"(1).
كما أنّ فئة ثالثة يقف وراء تمسُّكهم بهذه العقيدة هدف سياسي سلطوي، وهو محاولة تبرير تسلُّطهم على رقاب الناس، والسعي إلى تحييد الجماهير عن ساحة الصراع؛ لأنّ هذه العقيدة إذا ما بُثّت في الأُمّة فإنّها تمهِّد لتخدير الناس ودفعهم إلى اليأس من إمكانية التغيير السياسي والاجتماعي، بحجّة أنّ الله هو مالك المُلك يؤتي المُلك مَن يشاء ويَنزِع المُلك عمّن يشاء ويذلّ مَن يشاء ويعزّ من يشاء.
ولهذا رأينا أنّ السلاطين الأمويين ومَن سارَ في ركابهم كانوا على رأس المروِّجين لهذه العقيدة، ليقولوا للناس: إنّ الله هو الذي قدّر أن يكون معاوية أو يزيد خليفة للمسلمين، ولا مردّ لقضاء الله وقدره! وأنّ ما جرى على الحسين (ع) في كربلاء كان بتقدير الله وفي علمه وإرادته، فلا تلقوا باللائمة على يزيد أو ابن زياد أو عمر بن سعد! إلى غير ذلك من الأغراض السياسية التي أُريد تمريرها تحت غطاء عقيدة يُدَّعى انتسابها إلى القرآن والإسلام، وقد عرف عن معاوية أنّه: "أول من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها" ولمّا عيّن ابنه يزيد خليفة للمسلمين واعترض عليه عبد الله بن عمر أجابه: "إنَّ أمْرَ يزيد قد كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم"(2).
وعلى نفس المنوال سار يزيد، فإنّه لما ورد عليه موكب السبايا، قال مخاطباً الإمام زين العابدين (ع): "يا ابن حسين، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت"(3). فيزيد يعتبر أنّ ما جرى على الإمام الحسين (ع) وأهل بيته في كربلاء هو ممّا صنعه الله بهم لا ممّا جَنَته يداه الآثمتان، وبنفس هذه اللغة تكلّم عُبَيْد الله بن زياد مع العقيلة زينب (ع)، فإنّه لما أدخلت عليه إلى قصر الإمارة في الكوفة قال لها: "كيف رأيتِ صُنْعَ الله بأخيك وأهل بيتك" فقالت: "ما رأيتُ إلّا جميلا..."(1)، فهو – إذن – صنع الله، وليس صنع ابن زياد!
المشركون والأحبار وعقيدة الجبر
ونلاحظ أنّ بعض الآيات القرآنية نصّت على أنّ المشركين كانوا يبرِّرون شركهم وعبادتهم للأصنام بإرادة الله لهم ذلك، قال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام:148]، ونقل عنهم أيضاً: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20]، ما يعني أنّ هذه العقيدة الباطلة كان لها انتشار في الوسط الجاهلي، وربّما ظلّت رواسبها في أذهان البعض حتى بعد إسلامهم.
وتشير بعض الشواهد التاريخية إلى أنّ وهب بن منبه، وهو من مسلمة أهل الكتاب الذين أكثروا النقل والرواية عن الإسرائيليات، كان من المروّجين لفكرة الجبر ونفي الاختيار عن الإنسان، حيث يقول: "كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعاً وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلّها: مَن جَعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر فتركت قولي" (2).
آل البيت (ع) ومحاربة عقيدة الجبر
ونجد عند مراجعتنا للمصادر الروائية والتاريخية، أنّ لهذه العقيدة أنصاراً في عهد أمير المؤمنين (ع) الذي قام كسائر أئمّة أهل البيت (ع) بمحاربتها وتفنيدها وبيان بطلانها ومنافاتها للقرآن الكريم وسنّة الرسول (ص)، فقد روي أنّه جاء رجل – والملفت أنّه شامي كما جاء في نهج البلاغة – إليه بعد انصرافه من حرب صفّين، فقال له: "يا أمير المؤمنين خبِّرني عمّا كان بيننا وبين هؤلاء القوم من الحرب، أكان بقضاءٍ من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين (ع): "ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلّا ولله فيه قضاء وقدر". فقال الرجل: فعند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين! فقال له: ولِمَ؟ قال: إذا كان القضاء والقدر ساقانا إلى العمل، فما وجه الثواب لنا على الطاعة، وما وجه العقاب لنا على المعصية؟ فقال له أمير المؤمنين (ع): "أوَ ظَنَنت يا رجل أنّه قضاء حتم وقدر لازم، لا تظن ذلك، فإنّ القول به مقال عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها، إنّ الله تعالى أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السماء الأرض وما بينهما باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [صـ : 27]"، فقال الرجل: فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال (ع): "الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة، وترك السيّئة والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، كلّ ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا، فأمّا غير ذلك فلا تظنّه، فإنّ الظنّ له محبط للأعمال": فقال الرجل: فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك، وأنشأ يقول:
أنتَ الإمام الذي نرجو بطاعته يوم المآب من الرحمن غفرانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً جزاك ربّك بالإحسان إحسانا(1)
ويبقى لثورة الحسين (ع)، دور كبير في تفنيد هذه العقيدة ومحاربتها، فقد جسّدت هذه الثورة بالفعل لا بالقول مبدأ اختيار الإنسان وحريّته في تحديد مصيره ومساره، كما أنّها- أي الثورة الحسينية- أكّدت على هذه الحقيقة من خلال امتداداتها، فقد ذُكر في كتب السيرة أنّه لما أدخل السبايا على ابن زياد التفت إلى عليّ بن الحسين (ع) وقال من هذا؟ قيل: عليّ بن الحسين، فقال: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟!
فقال له عليّ: "قد كان لي أخٌ يسمى عليّ بن الحسين قتله الناس"، فقال ابن زياد: بل الله قتله! فقال عليّ (ع): {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، فقال: ابن زياد وبك جرأة على جوابي، اذهبوا به فاضربوا عنقه(2). وهكذا نستطيع أن نقول أيضا: إنّ كل الثورات والحركات التي قامت بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) كانت خير تعبير على نجاح هذه الثورة في إعادة الحريّة والإرادة إلى الأُمّة وإسقاط نظرية الجبر من نفوس الثائرين والأحرار.
4- التباس مفهومَي الثورة والفتنة
ومن جملة هذه المفاهيم أو الشعارات التي تمّ توظيفها بطريقة تخوينيّة تهويليّة في مواجهة حركة الإمام الحسين (ع) شعار "الحفاظ على وحدة الأُمّة" وذلك بتصوير الحسين (ع) رجلاً يسعى للفرقة وتشتيت الكلمة وتمزيق الصفوف، في محاولة لتأليب الرأي العام الإسلامي ضدّه وإفقاد حركته الصبغة الشرعية، وإسباغها لبوساً انشقاقياً ضيّقاً، ويبدو أنّ معاوية هو أول مَن رمى حركة الحسين (ع) بهذه التهمة، فقد جاء في رسالة وجّهها إليه: "أنظر لنفسك ولدينك ولِأُمّة محمد، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأن تردّهم إلى فتنة"(1).
وهكذا فعل نائب الحرمين عمرو بن سعيد الذي وجّه إلى الإمام (ع) رسالة يحذّره فيها من الشقاق(2)، وقد نسج عبد الله بن عمر على نفس المنوال حيث كان يرى أنّ على الإمام "أن لا يتحرَّك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس فإنَّ الجماعة خير"(3).
والأمر عينه فعله عبيد الله بن زياد مع مسلم بن عقيل، فقد خاطبه بعد أسْره وإحضاره إليه: "يا شاق، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة"، فأجابه مسلم: "كذبت يا ابن زياد إنّما شقّ عصا المسلمين أنتَ وأبوك زياد"(4)، ولا عجب أن يُتَّهم الحسين (ع) بأنّه يشقّ عصا المسلمين، فقد اتُّهم بذلك والده أمير المؤمنين (ع)(5).
وفي دراستنا لهذا المفهوم الملتبس، عنيتُ به مفهوم "شق عصا الأُمّة"، الذي أُريدَ به التعمية على إسلامية الثورة الإسلامية وأصالتها القرآنية، لا بدّ لنا أن نتوقّف وقفتين أساسيتين، تدور الوقفة الأولى حول بيان المفهوم المذكور وتحديد المائز بينه وبين الثورة، بينما نطلّ في الوقفة الثانية على إسلامية الثورة الحسينيّة، مع بيان الأُسُس التي نتعرّف من خلالها على إسلامية أيّ ثورة أو حركة نضالية.
أولاً: مفهوم "شقّ الصف" في الميزان الشرعي
لا يرتاب مسلم في أنّ شقّ عصا الأُمّة وتشتيت كلمتها وتمزيق صفوفها هو من كبائر الإثم والمعاصي، كيف وقد حثّ القرآن الكريم على جمع الشمل والاعتصام بحبل الله، ونهى عن التنازع والتناحر، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وهكذا فإنّ النبيّ (ص) حذّر من الخروج على الجماعة فقال (ص) فيما روي عنه: "مَن خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(1)، وفي حديثٍ آخر عنه (ص): "مَن شقّ عصا المسلمين، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(2)، وعنه (ص): "مَن آتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه" (3).
بيد أنّ الأمر الجدير بالبحث والتأمُّل هو معرفة المراد من "شقّ عصا الأُمّة"، فهل أنّ كلّ حركة ثورية تواجه السلطان تعتبر حركة انشقاقية مذمومة؟ وهل أنّ شقّ العصا المذموم يعني السكوت على الظلم والمنكر وإقرار الواقع الفاسد؟ ثمّ هل من الصحيح والجائز وضع نهضة الإمام الحسين (ع) في خانة الحركات الانشقاقيّة؟
المائز بين الفتنة والثورة
وفي الإجابة على ذلك نقول: إنّ ثمّة فارقاً شاسعاً ومائزاً بيّناً بين الفتنة والثورة من جهة، وبين شقّ العصا والمعارضة الاحتجاجية على ممارسات الحاكم الجائر والمُستبدّ من جهة أخرى، ولا يجوز الخلط بين هذا وذاك، فالفتنة تكون في حالة عدم تمييز الحق عن الباطل، وعلى الإنسان أن يكون فيها حيادياً كما أسلفنا، أما الثورة والجهاد بالسلاح والعتاد، أو بالكلمة والموقف فيكون في حالة الصراع بين الحقّ والباطل، وهذا أمرٌ محبوب بل هو واجب وفعل جهاد، وقد ورد "إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"(1) ولا يجوز للإنسان أن يكون حيادياً بين الحقّ والباطل.
ولطالما عَمِلَ الظالِم والحاكِم المستبدّ على تمييع المفاهيم والتلاعب بالمصطلحات وقلب الحقائق واستغلالها استغلالاً سيّئاً، بغية قمع كلّ تحرك شعبي معارض لحكمه وكمّ الأفواه المندّدة بظلمه، وهكذا تحوّل مفهوم "شقّ العصا" إلى عصا غليظة لجلد المعارضين والأحرار، وغدا عنوان "الفتنة" حجّة لزجّ الثائرين والأحرار في غياهب السجون، كما أصبح شعار "ضرورات الصراع" ذريعة لتأخير عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي إلى ما شاء الله!..
مصطلح الإرهاب
وهذا ما فعلته دوائر الاستكبار في أيامنا من إطلاق مصطلح "الإرهاب" على معارضي سياساتها بما في ذلك حركات التحرُّر في العالَم وطالبي العدالة، واعتبر "الإرهاب" جريمة يُعاقب عليها القانون العالمي، مع أنّه إلى يومنا لم يتم وضع تعريف قانوني واضح للإرهاب، لأنّ وضع تعريف قانوني دقيق سوف يُفرِّق بين أعمال الإرهاب حقاً التي يندفع أصحابها إلى قتل الأبرياء وترويع الآمنين والتعدّي على الممتلكات العامة أو الخاصة، وبين حركات المقاومة والتحرُّر التي تريد تحرير الأرض والإنسان من نير الاحتلال، إنّنا دون أدنى شكّ ندين الإرهاب ونعتبره جريمة نكراء وهو في بعض وجوهه يدخل فيما يُسميّه فقهنا الإسلامي "بالحرابة" أو "الإفساد في الأرض" وهو عمل يجرّمه القانون الإسلامي ويعاقب عليه عقوبةً لا تصل إليها عقوبةً أخرى، وهي التي نصّت عليها الآية الثالثة والثلاثون من سورة المائدة، إلّا أنّنا في الوقت عينه نرفض تمييع المصطلح بغية استخدامه في غير موضعه بما يخدم مصالح المستكبرين.
الضوابط والسياقات
وفي ضوء ما تقدَّم يتّضح أنّ الأساس في وصف حركة معيّنة بأنّها حركة انشقاق وفتنة وإرهاب، أو حركة مقاومة وتحرُّر، أن ننظر إلى واقع الأمور لا إلى مجرّد الشعارات والكلمات المعسولة؛ لأنّ للباطل علاماته وللحقّ علاماته وموازينه، وربّ حركة إذا تمّت وفق ضوابط خاصة وضمن سياقات معيّنة وظروفٍ محدّدة تكون حركة تحرّر أو عملاً نهضوياً، ولكن إذا اختلفت الظروف وتبدّلت السياقات تغدو عملاً فتنوياً أو انتحارياً. والضابط الأساسي في هذا المجال: أنَّ التوحّد واجتماع الكلمة إذا كان على الخير والهدى ومصلحة الأُمّة وحفظ النفس والدين والعرض ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف فهو أمر مطلوب وواجب، والخروج على وحدة من هذا النوع مرفوض وغير مبرَّر عقلاً ومنطقاً وديناً، وبالمقابل فإنَّ الاحتجاج والاعتراض إذا كان على الظلم والعدوان وتجاوز القِيَم والمبادئ، فإنّه لا يعدّ عملاً انشقاقياً مذموماً، بل هو أمر مطلوب وواجب ولو كان فيه خروج على إجماع الأُمّة وخرق لوحدتها؛ لأنّ الإسلام يرفض القاعدة القائلة:
سلامٌ على كفرٍ يُوَحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنَّم
لأنّها قاعدة لا تستند إلى منطق ولا يعضدها عقل أو دين.
الحسين (ع) قائد ثورة لا طالب فتنة
ووفقاً للمعيار والضابط المتقدّم يصبح واضحاً أنّ حركة الإمام الحسين (ع) هي حركة ثائر ومجاهد يريد تصحيح الفساد وتقويم الانحراف الذي دبّ في جسم الأُمّة، وليست حركة شخص باغٍ للفتنة أو السلطة أو الشهرة، وإنّ دراسة تاريخية بسيطة لواقع الأُمّة الإسلامية آنذاك وما وصلت إليه الأمور من انحراف خطير عن مسار الرسالة وأحكام الشريعة وتعاليمها، ما مثّل – كما سلف – انقلاباً شاملاً ورِدّة كاملة على مبادئ الإسلام انطلقت من رأس الهرم والسلطة، ولاسيما بعد تولّي يزيد المعروف بفسقه وفجوره لخلافة المسلمين، مع ما جرَّته خلافته هذه على الأُمّة من ويلات وكوارث، إنّ دراسة بسيطة لذلك كفيلة بتصديق وتأكيد ما نقوله من أنّ حركة الإمام الحسين (ع) كانت أكثر من مطلوبة وواجبة؛ لأنّها حركة إصلاح وتغيير، ولا يصحّ بحال من الأحوال أن تُوصف بأنّها حركة انشقاقية أو حركة فتنة، وإنّنا نقول هذا الكلام مع غضّ النظر عن موقفنا المبدئي القاضي بأنّ الحسين (ع) هو مصدر الشرعيّة، واستناداً إلى مواقفه تُقاس أفعال الآخرين وسلوكهم، دون العكس.
ويمكننا تجاوز ما قلناه من أنّ حركة الإمام الحسين (ع) هي حركة ثورة وإصلاح لا حركة فتنة وانشقاق، لنقول أكثر من ذلك: إنّ النهضة الحسينية استطاعت رفع الالتباس بين مفهومي الثورة والفتنة ورسمت الحدّ الفاصل بينهما، ووضعت مفهوم "شقّ عصا" المسلمين في سياقه ونصابه الصحيح، ليغدو واضحاً أنّ الطرف الآخر المُعادي للإمام (ع) هو صاحب الفتنة وهو الذي يشقّ عصا الأُمّة، ولذا جاء في رسالة الإمام الحسين (ع) إلى معاوية – رداً على رسالته التي يحذّره من شقّ العصا: - "وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها" (1).
وفي ردّه على رسالة عمرو بن سعيد التي حذّره فيها من الشقاق كتب عليه السلام إليه: "إنْ أردت بكتابك برِّي وصلتي فخُزيت خيراً في الدنيا والآخرة، وإنّه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين" (2)
.
ثانياً: إسلامية الثورة الحسينية
إنّ من نافل القول: إنّ ثورة الإمام الحسين(ع) في أبعادها المختلفة ودلالاتها المتنوعة هي ثورة إسلامية بامتياز، فهي منسجمة تمام الإنسجام مع مبادىء الشرعيّة الإسلامية ، بل هي مصدر الشرعية وبها تقاس الشرعية، إلا أننا في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمة نشعر أنّ إسلامية هذه الثورة تغيب في خطاب بعض الناس، ولا نجدها حاضرة عند آخرين، الأمر الذي يحتم علينا - بحكم انتمائنا إلى الحسين(ع) روحاً وفكراً وعاطفة- أن نستحضر هذه الإسلامية ونبيّن عمقها وامتدادتها وتجلياتها.
وإسلامية الثورة - أية ثورة- لا تتمثل بمجرد انتماء أصحابها رسمياً إلى الإسلام، ولا بادعاءات فارغة، أو شعارات رنانة، بل إنّ إسلامية الثورة تتمثل في:
1) إسلاميّة القيادة.
2) إسلاميّة القضية والشعار والهدف.
3) إسلامية الممارسة الثورية.
والمتأمل في ثورة الإمام الحسين(ع) سيكتشف أنّ هذه العناصر الثلاثة متوفرة بشكل لا لبس فيه، وفيما يلي نوضح ذلك:
إسلامية القيادة
أمّا العنصر الأول وهو إسلامية الرمز والقائد، فغير خفي أننا أمام قائد إسلامي غير عادي، فهو أحد أبناء البيت الإسلامي الأول، وهو البيت الذي قام الإسلام على أكتافه، فالحسين(ع) تربية رسول الله (ص) وإعداده، درج في بيته، وتربى في حجره، وقد ألقمه (ص) الإيمان مع الحليب، كما إنّه ابن أول الناس إسلاماً وأشدهم عزيمة وشكيمة، عنيت به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وهوأيضا ابن سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة، فاطمة الزهراء(ع)، وهذه التربيّة والإعداد النبوي لشخصية الإمام الحسين(ع) جعلته يعيش منذ طفولته هموم الدعوة الإسلامية ويواكب انتصاراتها وأفراحها وأتراحها وكل حركيتها..
وفوق ذلك كله، فإنّ رسول الله قد منحه - بجدارة - العديد من الأوسمة التي لم يمنحها لغيره من صحابته، فهو سيد شباب أهل الجنة، "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وهو مع أخيه الحسن (ع) إمام قام أو قعد، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(1). وأخال أن رسول الله (ص) وهو يطلق هذه الكلمة أو تلك وهو الذي لا يطلق الكلام جزافاً {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] كان يستشرف المستقبل الآتي لينبّه الأمة في قادم الأيام وعند اشتباك الأمور وتشابه المواقف واحتدام الفتن أنّ عليها التمسك بالحسين (ع) فهذا ما تعنيه كلمة النبيّ (ص) أن الحسين(ع) إمام على كل حال، أو أنّه سيد شباب أهل الجنة، فهو المرجع الذي لا بدّ للأمة أن تعود إليه وتتمسك بعراه، وبذلك تعتصم الأمة من الضلال والانحراف، لأن سيد شباب أهل الجنة لا يمكن أن يقودهم إلى ردى أو يوقعهم في الضلال، وإلاّ فكيف يكون سيد شباب أهل الجنة؟!
وهذا المعنى يدل عليه بوضوح قول رسول الله(ص) الآخر فيما يروى عنه: "الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة"(1)، فأن يكون الحسين سفينة النجاة معناه أن الركوب في هذه السفينة فيه منجاة الأمة من هلاك الآخرة والعصمة من فتن الدنيا، وهذا المعنى هو ما يدل عليه أيضا حديث الثقلين بوضوح: "إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" (2).
إسلامية القضية والشعارات والأهداف
ولو جئنا إلى العنصر الثاني وهو إسلامية الثورة من جهة القضية والأهداف والطروحات، فإننا نرى أنّ الشعارات التي رفعتها الثورة الحسينية ليست شعارات مذهبية ولا عشائرية، بل شعارات قرآنية إسلامية بكل ما تعنيه كلمة الإسلامية من معنى، ونرى أيضاً أنّ المبادىء والقيم والتطلعات التي استهدفتها ليست مبادىء مادية أو تطلعات سلطوية، بل هي مبادىء إنسانية، وإليك بعض الأمثلة على سمو المعنى وأخلاقية الهدف الذي طرحته الثورة وتطلعت إليه:
1- عنوان الإصلاح: في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية يقول أبو عبد الله الحسين(ع): ".. وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" (1)، فالإصلاح هو مهمة الأنبياء وطموح المرسلين، كما حدثنا الله تعالى عن أنبيائه: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]
ولنا أن نتساءل: ما الذي استهدفت هذه الثورة إصلاحه؟
هذا سؤال هام ويحتاج إلى إجابة بمستواه من الأهمية، ولكني أعتقد أنها هدفت إلى إصلاح الكثير من الانحراف على مستويات عديدة، على المستوى الفكري والسلوكي والإجتماعي والسياسي..، وعلى كافة الأصعدة، على صعيد الأمة و الفرد.. أراد الحسين (ع) إصلاح النفوس .. وإصلاح تزوير النصوص.
2- مواجهة الظالمين والمستكبرين: ومن أهم أهداف الثورة الحسينية وعناوينها: عنوان مواجهة الظلم والظالمين، وهذا العنوان حاضر في الشعارات التي رفعتها هذه الثورة، وهذا ما أكدّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113].
3- تغيير الواقع المنحرف: جاء في تاريخ الطبري: "أنّ الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنّ رسول الله(ص) قال: "من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله(ص) يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألاّ وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيّر"(2 ).
وهنا نتذكر كلام والده أمير المؤمنين(ع): "اللهم إنك تعلم أنّه لم يكن الذي الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلمون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك"(1). إنّ قضية التغيير (تغيير الواقع الفاسد) هي هدف قرآني إسلامي إنساني.
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والآلية التي تستخدم لتطبيق العناوين المتقدمة هي آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول أبو عبد الله الحسين(ع) في تتمة كلامه الآنف حول الإصلاح: ".. أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي(ص) وأبي علي بن أبي طالب (ع)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين"، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو الطريقة العملية التي يتجسد من خلالها الإصلاح- هو الآخر عنوان قرآني بامتياز، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]، وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...} [آل عمران:110]، وقال تعالى في آية أخرى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وتجسيداً لمبدأ رفض المنكر فقد أعلن الحسين(ع) رفضه بيعة يزيد، لأنها مثال واضح وجلي للمنكر: "أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله" (2).
ولا يخفى التداخل الكبير الحاصل بين العناوين المتقدمة، وهو تداخل لا يعنينا حالياً بيان حدوده، لأننا حالياً بصدد بيان إسلامية العناوين والشعارات، بصرف النظر عن تحليل أبعادها وحدودها.
5- كرامة الإنسان وعزّته: وهذا العنوان هو من أهم العناوين الإنسانية التي رفعتها ثورة الحسين (ع)، يقول أبو عبد الله الحسين (ع): "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام". إنّ شعار "هيهات منّا الذلّة"، هو أيضاً شعار قرآني، يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، وقد فوّض الإسلام إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، وإنّ كل من يعمل على إذلال الإنسان وإهانته فهو مدان في مدرسة الحسين (ع) ولو كان يلطم على الحسين (ع) ويبكيه.
معوقات أمام إمتدادات الثورة إسلامياً وإنسانياً
أمام هذه العناوين القرآنية والمنطلقات الإسلامية والإنسانية لنهضة الحسين (ع) لا بدّ لنا أن نستغرب محاولات تفريعها من مضمونها أو مسخ معانيها أو تشويه صورتها وسجنها في إطار ضيق، وهذا ما قد يفعله بعض الناس جهلاً، وربما يفعله آخرون حقداً، إنّ ما نستنجه مما تقدم:
إنّ الحسين (ع) هو إمام المسلمين ومقتدى الأحرار وليس ملكاً لطائفة معينة، أو جماعة بعينها، وعليه، فلا يجوز احتكار الحسين (ع)، أو الإستئثار بثورته، وإنّ أكبر تشويه لثورته هو محاولة مذهبتها، أو وضعها في إطار غيبي لا يفهمه أحد، أو تقديم الإمام (ع) باعتباره صاحب مشروع انتحاري، أو ما إلى ذلك من تحليلات تحرف الثورة عن مسارها، ومن أسوأ هذه التحليلات ما يقوله البعض من أنّ مزاج الحسين (ع) كان حاداً وثوريا، بخلاف أخيه الحسن (ع) فإنه كان هادئاً وديعاً، ولذلك هادن الحسن (ع) وقاتل الحسين(ع)، فهذا يعبر عن جهل كبير، لأن الحسين (ع) في قضايا الأمة لم يكن لينطلق من منطلقات شخصية ولا من اعتبارات مزاجية انفعالية، وهكذا كان الحسن (ع) أيضاً، وعندما قرر الحسن (ع) أن يهادن أو قل أن يختار الصلح بشروط معينة، فلأنّ المصلحة الإسلامية كانت تقتضي اختيار هذا الموقف، ولو كان الحسين(ع) آنذاك في موقع القيادة لفعل ما فعله الحسن (ع)، بل إنّ الحسين (ع) وافق أخاه الحسن على صلحه وأمضى شروط أخيه ورفض أن يثور حتى توفي معاوية، لأنه رأى كما رأى الحسن من قبل أن لا مصلحة في الحراك والثورة في زمن معاوية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الحسن (ع) كان هو الآخر ثائراً ومقاوماً وقد حمل السلاح في أول الأمر إلى أن رأى أنّ الظروف لا تساعده على الاستمرار بالثورة فصالح. فالحسن والحسين(ع)- إذن - لم يختلفا، فهما معاً قد صالحا عندما رأيا أنّ الصلح خير، وهما معاً قد جاهدا وحملا السلاح عندما اقتضى الأمر حمله.
ومن هنا فإنً نرى أن التحليل الخاطئ لمنطلقات الثورة وأهدافها هو من جملة المعوقات أمام امتدادها إلى آفاق جديدة، كما أن الخطاب المذهبي في إحيائها واستحضارها هو الآخر من جملة المعوقات وأخطرها.
إسلامية الممارسة الثورية:
والعنصر الثالث الذي تتجلى إسلامية الثورة فيه هو - كما ذكرنا في مستهل الحديث- إسلامية الممارسة الثورية، لأن الإسلامية لا تحققها الشعارات ولا المبادىء المجردة، بل لا بد من التجسيد العملي لهذه المبادىء، وهنا مقياس الإسلامية الحقة، وهنا تختبر مصداقية الشعارات، وهنا يعرف الثائر الصادق من الكاذب، وهنا سقطت وتسقط الكثير من الحركات التي تزعم الإسلامية، حيث يتحول أتباعها إلى لصوص وقطاع طرق وسفاكي دماء، إنّ أخلاقية الثائر هي البرهان العملي على صدق إسلاميته ونبل قضيته، وهنا نجد النبل في ثورة الحسين(ع) ونرى الأخلاقية بأعلى مستوياتها، فهو الذي يخرج من مكة المكرمة محوّلاً حجته إلى عمرة مفردة، لأنه لا يريد انتهاك حرمة البيت العتيق، وهو الذي لا يمنعه حصار القوم له وغدرهم به أن يدعو لهم بالهداية، وأن ينصحهم ويشفق عليهم ويحذرهم من عاقبة قتله وسفك دمه، وهو الذي لا تسجل كتب التاريخ عليه زلة في قول أو فعل، أو تصرفاً عدوانياً في كل مسيرته وإلى حين استشهاده، وهو الذي يأمر فتيانه بتقديم الماء إلى الحر بن يزيد الرياحي عندما يصل إليه في حر الظهيرة مرسلا من ابن زياد ومعه ألف فارس، فيقول(ع) لأصحابه: "اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً"(1)، بينما نجد في المعسكر المقابل - الذي يزعم أصحابه النتماء إلى الإسلام- الوحشية بأبشع صورها، والخسة بأجلى مظاهرها، والعدوانية بأقسى تعبيراتها، وما قتل الأطفال، والتنكيل بالأجساد، والتعرض بالأذى للنساء، ومنع الماء عن غير المقاتلين رغم العطش الشديد إلا بعض النماذج الصارخة على تلك الوحشية والممارسة اللاأخلاقية التي لا تزال تشكل لعنة على أصحابها إلى يومنا هذا. يذكر المؤرخون أن عبيد الله بن زياد يرسل إلى الحر الرياحي رسالة يقول له فيها: "أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء"! (1).
كيف نترجم إسلامية الثورة؟
إنّ تأكيدنا على إسلامية الثورة الحسينية وقرآنية شعارتها وإنسانية أهدافها يعني:
أولاً: ضرورة إخراجها من الدائرة المذهبية ومن دائرة التحليلات الخاطئة التي تحبسها في نطاق ضيق أو تدخلها في إطار من الغيبية.
ثانياً: اتخاذها نموذجاً يحتذى، ومثالاً أعلى يستلهم ويقتدى، ومدرسة تتربى عليها الأجيال، وهذا ما يدفعنا إلى دعوة كل المسلمين والأحرار في العالم إلى الإفادة من معين هذه الثورة، لأن الحسين (ع) ملك الجميع، ومن يبتعد عن الحسين (ع) فهو الخاسر لأنّه يحرم نفسه من النور الضياء، ومن استلهام دروس العزة والكرامة والإباء.
وثالثاً: ضرورة أن نترجم إسلامية الثورة وقرآنية شعاراتها وإنسانية طروحاتها في أساليب استحضار الثورة، ووسائل إحيائها، لتكون أساليب الإحياء إسلامية وإنسانية، وليست أساليب ملتبسة أو متخلفة أو مبعث اشمئزاز ونفور.
5- مفهوم النصر
يصف بعض الباحثين ثورة الإمام الحسين (ع) بأنّها مأساة إنسانية مروعة، ويرى آخرون أنّها أشبه بعملية انتحارية لم تبلغ أهدافها، بل أسفرت عن نتائج مأساوية مؤلمة لا تزال علامة فارقة في جبين الإنسانية ولطخة عارٍ في تاريخها.
بيد أنّ هذا التحليل يبدو سطحياً وساذجاً وهو مبتنٍ على رؤية قاصرة لأهداف الثورة ومقاصدها ونتائجها، ويؤسفني أنّ بعض علماء المسلمين لم يوفقوا لإدراك أبعاد تلك الثورة وبليغ دروسها وعظيم عطاءاتها وكانوا أقصر نظراً من الزعيم الهندي الشهير غاندي القائل: "تعلَّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر". ويظهر للمتأمِّل أنّ أساس الاشتباه لدى هؤلاء هو في نظرتهم الخاطئة لمفهومَي النصر والهزيمة، هذه النظرة الضيقة التي تحدِّد مفهوم النصر بمقدار النجاح العسكري فحسب، الأمر الذي لم يتحقَّق في نهضة الحسين (ع) ما يجعل منها حركة فاشلة وِفق المقياس المذكور، لكنّ النظرة المذكورة لمفهوم النصر غير دقيقة، بل هي مُجتزئة ومشوّهة ولا تلامس الحقيقة، فالحقيقة التي يدركها البصير والمتابع لحركة النهضة الحسينية وتداعياتها ونتائجها على الواقع الإسلامي ماضياً وحاضراً هي أنَّ دماء الحسين (ع) ساهمت في تغيير مجرى التاريخ الإسلامي، وأيقظت الضمائر الميّتة وخلقت حركة وعي في الأُمّة الإسلامية كان من نتائجها حركات التمرُّد وثورات الغضب والانتقام التي تلاحقت وتتالت (حركة المختار الثقفي، حركة التّوابين وغيرها من الثورات)، ما أدّى إلى سقوط حكم بني أُميّة وانهيار سلطانهم، هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الإمام الحسين (ع) أصبح مثلاً أعلى لكلّ الثّوار والمناضلين من أجل التحرّر والانعتاق من نير الظالمين والمستبدّين، وعندما يغدو المرء مُلهماً للثوار فهذا دليل انتصار لا هزيمة، وعندما تُزلزل دماؤه الزكيّة عروش الظالمين فهذا دليل نصر مؤزر لا مأساة مروعة.
وهكذا نستطيع القول: عن نهضة الحسين (ع) أنّها صحّحت مفهوم النصر ذاته، وبرهنت على شموليته وسعته، ليصبح أبعد مدى من مجرّد النجاح العسكري وأعمق غوراً من مجرّد الفوز الآني المؤقت، وقد أثبتت الأيام خطأ كلّ أولئك الأشخاص المخلصين أو غير المخلصين الذين حاولوا ثني الإمام الحسين (ع) عن عزمه وتقديم "النصائح" إليه بترك التوجّه إلى الكوفة(1)، بحجّة أنّ أهلها لا يمكن الوثوق بهم، وكذلك دعوتهم له إلى ترك الثورة والخروج على حُكم يزيد لأنّ فُرص نجاحها ضئيلة، فإنّ نظرة هؤلاء "المُشفقين" إلى الأمور كانت قاصرة وخاطئة وسطحية، بينما كان الحسين (ع) ينظر عبر منظار التاريخ ويستشرف المستقبل البعيد، فيرى أنَّ دمه الزاكي سيتحوّل إلى نار تحرق كلّ الظالمين، ويرى قوافل الأحرار تهتف باسمه وتسير على نهجه وتتّخذه مثلاً أعلى وقدوة في الجهاد التحرّر.
انتصار القِيَم والأخلاق
نعم إنَّ الحسين (ع) انتصر؛ لأنّه انسجم مع ذاته ومبادئه، ولم يتنازل عن قِيَمه وأخلاقه، ولم يتقاعس عن القيام بواجبه، ولم يرضَ لنفسه حياة الذلِّ والهوان، وقد قالها عليه السلام: "موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ". وأنشأ يقول:
الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخولِ النار(1)
إنّ الحسين (ع) انتصر بانتصار المبادئ الإسلامية، وبقاء شعلة الدين حيّة، وسنّة النبيّ (ص) وتعاليمه حاضرة وفاعلة، وقد أشار إلى هذا المعنى إمامنا زين العابدين (ع) عندما ورد المدينة المنورة بعد أحداث كربلاء، فقد استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال له: يا عليّ بن الحسين، مَن غلب؟ وهو مغطّى رأسه، وهو في المحمل، قال: فقال له عليّ بن الحسين: "إذا أردت أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة فأذَّن، ثم أقم" (2).
وهذا هو الذي جعل الإمام الحسين (ع) يُطلق على نهضته صفة الفتح؛ لأنّ النهضة التي تحمل هذه المعاني وتهدف إلى تجديد حيويّة الدين وفاعليته في النفوس، وتفضح كلّ أشكال الزيف والتضليل، وتزلزل عروش الظالمين، وتغدو مثلاً أعلى لكلّ الثوّار والأحرار تشكِّل فتحاً مبيناً، قال (ع): فيما روي عنه من كتابه إلى أخيه محمد بن الحنفية وقد كتبه إليه وهو في مكّة: "بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى محمد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم، أمّا بعد... فإنّ مَن لحق بي استشهد ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام"(3).
لقد رأينا الحسين (ع) يوم عاشوراء رغم الجراح والآلام والتعب والنصب والجوع والعطش يعيش حالة من الفرح الروحي لا نظير لها، يسقط أمامه الشهيد تلو الشهيد من أنصاره وإخوانه وأبنائه فلا يزيده ذلك إلاّ إصراراً وعزيمة وإيماناً ويقيناً، وكلّما اشتدّت عليه الخطوب ونالت منه الرماح والسيوف وأطبقت عليه الرجال والخيول كان يزداد توهُّجاً وإشراقاً ويتلألأ وجهه نوراً، كما وضعه بعض خصومه" (1).
وهكذا نجد أنّ الفرح الروحي ينسحب على كلّ أصحاب الحسين (ع) الذين استقبلوا الموت بصدور عاريّة ونفوس مطمئنّة وكانوا يترنّمون بأراجيز وأشعار تعبّر عن روح عالية ورباطة جأش وإخلاص وشهامة قلّ نظيرها.
وإنّ مشهد زينب (ع) بعد مصرع الإمام الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته وهي تشقّ صفوف الجيش الأموي المُحتشد والذي كان يترقّب منها البكاء والعويل، وإذا بها تُفاجِئ الجموع عندما تضع يدها تحت جسده الطاهر وهو جثّة بغير رأس ثم تقول فيما نُسب إليها: "اللهّم تقبّل منّا هذا القليل من القربان"(2)، إنّ هذا المشهد الملحمي البطولي خير دليل على أنَّ زينب هي المنتصرة على عمر بن سعد وجيشه، وأنّ الحسين (ع) هو المنتصر على يزيد وأزلامه، فالنصر يخرج من رحم المعاناة والجِراح، والهزيمة هي انهِزام الذات وانحِدار القِيَم.
الهزيمة المعنوية لجيش عمر بن سعد
ولو انتقلنا إلى الضفة الأخرى إلى معسكر عمر بن سعد وجيشه وتساءلنا أي نصر حقّقه هؤلاء؟ وهم قد استعملوا كلّ الأدوات والأسلحة المحرّمة واللاأخلاقية في حربهم مع الحسين (ع) من الشتائم والسباب وحبس الماء عن الرُّضع والنساء وسبي بنات رسول الله (ص) وضربهنّ بالسياط إلى قطع رؤوس الشهداء والتمثيل بالأجساد!
أيّ نصر حقَّقوه؟ وهم لم يغمض لهم جفن بعد ليلة الحادي عشر من المحرّم، وإنّما عاشوا – كما يظهر من سيرتهم – حصاراً اجتماعياً وهزيمة نفسيّة وعذاباً روحياً ومعنوياً أمام محكمة الضمير التي لاحقتهم وأدانتهم، قبل أن تلاحقهم سيوف الثوّار والطالبين بثأر الحسين (ع) وتستأصلهم عن آخرهم، ثم أُحيلوا بعد ذلك على محكمة التاريخ التي أدانتهم وجرّمتهم أيضاً ووضعتهم في سجلّاتها وصفحاتها السوداء القاتمة، وسوف يُحالون آجلاً على محكمة العدل الإلهي ليقفوا بين يديّ عزيزٍ مُقتدر ويُجازيهم على ما اقترفت أيديهم وسوَّلت لهم أنفسهم.
6-مفهوم الإرجاء وتخريب الدين
والمفهوم الآخر المشوّه والمصطنع الذي صاغته يد الأهواء مع محاولة إضفاء لبوس إسلامي عليه، هو مفهوم الإرجاء الذي ظهر في أكثر من مرحلة وبأكثر من صورة، فما المراد بهذا المفهوم؟ وما هي مخاطره ؟ وما هي الجهة التي وقفت وراء ترويجه؟
مفهوم الإرجاء
الإرجاء لغةً بمعنى التأخير، يقال: أرجأ الأمر: أخّره، قال تعالى: {أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36]، وقال سبحانه: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} [الأحزاب:51]، وفي آية ثالثة قال تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:106] وأمّا اصطلاحاً: فهو يرمز إلى فرقة إسلامية عرفت بالمرجئة، ويبدو أنَّ اللفظ مرّ بعدّة مراحل وأُطلق على أكثر من جماعة قبل أن يستقرّ في نهاية المطاف على معنى محدَّد، ففي حين أُطلق في بداية الأمر على الذين توقّفوا بشأن بعض الرموز مرجئين أمرهم إلى الله، ونسب ذلك إلى الحسن بن محمد بن الحنفية حتى قيل: إنّه أول مَن قال بالإرجاء، وقيل عن هؤلاء المرجئة: إنّهم غالوا في الشيخين أبي بكر وعمر، وتوقّفوا في الصهرين عليّ (ع) وعثمان، وفي مرحلة لاحقة استقرَّ إطلاق اللفظ على جماعة شكّلت تيّاراً واسعاً نسبيّاً وتميَّزت بالاعتقاد القائل: إنَّ الإيمان فعل القلب واللسان ولا علاقة له بالعمل، فهم قدّموا الإذعان القلبي وأخَّروا العمل وأرجأوه، على هذا، فالمرجئة على النقيض من الخوارج ومن جمهور الأُمّة الإسلامية، فهم لم يحكموا بكفر مرتكب الكبيرة، كما يرى الخوارج، ولا بفسقه، كما يرى جمهور الأُمّة، بل حكموا بإيمانه مرجئين أمره إلى الله.
الإرجاء دين الملوك
تشير الدلائل والشواهد التاريخية إلى دور السلطة السياسية في صناعة و"فبركة" هذا المفهوم، وعلى الأقل تأييده والترويج له، باعتراف الخليفة العباسي المأمون، فقد سأل المأمون النضر بن شميل: "أتدري ما الإرجاء؟ فأجابه النضر: دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقص من دينهم، قال: صدقت"(1)، وينقل ابن أبي الحديد المعتزلي عن شيخه وأستاذه أنّ "أول مَن قال بالإرجاء المحض معاوية وعمرو بن العاص، كانا يزعمان أنّه لا يضر مع الإيمان معصية، ولذلك قال معاوية لمن قال له: حاربت مَن تعلم وارتكبت ما تعلم، قال: وثقت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53](2)، ولمّا أنكرت السيدة عائشة على معاوية قتله حجر بن عدي أجابها بما يوافق عقيدة الإرجاء، قائلاً "دعيني وحجراً حتى نلتقي عند ربّنا عزّ وجلّ"(3).
الإرجاء وتخريب الدين
إنَّ خطورة هذه العقيدة أنّها تبرّر للحاكم استئثاره واستبداده بالسلطة وممارساته القمعية بحقّ معارضيه، كما تبرّر له انحرافه على مستوى سلوكه الشخصي وتجاوزه حدوده الله، فالعذر عنده جاهز وهو أنَّ العصيان لا ينافي الإيمان وأنّ الأمر بيد الله، ويظهر من بعض الروايات أنَّ تيار الإرجاء أخطر من تيار الجبر؛ لأنّ المرجئة لا يكتفون برفع المسؤولية عن الظلمة المستبدين كما يفعل القدرية أو المجبرة، بل يقدّمون لهم الأعذار على جرائمهم ويحكمون بإيمانهم، قال الإمام الصادق (ع) فيما روي عنه بشأن المرجئة: "إنَّ هؤلاء يقولون إن قتلتنا مؤمنون، فدماؤنا متلطِّخة بثيابهم إلى يوم القيامة" (4).
هذا فيما يرتبط باستغلال هذه العقيدة من قبل السلطان، وأمّا مخاطرها على المستوى الإسلامي العام فليست أقلّ شأناً؛ لأنّها تساعد على التحلُّل الخلقي والتحرُّر من الضوابط الشرعية، وهذا في الحقيقة يمثِّل تخريباً للدين وتجاوزاً للقيم وإشاعة للفاحشة، لذا لم يتوان أئمّة أهل البيت (ع) عن مجابهة تيار الإرجاء وبيان مخاطره على عامّة المسلمين وعنصر الشباب تحديداً، على اعتبار أنّه يقدّم لهم غطاءً لجنوحهم الغرائزي وانسياقهم وراء الشهوات والملذّات، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "بادروا أولادكم الحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة" (1).
الإرجاء في ثوبه الجديد
في الآونة الأخيرة اتّخذ الإرجاء طابعاً جديداً مفاده: أنَّ الإيمان في القلب لا في المظاهر أو الطقوس العباديّة والمراسم الدينية، فالمهم أن يُطَهِّر المرء قلبه من الغلّ والدنس، ويلتزم القوانين العامة ويحافظ على النظام ولا يعتدي على الآخرين أو ينتقص من حقوقهم، وهذا المنطق رغم أنّه يبدو جميلاً وبرّاقاً لكنه لا يعكس الحقيقة كاملة، بل يُخفي في ثناياه محاولةً للتفلُّت من الشريعة وفرائضها العبادية مع الاستهانة بالمحرّمات والواجبات، إنَّ الإسلام لا يُغفل إطلاقاً دور القلب ومحوريّته في فعل الإيمان، كما لا يُغفل التأكيد على دور العمل الصالح وحفظ النظام في حركية الإيمان، ولذا جاء الإيمان مقروناً بالعمل الصالح في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، لكنه في الوقت عينه يرى أنّ الانفتاح على الله واللجوء إليه والالتزام بشريعته وحلاله وحرامه جزء لا يتجزأ من مفهوم الإيمان، وله دوره الكبير في تعزيز روح المسؤولية الإنسانية والالتزام بالقوانين العامة واحترام الآخرين، وقد ورد في الحديث: "الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان" (2).
"الإرجاء الشيعي"
والمفارقة العجيبة أنّه وفي الوقت الذي نلاحظ أنّ الأئمة من أهل البيت (ع) قد حاربوا الإرجاء وحذّروا من مخاطره، مؤكِّدين على أهمية العمل ومحوريّته في الإيمان، وإذا بهذا المفهوم يقتحم ساحة الجماعة الموالية لأهل البيت (ع) ويظهر في أوساطها، ليصبح الأئمة (ع) عنوان الإرجاء وبابه الواسع بعد أنْ كانوا عنوان محاربته وأشدّ الناس في مواجهته. أجل لقد شاعت في بعض الأوساط فكرة مشوّهة مفادها: أنَّ الشيعة بأجمعهم ناجون يوم القيامة، المؤمن منهم والفاسق، المطيع والعاصي، فليس شرطاً لدخول الشيعي الجنّة أن يعمل الصالحات ويترك المحرَّمات، بل يكفيه أن يذرف دمعةً على الإمام الحسين (ع) وينبض قلبه بمحبّته ومحبة أهل بيته (ع)، وقد عبّر بعض الشعراء(1) عن هذا المعنى في قوله:
سوَّدت صحيفة أعمالي ووكلتُ الأمر إلى حيدرِ
إنّ هذا المفهوم مخالف للعقل والنقل، أمّا العقل فباعتبار أنّ مقتضى العدل الإلهي أنْ لا يتساوى المُحسِن والمُسيء في جنس الجزاء ثواباً أو عقاباً، كما أنّ حكمته تعالى تأبى أن يسمح بتجاوز شريعته، والمفهوم الآنف يوازي إسقاط الشريعة ويجرّئ الناس على فعل المعاصي وترك الواجبات، وأمّا النقل فيكفيك قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً*وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:123-124].
على أنّ الأئمّة (ع) قد واجهوا هذا النمط من الإرجاء كما واجهوا الإرجاء المعروف، ففي الحديث عن جابر عن الإمام الباقر (ع) قال: "قال لي: يا جابر أيكتفي مَن ينتحل التشيُّع أن يقول بحبّنا أهل البيت! فوالله ما شيعتنا إلّا مَنِ اتّقى الله وأطاعه وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المَسْكَنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا مِن خير، وكانوا أُمَناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أُحبُّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعالاً؟! فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله (ص) فرسول الله (ص) خيرٌ من عليّ (ع) ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد حجّة، مَن كان مطيعاً لله فهو لنا وليّ، ومَن لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع" (1).
هذا منطق أهل البيت (ع) المتناغم مع كتاب الله، وهو يؤكّد على أنّ الإيمان لا ينفك عن العمل وليس هو مجرّد نبضة قلب أو دمعة عين تذرف على مصاب الحسين (ع)، وليت شعري ألم تكن قلوب بعض الذين خذلوا الإمام الحسين (ع) تنبض بمحبّته وعيونهم تذرف الدمع على مصابه فهل يدخل هؤلاء الجنّة برفقة العباس وعليّ الأكبر والحرّ الرياحيّ...؟!
إنّ الثورة الحسينية بدروسها العمليّة ونصوصها المختلفة عندما أكّدت على أنّ القيمة هي للبذل والتضحية وأدانت سكوت(2) الرأي العام الإسلامي، مع أنّ معظم هذا الرأي هو من أصحاب النوايا الطيّبة إنّها بذلك تكون قد فضحت مفهوم الإرجاء وزيّفته، بل إنّنا لا نبالغ بالقول: إنّ هذا المفهوم وغيره من المفاهيم التي ساهمت في تحييد الأُمّة وتخديرها قد ساهمت في سفك دم الإمام الحسين (ع) والنخبة الطيّبة من أصحابه وأهل بيته.
إنّ الفكرة الإرجائية التي تقصر العلاقة بعليّ (ع) والأئمّة من أهل بيته (ع) على الجانب العاطفي هي فكرة مشوّهة وليست من الإسلام في شيء؛ لأنّ المحبّة إن لم يُصدِّقها العمل كانت محبّة كاذبة ومخادعة، وهذا المعنى أكّدت عليه الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمّة (ع) في بيان صفات الشيعة، كما في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "والله ما شيعة عليّ إلّا من عفّ بطنه وفرجه وعمل لخالِقه ورجا ثوابه وخاف عقابه"(3) إلى غير ذلك من الروايات.
وفي ضوء ذلك فإنَّ ما ورد في بعض الروايات المنسوبة إلى رسول الله (ص) بأنّ حبّ عليٍّ حسنةٌ لا تضرُّ معها سيّئة، لا بدّ لنا من تسجيل علامة استفهام إزاءها، فإمّا أن تُرفَض بمعارضتها للقرآن والسنّة الصحيحة ولأنَّ الوعد الحتمي بالمغفرة على مجرّد المحبّة يتنافى وتشريع الأحكام، وإمّا أن تُأوّل بما لا ينافي ما تقدّم، كأن تفسَّر بأنّ من يحبّ عليّاً (ع) لا يرتكب أو لا ينبغي له أن يرتكب المعاصي؛ لأنّ المحبّ يسير على هدي حبيبه ويقتدي بسيرته وأخلاقه، وأمّا ادّعاء المحبّة ومن ثمّ ارتكاب المحرّمات فهو دليل على أنّ المحبّة كاذبة، وإلاّ فهل يُعقل أن يكون العاصي المجرم القاتل صادقاً في حبِّ عليّ (ع)؟!
(1) حديث الثقلين هو الذي رواه الفريقان عنه (ص) وأنه قال: "إنّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلُّوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما" (سنن الترمذي، ج5، ص329، وراجع من المصادر الشيعيّة: كتاب الكافي ج2، ص415).
(2) حديث السفينة رواه الفريقان أيضاً، ونصّه كما في المعجم الأوسط للطبراني، ج5، ص306: "أهل بيتي فيكم كسفينة نوح (ع) في قومه من دخلها نجى ومَن تخلَّف عنها هَلَكْ".
(1) بحار الأنوار، ج44، ص329.
(1) صحيح ابن خزيمة، ج2، ص329.
(1) راجع بشأن ذلك الكتاب: أضواء على السنّة المحمدية، ص147 وما بعدها.
(1) راجع حول التفضيل في العطاء بين العرب والموالي: شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي، ج8، ص111، والغارات، ج2، ص499.
(2) العمدة لابن البطريق، ص471. والخول: العبيد والخدم، والدخل: العيب والغشّ، بمعنى أنّهم يُدخِلون في الدين ما ليس منه.
(1) بحار الأنوار، ج45، ص51.
(1) الكافي، ج2، ص333.
(1) راجع الإمامة والسياسة، ج1، ص195.
(2) أنساب الأشراف، ص 399.
(3) الإرشاد للمفيد، ج1، ص310، وشرح النهج، ابن أبي الحديد، ج4، ص73.
(1) أنظر: أنساب الأشراف، نقلاً عن حياة الإمام للقرشي، ج2، ص1249.
(1) أعيان الشيعة، ج4، ص49، حياة الإمام الحسين (ع) للقرشي، ج2، ص 123.
(1) بحار الأنوار، ج74، ص162.
(1) راجع كنز العمال، ج6، ص4، فقد رواه من مصادر عديدة وبزيادات مختلفة، وراجع الأمالي للطوسي، ص634.
(2) راجع كشف الخفاء للعجلوني، ج1، ص213.
(3) م. ن، ج1، ص456.
(4) صحيح مسلم، ج6، ص20.
(1) سبل السلام للكحلاني، ج3، ص258.
(2) صحيح مسلم، ج3، ص1478.
(3) سنن أبي داوود، ج2، ص325.
(1) الكافي، ج1، ص407.
(2) المحكم والمتشابه، ص71.
(3) مقاتل الطالبيين، ص47.
(4) الإرشاد، ج2، ص39.
(5) الملهوف، ص98.
(1) م. ن، ص99.
(2) بحار الأنوار، ج44، ص382.
(3) نهج البلاغة، ج1، ص124.
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي، ج17، ص144.
(1) نهج البلاغة، ج2، ص202.
(1) نهج البلاغة، ج4، ص63.
(2) الأمالي للصدوق، ص150، الاحتجاج، ج1، ص97، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص323.
(1) أعلام الدين 341.
(2) كنز العمال، ج3، ص372.
(3) مستدرك الوسائل، ج11، ص393.
(4) راجع: مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي، ص720 و722.
(5) نهج البلاغة، ج4، ص40.
(1) مفردات الراغب، مادة قضى.
(2) م، ن: مادة قدر.
(3) الكافي، ج1، ص158.
(1) نقله الشيخ السبحاني في كتابه "محاضرات في الإلهيات"، ص282 عن كتاب الصراط المستقيم.
(2) الإمامة والسياسة، ج1، ص 161.
(3) إعلام الورى للطبرسي، ج1، ص474.
(1) الملهوف على قتلى الطفوف، ص201.
(2) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، ج63، ص386، وغيره من المصادر.
(1) الإرشاد، ج1، ص225، والكافي، ج1، ص155.
(2) الملهوف، ص202، وترجمة الإمام الحسين من طبقات ابن سعد 79.
(1) اختيار معرفة الرجال، للشيخ الطوسي، ج1، ص257، بحار الأنوار، ج44، ص212.
(2) راجع البداية والنهاية، ج8، ص175.
(3) كلمات الإمام الحسين (ع)، 3039.
(4) مثير الأحزان لابن نما الحلي، ص24.
(5) بحار الأنوار، ج33، ص81.
(1) كنز العمال، ج1، ص207.
(2) م. ن.
(3) صحيح مسلم، ج6، ص23.
(1) الكافي، ج5، ص60، مسند أحمد، ج3، ص19.
(1) بحار الأنوار، ج44، ص212.
(2) البداية والنهاية، ج8، ص177.
(1) مناقب آل أبي طالب ج3، ص163.
(1) مناقب آل أبي طالب ج1، ص267.
(2) مسند أحمد ج3، ص14،26.
(3) كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (ت:134 هــ) ج5، ص21.
(2) تاريخ الطبري ج4 ص302.
(1) نهج البلاغة ج2 ص13.
(2) اللهوف على قتلى الطفوف ص17
(1) تاريخ الطبري ج4 ص302 والإرشاد للمفيد ج2 ص78.
(1) تاريخ الطبري ج4 ص308، والإرشاد للمفيد ج2 ص83.
(1) من هولاء: محمد بن الحنفية حيث قال للإمام (ع) في الليلة التي أراد (ع) الخروج في صبيحتها عن مكة: "يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك وقد خفت أن يكون حالك كحال مَن مضى، فإن رأيت أن تقيم، فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه" (اللهوف).
(1) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، ج3، ص224، وراجع بحار الأنوار، ج44، ص192.
(2) أمالي الشيخ الطوسي: 677.
(3) كامل الزيارات: 157، دلائل الإمامة 188 وغيرها من المصادر.
(1) بحار الأنوار، ج45، ص50.
(2) هذا الدعاء المنسوب إلى السيد زينب (ع) لم نعثر عليه في المصادر التاريخية أو غيرها ممّا تعرّض لأحداث كربلاء، وإنّما ذكره الشيخ محمد مهدي الحائري في كتابه شجرة طوبى، ج2، ص293، وكذلك العلامة النقدي في كتابه "زينب الكبرى"، ص75، والشيخ القرشي في كتابه "حياة الإمام الحسين" (ع)، ج2، ص301.
(1) البداية والنهاية لابن كثير، ج10، ص303، تاريخ مدينة دشق لابن عساكر، ج33، ص301.
(2) شرح نهج البلاغة، ج6، ص325.
(3) البداية والنهاية، ج6، ص235، المعجم الكبير للطبراني، ج19، ص320.
(4) الكافي، ج2، ص409.
(1) الكافي، ج6، ص47.
(2) دعائم الإسلام، ج1، ص3.
(1) وهو الشاعر السيّد رضا الهندي في قصيدته المعروفة بالكوثرية.
(1) الكافي، ج2، ص75.
(2) نلاحظ ذلك في خطابات السيدة زينب (ع) في كلّ من الكوفة والشام، وكذلك في مواقف وكلمات الإمام زين العابدين (ع) وكذلك في نصوص الزيارات التي تساوي بين المشاركين في القتل والساكتين عليه في اللعن والطرد من رحمة الله.
(3) صفات الشيعة للصدوق، ص7.